سيدة الوركاء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
Babylonische Mona Lisa
حازم كمال الدين، تانيا بوبه، كارل ريدرز
سيدة الوركاء هي من أقدم التصويرات الفنية لوجه الإنسان، يعود تاريخها إلى 3500 سنة قبل الميلاد. اسمها في الغرب: الموناليزا السومرية
شخصيات المسرحية
صحافي
جندي أميركي
مدير المتحف
مذيعة
صحافية
حارس
نوال
سيدة الوركاء
جلجامش
أنكيدو
ممثلة وموسيقي يلعبان كل الأدوار
افتتاح أول
نثار مقابلات تلفزيونية
(نحيب متقطع. تعليقات ولقاءات تلفزيونية)
الممثلة تلعب كل الأدوار
صحافي:
الجيش الأميركي الآن متواجد في المتحف الوطني العراقي، بشكل مباشر ومكثف ومشدد. ولكن.. لقد اختفى اللصوص وبحوزتهم كنوز تعود لآلاف السنين.
جندي أميركي:
نعم... عندما أسقطنا بغداد، أعني عندما فتحنا بغداد، أعني عندما تغلغلنا في المدينة، أعني عندما حررنا بغداد.. اعترضتنا صواريخ انطلقت من المتحف.. لهذا لم ندخل.. أتفهم؟
صحافي:
هل كان المتحف مسجل عند دخولكم على أنه موقع يستدعي الحماية؟
جندي أميركي:
لا.. أعني.. لقد كنا.. كنا نحارب. كنا نحارب دفاعا عن النفس... أتفهم!.. عندما تدافع عن نفسك ليس لديك وقت للتفكير الطويل.. عليك أن ترد على مراكز انطلاق النيران فقط.. وعندما نهبوا ودمروا المتحف كنا ما نزال نحارب.
(لقاء مع مدير المتحف)
مدير المتحف:
لقد سرقوا سيدة الوركاء. لقد سرقوا حتى القاعدة..
الصحافي:
سرقوا ماذا؟
مدير المتحف:
سيدة الوركاء.
الصحافي:
سيدة ال.. ال.. ال.. هل بامكانك أن تتهجّى الاسم لو سمحت؟
مدير المتحف:
سيدة.. ال.. ور.. كاء
الصحافي:
ال.. ور.. ور؟
مدير المتحف:
واو.. راء.
الصحافي:
عفوا؟
مدير المتحف:
واو.. راء.
الصحافي:
كاف.. أليف!
مدير المتحف:
كاف.. أليف!
الصحافي:
كاف.. أليف! ومن هو هذا أو هذه ال.. ال.. الور.. ور.. ور؟
مدير المتحف:
إنها تمثال آلهة من عصر سومر! هذه القطعة المصنوعة من الرخام تمثّل أحد الإبداعات الفنية المبكرة للتعبير عن الوجه البشري ويعود تاريخها إلى حوالي 3500 عام قبل الميلاد. إنها رأس امرأة بلا جسد.
الصحافي:
وما هي أهمية هذه التمثال؟ هل يمكن لك أن تعيد؟
مدير المتحف:
إن اسم هذه السيدة المفقودة هو الموناليزا السومرية!
الصحافي:
الموناليزا!! الموناليزا السو.. سو.. هل يمكنك أن تعيد لي الاسم؟
(صحافية مع مختصة بالآثار في استوديوهات التلفزيون الهولندي)
المذيعة:
ما هو شعورك عندما رأيت المتحف؟
الصحافية:
أصابتني صدمة!! لم أصدق ما رأت عيني، لكني مع ذلك.. مع ذلك.. كنت أقول بأن ال.. ال..
المذيعة:
نعم! نعم.
الصحافية:
لقد أصابني الرعب الحقيقي في اليوم التالي! عندما... عندما..
المذيعة:
نعم؟
الصحافية:
لقد أصابني الرعب الحقيقي عندما عرفت أن اللصوص أفرغوا الأقبية السرية حيث تقبع النسخ الأصلية.
(أحد حراس الأقبية)
الصحافي:
هل كانت القطع المسروقة قطعا أصلية؟
الحارس:
بعضها! البعض الآخر سرقوه من الأقبية السرية؟
الصحافي:
ولماذا لم تمنعوا اللصوص كحرس؟
الحارس:
انتهت دوريتي عصر اليوم الذي سقطت فيه بغداد. عندما عدت إلى المتحف بعد يومين عرفت أن المسئولين في المتحف لم يسلموا السلاح إلى الدورية اللاحقة!
(نوال أمين مساعدة مديرة المتحف. صحافي يلاحقها في المتحف)
صحافي أجنبي:
ماهو شعورك وأنت ترين هذا الركام على الأرض؟
نوال:
تسألني عن شعوري؟!!!! أشعر وكأنني فقدت أهلي.. لماذا؟ لماذا؟ لييييش؟!!
(تبكي)
أين سيدة الوركاء؟ سرقوها؟ لا؟ عزه!!!
(تلطم. تتجه إلى طابق آخر. ترى لصوصا)
نوال:
اطلع. اطلع برّه!!
اللعنة على ذلك الذي جوّعكم وجعل منكم عبيدا ولصوصا!
رحلة العالم السفلي
(تتحول الممثلة إلى تمثال في المتحف: سيدة الوركاء)
تمثال من المرمر
سيدة الوركاء:
إبان مكوثي في فرن المتحف المرعب المكلّف بتنظيفي مما علق بي راحت تنتابني خيالات عن طباع التماثيل التي سأصطف بجانبها في الطابق السابع خلف الزجاج السميك. وكلما حمي وطيس النار تراقصت تلك الشخصيات أمام ناظري! الجدران الفولاذية السميكة للفرن كانت تفصلني عن العالم وتزيد في صعوبة تحديد فيما لو كانت تلك الشخصيات حقيقية أم محض خيال.
