صراع بين الجسد والتاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من أمستردام صالح حسن فارس: لا أدري إن كانت محض صدفة أن أشاهد هذا العمل المسرحي بعد خمسة أيام من موت صديقي الفنان زياد حيدر. كأنما كان هذا العمل جواباً على أسئلة كثيرة يثيرها الموت عادة، لا سيما إذا كان موت شخص قريب. فهذا العمل يتخذ من الدموع موضوعاً له، من ضرورة البكاء وكذلك ضرورة أن يعبر الجسد بحرية عن وجوده، حيث تحرير الجسد يعني تحرير العاطفة، تحرير الروح بحزنها وألمها وفرحها. أغواني عنوان مسرحية ( تاريخ الدموع) أن أُشاهدها وأستحضر صديقي الراحل، جسده، روحه، ذكرياتنا ودمعي معاً، طالما أن المسرحية لمخرج مشهور وتتحدث عن الجسد والحزن الابدي، فلا بدّ لي من حضور هذا العمل.
قبل أن ندخل بناية مسرح (ميوزيك ثياتر) في أمستردام، أستقبلنا في الباب الرئيسي رجل خارج المسرح بمعزوفة حزينة على آلة ( السيلوفون). دخلنا قاعة المسرح الكبيرة جداً التي تتسع لـ 1633شخصا، وبعد أن وجدنا مقاعدنا بسهولة، تأملنا المكان والممثلين للحظات قبل بدء العرض.
مشهد الافتتاح جنائزي حزين، رقص وصراخ وضحك كالبكاء، قفز ولعب مع بكاء، مضاجعة مع بكاء، تعرٍ كامل مع البكاء، هيستريا وجنون ممزوج بالدموع.. الدموع الملونة التي تسربت الى المشاهدين لا من أجل استجداء العواطف، بل من أجل أن نشفق على تاريخ الجسد الطويل الحافل بالحزن والبكاء أو الممنوع من الحزن والبكاء.
بعد أن يهدأ البكاء من جديد، يفاجئنا صوت أوبرالي جميل وحزين للمرأة (الصخرة). التي تقف في الاعالي تشاهد، تشترك، وتشرف على الاحداث. ثم يتكرر غنائها عدة مرات ليُخفف من حدة أضطهاد الجسد وقمعه. يطل علينا رجل بمعطفه التاريخي القديم، الذي يعود الى القرون الوسطى، الذي يمثل شخصية الفارس يفاجئنا بكلمات شاعرية توازي مستوى إداء الممثلين، حيث يقول:
"أنا الفارس
فارس اليأس
مستكيناً وهائماً
أشهدُ على قوة الضعف
تائه لأني أريد اللقاء
أريدُ التحدث إلى قلوب البشر
أجل أنا أسمع القهقهات
أعرفُ أني مضحك
ليس أمام الاخرين فحسب
بل أمام نفسي أيضاً
لكني قطعتُ عهداً
سأتحدث الى الجسد
سأُعزي المهرج الذي فيّ
وأتغلب عليه
أشعر بالمستقبل
بروح قادمة من القرون الوسطى"
بعد أن رشقنا الممثل بهذه الكلمات، جاء مشهد راقص للممثلين، شخصيات نسائية ورجالية من مختلف الاعمار، رقص مجنون وطيران عنيف، شاهدنا حينها أن للجسد قدرة وقابلية هائلة للطيران، وحينها تبادر الى ذهني مشهد الرقصة التي لايمكن لي أن أنساها في فيلم ( باريس والاخرون) للمخرج كلود ليلوش. كم كانت جميلة هذه الرقصة في هذه المسرحية يا الهي، إنهم يرقصون، يرقصون، ويرقصون، وحين تقتحمهم أصوات المطر،
"أبحثُ عن إنسان
أين هو الأنسان
أنا لم آتِ من رحم
بل أتيتُ من الخيال
من موضعٍ بين الجسد والروح
أبحث عن إنسان
حكمتم عليّ بالمنفى
وأنا سأحكم عليكم
بالبقاء حيث أنتم"
............