لقد كانت مهمة الصهريج إنقاذ الشيء الأخير المتبقي مني: وجهي!
يزعم الباحثون أن جسدي قد تهشّم أثناء عمليات الحفر والتنقيب ولم يتبق مني سوى الوجه. وحين وضعت في نهاية الممر يسارا وأخذت اسم "تمثال رقم 32: من أصل سومري"، أصبحت لي قيمة جديدة.
سيدة الوركاء صار اسمي!
وراح كل زائر للمتحف يقف أمام وجهي وقفة إجلال!
علما أن لا احد يعرف كم هو عمري.
اتفق الباحثون في الآثار وفي أوراق البردي وألواح الطين على أني أعود إلى الفترة السومرية. فقد عثروا على ألواح تقول أن جلجامش ملك الوركاء يتذكر أنني كنت موجودة عندما فتح عينيه على الدنيا... وعثروا على دعاء يناديني فيه بسيدة الوركاء. بيد أن الحلي والأحجار الكريمة التي عثروا عليها بجانبي لا تتطابق مع معطيات الباحثين حول فترة وجودي.
ثمة فكرة عني، فكرة تجريدية، لكنني أنا نفسي في الحقيقة لست كائنا حقيقيا. فإذا ما نظرت عند الغروب رأيت وجهي تكتسيه غضون امرأة عجوز. وإذا نظرت فجرا بدوت كوجه فتاة غاوية ذات بشرة مطرّزة بالأوشام.
أنا وهم أو شكل من أشكال الوهم. وعلى الرغم من أنني أشيع الاعتقاد أنني حيّة فأنا بكل بساطة غير موجودة.
فماذا علي أن أفعل بفمي؟
وماذا أفعل بمساءاتي؟ وبأيامي؟
ليس لدي جسد، ولا حبيب، لا بيت ولا فراش.
ومع ذلك فكل من أمنحه نفحة مني، يصبح جليلا ثريا ويأخذ بتوزيعي كما يوزع القس جسد المسيح في كنيسة.
...
أغلق عيني.
...
يمرّ الزمان بخاطري.
الشخوص نجوم لامعة في سماء ملبّدة.
...
أتذكر أن قرونا طويلة مرّت. أشعر أن جذور القصب والأشنات قد انتشلتني، رويدا رويدا، من قاع الأهوار. أشعر أن الجدائل التي حاكتها جذور القصب والأشنات حول ساقّي الحجريين قد انتشلتني. جرفتني المياه وطافت بي في أقنية مرصوفة بجذور البردي الكثيف. حفرت أنفاقا تحت الطين، كهوف تلاطمت فيها المياه بعنف. هكذا رحلت مع المياه، عقود إثر عقود، قرون تلو قرون. حتى توقف جريان المياه وغمرتني أسراب من القواقع. اصطدمت القواقع بجسدي وراحت تصارع بعضها بحثا عما يؤكل مني حتى استحالت إلى زوبعة ما تحت أرضية.
توقفت حركة الأسراب بعد التصادم والاحتكاك العنيف ببعض والانزلاق. تجمد الطين حول جسدي وصار صخرا يصعب انتزاع جسدي منه. لقد صار الطين الذي جفّ وجفّ وجفّ قبرا لجسدي.
...
شمس!
الشمس!
...
من هنا وهناك، ومن خلال شقوق صغيرة في الطين المتصلب شعرت فجأة بحرارة الشمس تضرب جلدي. ولكن قبل أن أتمتع حقا بالحرارة داهمني صخب الإشعاعات وراح يلسع شفتي. ثم سرعان ما راحت الصدوع تملأ نفسها برمال ناعمة. صار الطين المتيبس كتلة من الرمال الجافة الرقيقة، جعلتها الريح تغمرني فانفصل جسدي عني، ولم يبق لي سوى وجه غاص في أعماق الرمال.
سنين ووجهي يتقلّب في عتمة الرمل، حتى انقذف ذات يوم على صفحة الضياء.
فتحت عيني.
الضوء يعمي عيني.
هل أدفن نفسي مجددا في الرمال؟
هل أغطس رأسي في عتمة الرمال؟
...
رأيتني أنسرد في حكاية.
...
بقع صغيرة ملوّنة تظهر في سماء عيني المغلقتين. تبدو المساحات اللونية الواسعة وكأنها تنتمي لكوكب آخر. أحدق بالبقع والألوان الغريبة وهي تنطفيء تدريجيا في سماء أجفاني تاركة خلفها ضباب.
من بطن الضباب يتقدم كائن ما.
الكائن يتقدم إلي.
أنا أنظر إلى الكائن.
أمعن النظر فيه.
بدا لي وكأنه يصل إلي، أم أن ملامحه تتضح؟
تتقدم الملامح فتصير رجلا.
الرحلات!!
الزواج!
القرية الأولى
تمثال من الرخام
سيدة الوركاء:
بعد أن وضعوني خلف الفترينة الزجاجية طالعني في المجموعة المقابلة تمثاله!
إنه هو!
...
كان عمري 13 عاما عندما زوّجوني من ابن عمي شَمَشْ وكان عمره 9 سنوات. أمه ماتت وهو في المهد على أثر ولادة قيصرية. تبنّته أمي ورضع من ثديها، وصار أخا لي، أنا الوريثة الوحيدة لعرش الوركاء التي لا يحق لها أن تصبح ملكا أبدا لأن وظيفة الملك هي وظيفة الرجال فقط. ولأن النساء لا يحق لهن أن يصبحن ملوكا زوّجوني من ابن عمي شَمَشْ ليصبح ملكا حالما يبلغ سن الرشد.
جاب الآلهة السبعة الرواق خلف الفترينة الزجاجية ذهابا وإيابا وقالوا:
ـ لقد رضع الطفل من حليب أمها، فهو إذن أخيها. الطفل الذي سيولد من مثل هذا الزواج سيكون لعنة. سيقتل أباه ويتزوج من أمه.
بيد أن عمّي ذهب إلى رواق آخر وأخذنا معه. زوّجنا لبعض في السر رغم الاعتراضات. جدتي باركت الزواج وحافظت على سريته مع كبير الآلهة في المعبد. غسل كبير الآلهة يديه، تصور في لبّه صورة البدء، وأخذ قبضة من طين ورماها في أحشائي. بعد سبعة أشهر أجروا لي عملية قيصرية لانتزاع النطفة.
قالت جدّتي وهي تريد الخروج من قاعدة التمثال:
ـ لا أستطيع أن أقتل هذا الصبي!
فوضعت الطفل في مشحوف وأرسلته إلى عرض المياه.
شبّ الطفل في أحضان امرأة أخرى، في بلاد بعيدة دون أن يعرف من هو ولا من أين جاء. وحينما أصبح فتى قالوا له أن لعنة ما تلاحقه وإنه سيقتل أباه ويتزوج أمه! فقرر أن يترك أهله الذين تبنوه ويرحل.
قال له والده بالتبني:
ـ لا ترحل! نحن لسنا آباءك الأصليّين.
فتململ الفتى وأصطبغت جلدة تمثاله بحمرة آدمية:
ـ ليس شرطا أن يكون الابن قد خرج من رحم هذه المرأة ليكون ابنها. أنت أمي! لقد أنشأتني ولا أريد بك شرا!
جاب الفتى الصحارى حتى هدّه التعب. حلّ به الحزن والأسى، بكى بكاء مرا على فراق أهله وهام على وجهه في الوديان وصار يناجي نفسه. وعندما بلغ مفازات الأهوار وعام بجسده القوي في الطرقات المائية ظهر له قطيع من الخنازير الوحشية فأصابه الرعب. رفع رأسه إلى السماء وابتهل أن تحميه. ثم رفع فأسه بيد وأستل سيفه من غمده باليد الأخرى وأنقض عليهم كالسهم فقتلهم عن بكرة أبيهم.
...
حين وصل الطريق المائي المؤدي إلى أبواب الوركاء التي لم يرها في حياته طالعه موكب عائد من رحلة صيد موفقة! قتل الفتى أمير الموكب وقفز في المشحوف. مزّق قطعة خبز وضع عليها ملحا ولبنا وأكلها فلم يتمكن أتباع القتيل من صدّه. أكل الفتى ما اصطاد الأمير. وكان الأمير القتيل أباه!! جاب الفتى الأهوار المحيطة بالوركاء شهرا وشهرين وثلاثة ثم عاد إلى المياه المؤدية نحو أبواب الوركاء. عند بوابة المدينة ظهر له من بطن المياه رجالا يبعثون الرعب والهلع، رجال عقارب يحرسون البوابة بجلال مرعب ويحرسون مشارف شمس الوركاء في الشروق والغروب. لما أبصرهم امتقع وجهه هلعا ولكنه أستعاد رباطة جأشه واقترب منهم. سألوه السؤال اللغز الذي لا يعرفه إلا من تأتمنه المدينة. فأجابهم الفتى بفطنة ذكية وانفتحت له أبواب الوركاء.
ذلك هو جلجامش.
...
كان طوله أحد عشر ذراعا وعرض صدره تسعة أشبار وهيئة جسمه قوية ومخيفة كالثور الوحشي. وكان جميلا وحكيما ويبدو أكبر من عمره الحقيقي. رأيته فتولّع قلبي به، وتولّع الفتى بي وكنت أبحث بعد موت ابن عمي، زوجي السري عن بعل يتزوجني ويصبح ملكا.
حين اعترض مجمع الآلهة على الزواج قتلهم جلجامش ولم يبق إلا على ذلك الذي بارك الزواج: كبير آلهة المعبد!
قال كبير الآلهة قبل أن يبارك الزواج:
ـ اعلم أن المرأة التي تريد قد تكون أمك!
فضحك منه جلجامش وقال:
ـ ما هذا الهراء! أنا لم أر هذه المدينة في حياتي!
فتزوجني وتوّجناه ملكا على الوركاء.
...
أنجب مني أطفالا خاض بهم غمار الحروب في كل مكان. كان أعز أبناءه إلى قلبه أنكيدو. وكانت أشهر تلك الحروب هي حرب الثور السماوي.
هبط ثور السماء المقدس ليقضي على جلجامش وذريته فنشر الرعب في الوركاء. قضى في كل خوار له على مائة رجل، على مائتين، على ثلاثمائة. هاجمه أنكيدو من جهة وصدّه جلجامش من جهة أخرى. قفز أنكيدو وأمسك بقرني الثور السماوي. وبين السنام والقرنين أنفذ جلجامش سيفه فخرّ ثور السماء وهو يرشق الأب وابنه برغائه ويقذفهما بالروث.
الروث كان هو فاتحة الضحك!!
فكّر جلجامش أن الناس يجب أن تضحك!! فأوجد أصولا للضحك.
أتى بمسامير وشاكوش، فتح فم رجل ما، مطّ شفتيه حتى حدودهما القصوى. دقّ المسامير فوق الشفتين وثبّتهما بحيث لم تعودا قادرتين على الحركة. ملأ الفراغ الكبير بينهما، فراغ الفم، بالطين وترك الطين حتى يجف. لمدة أربعين يوما أمر رجال الوركاء أن يقصوا حكايات طريفة لصاحب الفم الفاغر. كل واحد يحكي حكاية ويضحك بأعلى صوته. بعد أربعين يوما أزيل الطين المتحجّر والمسامير من فمه. بعد أسبوع أتى نفس الرجال الذين قصّوا عليه الحكايات. أعادوا على مسامعه ذات الحكايات. فكان ما كان: كلما سمع الرجل حكاية خيّمت عليه ذكريات كابوس الألم الذي رزح تحته أربعين يوما! فانفرج فمه تلقائيا إلى أقصاه واتسعت شفتاه وصدرت عنه أصوات متقطعة. لقد ظن الجميع أن الرجل كان يضحك من طرافة الحكاية.