"أبحث عن إنسان
أين هو الإنسان"
هذه العبارة تتكرر كلازمة طوال العمل المسرحي على لسان (الكلب). تجسـّد هذه العبارة فكرة العمل وهي فكرة ليست عادية أو مطروحة للنقاش من قبل حسب معرفتي ومشاهدتي، فالحديث عن تاريخ الجسد ومنبع الدمع في الجسد، وسيطرة فكرة العقل وقمع الجسد من قبل العقل، وفترة صراع وتطور الجسد في أواخر القرون الوسطى إلى عصر النهضة.
الجسد الذي يتكون بنسبة 75% من الماء، تاريخ الدموع يمثل مشروع فابره الجديد حول جسدنا القديم، في تاريخ الدموع، حيث يكون الجسد فيه كيساً من الماء يعاني من الظمأ منذُ الازل. الجسد وإفرازاته وسوائله كان هو المحور الرئيسي للعمل حيث يدافع العمل عن حرية الجسد وبراءته الأولى التي تكاثرت عليها قيود العقل والتحضر. المقارنة بين التعامل الطبيعي للطفل مع إفرازات جسده والقيود التي تفرضها التربية العائلية التي تعتبر كل ما يصدر عن الجسد قذارة يجب إخفاؤها، تكرر الحديث كثيراً عن البول والغائط والعرق والدموع والمني كرموز للجسد البريء المتحرر من قيود العقل.
استخدم في العمل دلالات كثيرة منها: الوسائد البيضاء، الاوعية البلاستيكية الفارغة، الكرات الكريستالية ، الآلات الموسيقية المختلفة، الملابس البيضاء،عري الجسد.
قدم لنا المخرج لنا عملاً متكاملاً على صعيد التشكيلات البصرية التي تعتمد الجسد والحركة والتي أعتاد فابره أن يشتغل عليها ويستثمرها في أعماله المسرحية، وكذلك أعتمد على قوة وهيمنة النص الشعري الجميل في هذا العرض الذي كتبه بنفسه فلا يمكن نسيانه بل يترسخ في الذاكرة ويبدأ المشاهد حتى بحفظ نصوص حواراته الجميلة، أما عن التمثيل فكان الممثلون عبارة عن طيور تحلق في سماء المسرح، نعم إنهم يمتكلون عدة الطيران ومهارة التمثيل والرقص والتحليق.
على مدى 100 دقيقة أبدع جميع المشتركين في هذا العمل، الديكور، الاضاءة، اللون، الممثلون، الموسيقى، النص، الجسد، والمبدع الاول هو المخرج.. عرضت مسرحية "تاريخ الدموع" لأول مرة في إ فتتاح مهرجان المسرح العالمي في فرنسا عام 2005، وحققت نجاحاً كبيراً، ثم توالى عرضها في الدول الأوربية الآخرى ومنها هولندا. أختار لنا فابره نهاية العرض، جنون الفارس، الذي يدور في حلقة من الضوء وموت الكلب الحكيم.
يبدأ العمل بالبكاء وينتهي بالضحك كالبكاء، كانت نهاية العمل في مشهد غاية في الروعة والجمال بكتابة كلمات بواسطة القماش الأبيض على خلفية المسرح التي هي عبارة عن مشبك حديدي، يتسلق عليها الفنانون ويستعملون القماش الذي كان غطاءً للجسد ويمررونه من خلال المشبك الحديدي بكتابة هذه الكلمات التي انهت بها العمل:
Save Our Souls أنقذو أرواحنا.
بقي أن ننبه أن يان فابره مخرج مسرحي ذو مواهب متعدده فهو رسام تشكيلي ونحات وكاتب اوبرا، ولد في آنتوورب البلجيكية عام 1945 وأتمّ دراسته في الكلية الملكية للفنون، ومن أعماله المعروفة: ملك الإنتحال، الجسد الباكي، ملاك الموت، ثلاث رقصات إنفراديةوتأريخ الدموع التي اشتغل فيها بكثافة لسبر أغوار الجسد تلك المنطقة المجهولة للكثيرين ، إنه عمل يستحق المشاهدة حقا فكم كنتُ معجبا بفرادة هذا العمل الذي يمكننا أن نطلق عليه عمل مسرحي متمتيز جدا فلا يمكن نسيانه بل يترسخ في الذاكرة ويبدأ المشاهد حتى بحفظ نصوص حواراته الجميلة .