...
قبل أن يموت كبير آلهة المعبد، وإبان احتضاره قرر أن يفضح حقيقة العلاقة بيننا، فعرفت أني أم زوجي وعرف الناس أن جلجامش ابني، وإن أطفالنا ملعونين حتى يوم الدين. تحرّك تمثال جلجامش من قاعدته. هشّم زجاج الفترينة ولم يسمح لكبير الآلهة أن يموت. لقد قتله بنفسه ثم قتلني غسلا للعار. أحال الرخام الذي جبلوني منه فحما حجريا وأمر الناس باستخدامه لتدفئة بيوتهم. قتل أبناءه، أخوته، ما عدا واحد هو أنكيدو ومنع أي ذكر لي على وجه البسيطة. وعندما مات ابنه وأخوه أنكيدو توحّش الرجل في الغابات وأطلقوا عليه اسم جلجامش رجل العزلة!
الحريق!
(بعد زمن تعاود الحديث بسخرية سوداء)
القرية الثانية
تمثال من الرخام
سيدة الوركاء:
أغمض عيني
ذات حلم رأيتني أصير حكاية!
رأيتني أنسرد في حكاية. أنا حكاية منسردة. أنا غير موجودة حقيقة. أنا لست سوى حكاية!
مبحرة في مشحوف، متوغلة في أعماق المياه أرى نساء، كاهنات يتوغلن في أعماق بحر القصب. أراهن يعتلين منبرا مصنوعا من ردائي العريض. أراهن يرتّلن أدعية ويسردن واقعة بطريقة مشبوبة، هي واقعة حياتي! يجوّدن نثرا ويغنين شعرا، ولي وعني يكتبن، يمزقن أثوابا ويلطمن. بينما هنّ يغذنّ السير والتجوال بعيدا وصورة المشحوف تبتعد وتتصاغر في أعماق بحر القصب.
...
هناك رأيت ما رأيت.
...
رأيت أنني أصل قرية مشارفة لحدود صحراء الأهوار. وجدت نفسي وجها لوجه أمام تمثالي أحدق بها. رأيت الناس يستيقظون بعد ليلة طويلة من النوم العميق، فيجدون تمثالي ينتصب فوق الأرض، في وسط القرية.
ظلّ القرويون يتدفقون لكي يقدموا النذور. غنوا للصنم الذي هو أنا جماعات جماعات. ضربوا صدورهم حتى أدميت. كانت التمثالة، صورتي في الأرض، منتصبة هناك، وكأنها انبثقت من أحشاء المياه المتلاطمة. كان صنمي يلتمع. تمثال أكبر من أي تمثال شاهدته في حياتي. تمثال يشبه شمعة طويلة نحيفة منتصبة يفوق طولها كل شيء. الشمس تعكس صورتي في السماء وتنشر ظلي في الأرض. حملت الرياح وأشعة الشمس سراب تمثالي وبعثت فيه روح الحركة. نظر القرويون إلى تمثالي، إلى السراب في السماء وفوق الأرض، وكانت وجوههم مكفهرّة وأفواههم فاغرة. كان تمثالي يتمتع بأشكال تكوينية إعجازية:
(ـ آية في الجمال!)
...
كان لدى التمثال حجر لازوردي يعم الضياء الكون حالما تخرجه من خرجها.
ذات يوم ظهرت قرب مياه الأهوار، حيث امرأة غرق ابنها ولم تفلح كل الجهود في العثور عليه. صاحت المرأة على ابنها الغريق عند الغروب فلم يظهر لها من أعماق المياه! تحرّك تمثالي، ورمى حجرا في الماء فشق الغريق أعماق المياه.
وذات يوم ظهرت في ساحة القرية حيث فتاة أصابها مرض خبيث تحتضر لم يتمكن أي حكيم من معالجتها. قرأت لها أمها أدعية الثواب والوضوء والنجاة حتى مطلع الفجر. عند انسحاب خيط الظلام عن خيط الضياء حلمت الفتاة أن امرأة جاءتها. وضعت حجرا فوق صدرها ودقّت كما تدق الطبول. فزّت الفتاة من الرعب. رأت أمها ظل خيط من الدم فوق نهد الفتاة ظل ظاهرا للعيان وفي اليوم التالي شفيت من المرض.
في مرة ثالثة ظهرت عند مدخل سوق الخضار فسقط عند قدميها رجل أعمى. مرّرت التمثال الحجر على عينه فأبصر. عند منتصف النهار جلبوا لها مجنونا. ربطت الحجر اللازوردي على يده يومين، وفي اليوم الثالث أفاق وكان قد عاد إليه رشده.
...
ذهب القرويون إلى جلجامش كبير آلهة القرية وطلبوا منه أن يزودهم ببرهان على أن ذلك الصنم الذي أذهل الجميع في حجره اللازوردي إنما هو معجزة إلهية منه.
قال جلجامش:
جلجامش:
هذه هي أم الأمهات. لا أحد يعرف بالضبط متى خلقت. حتى أمي لم تعرف شيئا عن تاريخ سيدة الوركاء سوى أنها كانت موجودة قبل ولادتها. سيدة الوركاء هذه موجودة منذ الأزل وفي كل مكان. بيد أنها لا تمنح كائنا من كان شرف الظهور له. لا. سيدة الوركاء تمنح شرف الظهور فقط لمن تنتبه بصيرته لوجودها اللا مرئي. والآن.. وبما أنكم حصلتم على شرف رؤيتها عليكم أن تساعدوها في الرحيل إلى قرية أخرى.
عمّدوها بالتراب.
ضعوها في رداء عدادة.
انصبوا لها منبرا، وضعوهما في سفينة تمخر عباب الأهوار. ضعوا لها في السفينة وصيفة تطبّل وأخرى تزمّر وثالثة تغني. ودّعوها وذكّروها باليوم الذي كان. يوم كانت تحجب عينيها عصابة.
ساعدوها في الرحيل إلى قرية أخرى
ذكّروها أني طلبت منها أن تبارك حريق المدن حين أشعلت النيران في ينابيع النفط على مشارف الصحراء! ذكّروها أنها إذ حضرت وخلعت جبّتها طفرت قطرات العرق على نحرها. ذكّروها بأنها رفعت هامتها إلى السماء وهوّست:
ـ يا رب النيران! يا رب النيران!!
ساعدوها في الرحيل إلى قرية أخرى
ـ أشعلوا السهام بالنيران وطرّزوها على ظهرها. أسندوا صدر سيدة الوركاء على الحجر اللازوردي، أسندوا ساقيها على سيقان البرديّ.
ساعدوها في الرحيل إلى قرية أخرى
تذكّروا أن نصبها لا يعمّد إلا بالحريق!!
سيدة الوركاء:
التفّ الدخان عليها والتفّ تاركا في الفضاء شرنقة ضبابية. غنّت سيدة الوركاء مع الدخان، حتى هبوب الرياح. انطفأت النيران وانجلت الرؤيا. رأيت كتلة سوداء تشعّ فيها خطوط من الجمر. رأيت جلد التمثال يجفّ ويغدو بردة تدثر عظاما شعّت وانصقلت واتخذت هيئة نصب تذكاري من مرمر.
لزمت الصمت.
لزمت الصمت وحدقت بهم كيف أحرقوني. حدقت بسيدة الوركاء، كيف توهجّت تحت اللهيب ورحلت فوق سفينة في جوف القصب. ورأيت كيف انبثقت من مكان عميق في تجاويف بطنها ذبذبات تجمّعت على جدار بطنها فانبثق حجر لازوردي كبير.
رأيت التمثال ورأيت إلى نفسي. نظرت إلى نفسي وتعرفت على ذاتي في صورة التمثال وأصابني الصمت.
رجم اللوحات الممنوعة!
تمثال من فحم
سيدة الوركاء:
رأيت نفسي أنسرد في حكاية:
لم تأخذني السفينة إلى بحر أو جزيرة. لقد أوصلتني إلى معبد تحت المياه. هناك رأيت صورتي، تمثالي، صنمي يتمدد فوق الأرض. القرويون يسحلون جسدي في أروقة المعبد بينما النساء يضربن صدورهن حتى تدمى. كانوا ينادوني في ذلك المعبد الغريق ربّة بيت القصب. ربّة القدر والموت والعالم الأسفل. ابنة كبير الآلهة، اُمُّ الآلهة وربّة المصير.
إذا اندلعت حرب ما أخرجوا تمثالي النائم من المعبد واصطحبوه إلى ساحة الوغى. في أحدى المعارك خسروا جسدي، فأدركني المريدين وجعلوا لي بدل الجسد قاعدة من ذهب. أدركوني فوضعوا أمامي سبعة أحجار لازوردية مجوّفة سمّوها أقداحا، نصبوا لي فزّاعة طيور وأوصوها أن تكون سادنا وغطوا وجهي بستار شفاف. إذا اختصم رجل ما أو أراد سفرا ختانا أو زواجا أو دفن ميت جاء إلي فملأ أحجار اللازورد السبع خمرا وقضى الليل عندي. فإما أن يشرب الأقداح، أو يرجّها.
...
فتحت عيني فرأيت تشابيها. رأيت خيولا تسرج، سيوفا تحد، خوذا تصقل، رماحا وأقواسا ونشّاب. رأيت جلجامش، وكان في هيئة خال لي.
رأيته يقتل أخواني واحدا بعد الآخر في حروب عديدة ويعلّق رؤوسهم فوق الرماح. في كل حرب أدفن أخواني وأحزن عليهم ثمانين يوما وثلاث ليالي. أخي الأصغر يقتل على يد خالي الذي كاد أن يخسر النزال. خالي يرفض أن أدفن أخي. أنا أتحدى خالي وأدفنه. فرفات الموتى لا يصح أن تبقى في العراء. خالي يحفر قبر أخي ويدفنني معه حيّة في ذات القبر.
رأيت نفسي أقرر الإنتقام!!
ترددت أنباء عن طواف روحي في جوار القبر. قيل أن روحي ظلت تطوف حول القبر وترحل صوب المدينة ليلا. قيل أن الناس التقوا بروحي ما عدا جلجامش الذي قال أن البشر قد أصابهم الجنون.
ـ أنا لا أرى أي شيء.
صاح:
ـ إن ما يراه الناس وهما!! ممنوع من الآن فصاعدا ترويج الوهم!
...
ومنذ ذلك اليوم أصبح كل من يريد أن يقارعه يحمل تميمة من الفحم ويرسم بكحلها رسمة صغيرة فيها شيء من وجهي. ورغم أن خالي كان واثقا من موتي فقد أرسل ابنه أنكيدو ليقتلني مرة أخرى. بحث عني أنكيدو في كل مكان ودمّر أي شيء ظن أنه يحوي إشارة أو رمز يدل إلي. أحال المقابر إلى مزارع. لكن جلجامش ظلّ يعثر على رسمة لي كل يوم.
...
ذات صباح صرخ فجأة:
ـ ليس مهمّا أن تكون الإشاعات حقيقية أو وهما. المهم هو ما يصدقه الناس. الإيمان أقوى من الحقيقة. وسيدة الوركاء رغم أنها غير حقيقية فهي تعيش في أوهام الناس!
فقرر جلجامش أن يقتل كل من يحمل الوهم.
...
أنا وهم ممنوع!!
تمثال شجر
أرسل جلجامش ابنه أنكيدو إلى قبر سرقه الناس من قاع الأهوار وشيّدوه في جزيرة بعيدة، جزيرة الطين، وأحالوه مزارا لي. فاستحلت إلى أشجار خمس تحرس قبري! خمس شجرات متجاورة في جزيرة جرداء. موقعي غريب، وطريقة وقوفي أكثر غرابة. هكذا؛ تحس بمجرد النظر إلي أنني أجتثثت من غابة ما، أم ربما تركتني الغابة، فارتبكت وهرعت إلى بعضي، وخوفا من السقوط تشبثت بسيقاني الخمسة.
قطع أنكيدو رؤوس الأشجار الخمس!
رأسي أنا!
تمثال من جذور
بيد أني كنت قد غادرت روح الشجر وحللت في قلب جنية الجذور، جذور الأشجار المقطوعة الرؤوس. وقد اعترضت الجنية أنكيدو في المرة الثانية.
الجنية التي هي أنا!
الجنية التي أعادته أعقابه!
أرسل جلجامش ابنه أنكيدو للمرة الثالثة. لأجل أن يرجمني. فأوصاه:
جلجامش:
اصعد أولا جزيرة البعوض بعد مغيب الشمس وقدّم الدعاء. كدّس جيوش البعوض في أكياس خيش كبيرة. ثمّ عرّج يسارا على الأشنات الأرجوانية.
غنّ موّالا طويلا ثم إذهب إلى قرية الريح التي ستحملك إليها.
إذا وصلت بيت القصب، معبد سيدة الوركاء اجعل نفسك تدور حوله، لا من أجل أن تحيي صاحبة المعبد، الجنية الرهيبة سيدة الوركاء. انس كلمات العشق والحب التي بقيت كل مرة تدور في خلدك وأنت تقتلها. طهّر قلبك من كل حب. وإذ ترى سيلا بشريا دائرا بالمشاحيف حول البيت اصرخ صرخة البراءة. (ـ أنا لم أعد أحبها!). وإذا وصلت الجموع الحجر الأبيض البارز فوق الماء ولمست أحد أضلاعه فاضرب الحجر بالفأس دون هوادة.
سيدة الوركاء:
أنا ذلك الحجر الأبيض!
لقد استحلت صخرة بيضاء ثمانية جلبوني من كهوف الشمال. طول كل ضلع من أضلاعي 360 كفّا. على متني، على متن صخرتي شيّدوا بيتا مغطى بالستائر وقارنوه بالبيت المقدس، بيت القصب.
قال جلجامش:
جلجامش:
أضرب بالفأس دون هوادة. اخلع رداءك ولوّح به وارقص. ارقص وأنت عار. وعندما ترى الناس عراة يعومون حول الصخرة، يشبكون ما بين أصابعهم، صفّر معهم وصفق: (اللعنة عليك يا سيدة الوركاء اللعنة/ اللعنة لا ملعون غيرك اللعنة!). لن يكتمل الطقس قبل أن يحلق الناس رؤوسهم عند جرف الصخرة ويلقي كل واحد منهم شعر رأسه مخلوطا بالدقيق المبلل بحليب الإبل هناك.
ارم المعبد بسبع من أكياس البعوض، قبل أن تذبح الذبائح. قدّم الأضاحي غروبا وفجرا قبل أن تلج المعبد، بيت القصب. دع كل فرد من العسس يذبح ويرجم، يذبح ويرجم، يذبح ويرجم حتى غروب شمس اليوم الثالث عشر. ثم بعد ذلك ادخل المعبد وانتزع الحجر اللازوردي، قلب سيدة الوركاء، واقطع رؤوس التماثيل!
سيدة الوركاء:
في المعبد كان ثمة 360 تمثالا من الحجر. بفأسه هشّم أنكيدو رؤوس التماثيل، وكان يصرخ:
(ـ هذه هي طعنة الحقيقة!!)
...
وبعد أن مات كل شيء أصبح بيتي وجزيرة الطين أطلالا عصفت فيها الرياح وعبثت فيها الخنازير الوحشية.
لقد قتل أنكيدو سيدة الوركاء وأحرق السادن أيضا.
...
وعندما عاد إلى جلجامش، سأله الأخير:
جلجامش:
هل رأيت شيئا أثناء أو بعد الهدم؟
أنكيدو:
ماذا تعني؟
جلجامش:
شيئا ما أو روحا ما!!
سيدة الوركاء:
حدّق أنكيدو بأبيه متعجبا وقال:
أنكيدو:
لا!!
جلجامش:
يا ولدي! أنت لم تدمرها. عد إلى هناك! دمّرها!
سيدة الوركاء:
عاد أنكيدو إلى الأطلال غاضبا ومرتبكا وعندما وصل جرف الجزيرة حمل فأسه بيده. فجأة خرج رأس مقطوع من جذور الأشجار. كان الرأس منفوش الشعر، وفمه يصرخ:
(ـ يبووووو!)
ضرب أنكيدو الوجه الصارخ ضربة جدعت أنفه.
ذلك الوجه كان أنا!
تمثال من لحم
ولما وصل أنكيدو قرية الرزازة وجد جسد امرأة ميتة بلا رأس مسجاة في محراب شيخ القرية وعند رقبتها كتاب قديم. وكانت قد وضعت في المنتصف. عندما سأل أنكيدو الشيخ أيضاحا فأخبره الشيخ أنها جثة امرأة يستخدمها أهل القرية في الأوقات العصيبة:
ـ إذا هطلت الأمطار وأصابنا الغرق وهاج البعوض والقارص، نخرجها ونضعها في وسط المياه. في اليوم التالي ندخلها البيت. في اليوم الثالث يتوقف المطر عن الهبوط ويموت البعوض.
تلك الجثة كانت أنا أيضا!
...
قطع أنكيدو رأس الشيخ وحمل جثة المرأة. أجبر القرويين أن يحفروا 13 قبرا متفرقة في أشنات القصب. في عمق الليل وضعها في دوبة وذهب لوحده، حفر قبرا جديدا، القبر الرابع عشر، ودفنها فيه فلم يعرف أحد مكانها اطلاقا.
ذات يوم حلم أنكيدو أن امرأة جاءت إليه، شقّت بطنه وأكلت كبده.
تلك المرأة أنا أيضا!
تمثال من حجر
راح الناس يقدسون الحجارة والنصب المجلوبة من أطلال المعبد المهّدم من ال 360 تمثالا المصنوعة من التمر أو من الحجر أو من القصب. إذا ما رحل شخص عبر الأهوار في مهمة أو ما شابه غاص تحت الماء. بحث عن أربع حصوات وأختار أفضلها وعبدها. بعد زمن اعتاد الناس البحث عن الحجارة تحت المياه
وحين يعثر المرء على واحدة ويكاد يقطع أنها تعود في الأصل للبيت المقدس يستخدم الحجر كرمز إلى البيت المقدس. فيطوف حول الحجر، ويزيّنه ويرقص. إذا ما بحث شخص عن مكان لينام أخذ معه الحجر الذي عبد وترك الأخريات، فصارت الأخريات أحجارا من المعبد المهجور.
وعندما نهب العباد أحجار البيت المقدس احتار البشر:
ـ أين ربي؟
تساءلوا:
ـ من سأعبد بعد الآن وكيف؟
فبحث الناس عن الأحجار في الصحراء المجاورة. هناك انتشرت أخبار سيدة الوركاء. في الصحراء حملت تلك الحجارة قدسية المعبد المهدم. وهكذا حتى امتلأت الصحراء بالأحجار (الآلهة)، بالتماثيل بالأصنام.
تلك الأحجار جميعا هي أنا!
تماثيل صالحة للأكل!
القرية الرابعة
تمثال من تمر
سيدة الوركاء:
رأيت قبل 700 عام نفسي أدفن في مقبرة جماعية مع تماثيل قتلت للتو. حين أوصلونا إلى عمق 10 أمتار تحت الأرض أصبحت الدنيا باردة. تجمّد الصخر الذي صنعونا منه وأصبح من المستحيل علينا التحادث مع بعض. بعد سنين طويلة حفر فلاح عميقا في أحد البساتين التي كانت يوما ما مقبرة بحثا عن مياه جوفية، لأن الأهوار قد جفت ولم تعد تلك الأشجار الباسقة تنمو فوجدني مدفونة في الطين على عمق عشرة أمتار بدون أن يكون قد نال وجهي أدنى أذى. أخذني ومعه رهط طويل من البشر.
يقول الكابتن فانس كوهنر من القوات الأمريكية إنه تلقى معلومة قادته إلى أحد الشباب، وحين قابل الشاب قاده الأخير إلى رجل مسن، قادهم بدوره إلى الرجل الحقيقي الذي سرق سيدة الوركاء وفاوضهم لمدة أسبوع كامل قبل أن يدلّهم على مكاني.
...
وضعوني في مشحوف دفعوه نحو أعماق الطين اليابس وأبحروا به. هناك لاحت لي قرية من بعيد. رأيت طفل ركض صوبي، سألني من أنا، ومن هؤلاء تالرجال؟
ـ جئت أزور أخي! لقد مات هنا! لقد طلب مني أن أحضر!
نظر الصبي إلي واختفى بمثل لمح البصر. نظرت حولي فلم أر أحدا!!! لم أفهم من أين ظهر ذلك الطفل ولا كيف اختفى كل أولئك الرجال!
ـ هل ما تراه عيني هو قرية حقا أم سراب قرية؟
بعد ساعات من الصمت اهتزت الأرض حولي. سمعت أقداما تدك الأرض بالإيقاعات. هنا وهناك نشيج مكتوم. سمعت خطوات. سمعت غناء. طبّلت وصيفة وتأوهت وضربت وصيفة أخرى إيقاعا وتأوهت وطلبت وصيفة ثالثة من الجموع أن تدهس تلال البلح بالأقدام:
ـ اطحنوا التمر حتى يصير كالطين!
غناء! تأوه! نواح! وقع أقدام راحت تغرق في صرير الفاكهة التي لانت! أسمع عجين التمر ينفذ من خلل أصابع الأقدام. نحيب مكتوم. صرخات. لطم. يبووووو! أصوات أقدام كالرحى تصطدم بأقدام أخرى.
فجأة انكشف المشهد الصوتي عن صورة. هياكل خشبية في هيئات بشرية خرافية الحجم مسجاة على الأرض. إلى جانب الهيكل الكبير أسجيت جثة جلجامش معطّرة بعبير السمسم. هيئة جلجامش هيئة ميت وحي في ذات الوقت. على محياه ظل ابتسامة. راحت النساء يحشون الهياكل بالتمور التي بدت كالطين وهن يغنين ويندبن. نادت النسوة على الرجال لكي يوقفوا الهياكل حالما امتلأت فصارت أصناما.
ـ لقد ولدت ربّة الوركاء من التمر. لقد ولدت من التمور!
...
أفتح عيني
الناس ينظرون فاغري الأفواه. في قلوبهم أفكار غير قابلة للتحول إلى كلمات. في أفواههم كلمات تجمعت تخاف أن تنطلق من الفم. الرياح تداعب ساقي. التراب يلتف حول نفسه حتى يصير دوامة تجرني إلى الأعماق. أسمع فقاعات مائية وسط التراب تنفجر في أعماق دوامة. أرى الدوامة تأخذ شكل زهرة من الماء وتحيط بجسدي.
...
ينبثق الصمت.
وكأن الكون توقف عن الحركة.
...
تطهرت النسوة الصامتات بعبير الصمت.
...
من بعيد هبّ صوت في البرية.
وكأنه صوت قادم من السماء.
ظهرت بجانب أكبر التماثيل امرأة.
عدادة ترتدي رداء ربّة الوركاء:
ردائي!
وبينما كانت العدادة تلعب دوري رمت الرداء المقدس وبرزت عند نحرها قطرات العرق! نصّبوها ربّة كبرى على الآلهة. عبدوها ومنحوها صوتا. طلبوا منها أن تغني فغنّت. طلبوا منها أن تعمّد التماثيل ففعلت. طلبوا منها أن تحكي قصة البدء. فقصّت. وقصّت حتى توقفت عند جلجامش. نظرت إلى جلجامش المسجى كالميت الحي وصاحت:
ـ يبووووو! يا عبد التراب والظلام والضياء، إذا جاءتك سيدة الوركاء في العالم الأسفل فافعل ما تطلب منك! قل لها تفضّلي. وبعد أن تحقق مطلوبها ذكّرها باسمك ومن أنت: قل لها إنك أخوها جلجامش! قل لها إنك خنتها فستسامح! قل إنك سرقت فطورها فستسامح! قل إنك واريت حبّها الثرى فستسامح! ردد أمامها: (ـ وهبتك ما أملك!!) فان روحها، روح الغمر هي التي ستحفظ رفاتك إلى أبد الآبدين.
أزاحت العدادة من عينيها الكحل ورسمت حرف الواو بالسواد على أسفل بطنها، وراحت ترقص رقصا دورانيا وتلطم على صدرها حتى احمّرت نهداها وكادت أن تطفر من الحلمتين الدماء. هبطت العدادة إلى الأسفل واقتطعت جزء من التمثال والتهمته فتبعتها الأخريات. طقس محموم من الالتهام!
ابتلعت ريقي.
ومن شدة الخوف صدرت من إستي ضرطة!
لقد التهم النسوة تمثالي عن بكرة أبيه!
...
نعم... عندما سقطت بغداد، أعني عندما فتحنا بغداد، أعني عندما تغلغلنا في المدينة، أعني عندما حررنا بغداد.. اعترضتنا صواريخ انطلقت من المتحف.. لهذا لم ندخل.. أتفهم؟
لقد سرقوا سيدة الوركاء. لقد سرقوا حتى القاعدة..
سرقوا ماذا؟
سيدة الوركاء.
سيدة ال.. ال.. هل بامكانك أن تتهجّى الاسم؟
سيدة.. ال.. ور.. كاء
ال.. ور.. ور؟
واو.. راء.
عفوا؟
واو.. راء.
كاف.. أليف!
خاتمة النار!
سيدة الوركاء:
أغمض عيني.
بسرعة عصية على الوصف تمر بي حكايات العالم الماضي!
لقد اندلعت النيران العملاقة من ينابيع النفط. شظايا عظيمة من الإسفلت تشق عنان السماء وتسقط حمما على مشارف الصحراء. لقد استعصى إخماد النيران حتى على علماء الفلك. أما أنا فمتكئة على قصبة بردي أنظر للدخان كيف يتصاعد ويدور حولي. أنا لست سوى تمثال من فحم حجري أسود تشعّ من ثناياه خطوط من الجمر.
...
إشعاعات النيران الهائلة تعمي البصر.
انظر في إنسان عيني.
تظهر بقع صغيرة ومتوسطة وكبيرة الحجم بشتى الألوان في سماء عيني الناظرتين إلى الداخل. أحدق بتلك البقع الغريبة الألوان، حتى تذوب تماما. بقعة كبيرة من الضباب والدخان تبقى. إنها هيئة بشرية. أمعن النظر بالكائن. يمعن الكائن النظر بي. أتمعّن بالبقعة فترتدي البقعة ملامح رجل.
...
جلجامش
...
لقد حطموا تمثاله، أنزلوه من قاعدته المرمرية ومرّغوه في الوحل. سحلوه عبر المدن. دمّروا جسده، وجدعوا أنفه. من أذنه المهشّمة ظهرت بقايا أسلاك فولاذية كانت تربط الصيوان بالرأس الحجري.
...
تغيم الأشياء حولنا. نجد أنفسنا فجأة في قلب عاصفة. صمت صارخ. ننظر إلى بعضنا. تحدّق تماثيلنا ببعضها. تمثالي يسرق. تمثاله يسقط فوق الأرض. لا مجال للجدل والفضائح وما شاكل!
كل الخطايا التي تسببنا بها نتعالى عليها الآن: التمثيل بجثث التماثيل دون أن تعرف من هو الشرير ومن هو الخيّر؟ وهل ما يقوم به الإنسان يعني شيئا ما؟
البشر؟؟؟!!
من هم هؤلاء؟؟
أنا لا أؤمن بعالم أفضل. الألم الذي أرزج تحته هو شيء مستديم وقاسي. في الحقيقة كنت أود أن أواسيكم من خلال آلامي!! فأنا شكل من أشكال الألم. كل واحد منا هو قطعة من الألم!
...
ولكن حتى بعد اعترافاتي هذه ليس لدي شعور بأن ثمة تطهير ما. ليس بامكاني الحصول على ما أطوّر نفسي به وأصبح أكثر فهما لنفسي. ليس ثمة حكمة يستقيها المرء من حكاياتي. ولم يكن لدي أي سبب منطقي لكي أعترف أمامكم.
هذا الاعتراف لا يعني أي شيء!!!
...
الأمر واضح. الأمر مدبر. الهدف هو التخريب. ممنوع دخول المتحف حتى يحضر المسئولين. تسألني عن شعوري؟ وكأنني فقدت أهلي. لقد أصابني الرعب الحقيقي في اليوم التالي، عندما عرفت أن اللصوص قد أفرغوا الأقبية السرية حيث تقبع النسخ الأصلية. نعم!! نعم!!
...
لييييش؟!!
لماذا؟
لماذا؟
...
نعم! هذا هو إذن كل شيء عن المتحف الوطني العراقي!
(نحيب متقطع)
الناس؟؟
من هم هؤلاء؟؟!!