تشيخوف، ذلك السوداوي المرح!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"طائر البحر" يحط على خشبة مسرح ليتلتون اللندني
القسم الأول
مدخل لفضاءات طائر البحر
"في نتاجات تشيخوف نلمس على الدوام تعثراً ما.. إنه تعثر الإنسان الذي على وشك أن يسقط، بسبب تطلعه الدائم نحو النجوم". (فلاديمير نابوكوف)
علي كامل من لندن: لقد أسهمت نتاجات تشيخوف لاسيما مسرحياته الخمس الشهيرة في تثبيت ركائز ما أصبح يدعى فيما بعد بـ "الواقعية السيكولوجية" فضلاً عن أنه كان يمتلك سمات الشاعر الرمزي والأنطباعي وكاتب اللامعقول والمبتكر الأول لمسرح (المزاج) أو (الأنطباع). من بستان الحياة اليومية الروسية كان تشيخوف يقطف حبكاته المتقنة بهدوء، ناسجاً من خيوطها حيوات واقعية وأخرى مجازية بأسلوب شاعري يتكىء على تهكمية معتمة. أما شخصياته الخريفية المزاج والمنسية أبداً، فهي كائنات شقية وحزينة
"طائر البحر" من بين جميع مسرحياته تقف ألِقة كعمل تجريبي شعري ساحر من طراز جديد. إنها مرآة تعكس حياة الكاتب نفسه بشكل تلقائي حقاً قياساً بنتاجاته الأخرى. كان تشيخوف قد بعث رسالة إلى صديقه وناشره ألكسي سوفورين محرر صحيفة "الأزمنة الحديثة" في 21 أكتوبر 1895 حال إنتهائه من كتابته لها واصفاً إياها بهذه الكلمات المقتضبة قائلاً: "كوميديا، ثلاث شخصيات نسائية، ثلاث شخصيات رجالية، أربعة فصول، مشهد مسرحي عند البحيرة، حديث كثيف عن الأدب، حدث صغير، وأطنان من الحب...".
أما المخرجة البريطانية (كاتي ميتشيل) في عرضها المبتكر للمسرحية والتي يجري عرضها الآن على خشبة المسرح الوطني البريطاني (ليتلتون) فقد أوجزتها بالكلمات التالية: "إذا كان الحب يجلب معه البهجة والشقاء في آن واحد، فبوسعه أيضاً أن يجلب الشجاعة والقوة".
***
عشاق خائبون ونرجسيون حالمون
الحبكة تتابع سيرة كاتب شاب مجددّ يدعى قسطنطين أو كوستيا في سعيه لأقتحام الدوائر الفنية والأدبية الراسخة لموسكو، من أجل أن يُحرز إعترافاً به من قبل النقاد والكـّتاب بإعتباره كاتباً طليعياً لمرحلة جديدة في الأدب والفن. بالتوازي معه، تتابع الحبكة أيضاً شخصية نينا، حبيبته، الفتاة الريفية الجميلة التي تكافح هي الأخرى وبطريقة مختلفة من أجل تحقيق حلمها في أن تصبح ممثلة شهيرة.
المسرحية تشتغل بالطبع على أكثر من مستوى، بحبكات وقصص رئيسية وثانوية. إنها تعالج أو تتعامل مع جيل من الشبان الذين يحلمون بتسلق سلالم الشهرة والضوء، يقابلهم بإستياء وعدم رضا في الجانب الآخر، جيل أسبق من أولئك الذين صنعوا شهرتهم ونجوميتهم في مدينة ضخمة وصاخبة كموسكو.
إنها مسرحية مرّكبة تتضمن شخصيات ثقافية مرسومة بحساسية عالية وبواقعية متواضعة ونادرة أنذاك، وبوسع المرء أن يشاهدها مرات ومرات لأنها شيقة وملحّة وحيّة، فضلاً عن أن أي كاتب أو فنان طموح سيعلق وينجذب حتماً بواحدة أو أكثر من تلك الشخصيات. عن الأنتيليجنسيا التشيخوفية كتب فلاديمير نابوكوف مرة قائلاً: "المثقف التشيخوفي إنسان جمع في شخصيته تلك الأمانة الكبرى التي لايتصف بها سوى إنسان ليس بوسعه تطبيق أفكاره ومبادئه في الواقع.. إنسان يتصف بالأخلاقية والجمالية والغنائية، إلا أنه غير قادر على تقديم أي شيء نافع للآخر في حياته الخاصة!. إنسان أضاع نفسه بصغائر الأمور.. قروي ساذج غارق بأحلامه الطوباوية والضبابية، ومع ذلك كان يعرف بدقة ماهو جيد ومن أجل أي شيء يعيش.. إلا أنه كان في ذات الوقت يهبط شيئاً فشيئاً نحو الحضيض، حيث قذارات الحياة الكئيبة، الحب الخائب والأمل المفقود، لذا فهو غير قادر على أن يكون إنساناً جيداً أو أن يقوم بعمل جيد.. مزاج كهذا يمكن أن تجده في شخصيات مثل الطبيب ومعلم القرية والطالبة وأناس من مهن أخرى. إنها صفة مميزة لجميع أبطال تشيخوف.".
"طائر البحر" مسرحية داخل مسرحية وقصة داخل قصة. البعض يسميها تراجيديا والآخر يطلق عليها تسمية تراجيكوميديا، أما تشيخوف نفسه فيصّر على تسميتها كوميديا!.
القراءة الجديدة للمخرجة البريطانية كاتي ميتشيل خلصت إلى أن المسرحية هي بمثابة كوميديا معتمة مفعمة بالعنف والقسوة، إلا أن بوسع المتفرج، رغم كل ذلك، أن يبتكر تأويله الخاص به تبعاً لمزاجه وإنطباعه وطريقة مشاركته في فضاء العرض، وهذا ماسنأتي عليه في القسم الثاني من هذا الموضوع. أما الشيء الذي لايمكن تجاهله مطلقاً في
***
تجري أحداث المسرحية في ضيعة ريفية روسية تعود ملكيتها لموظف حكومي متقاعد هو بيوتر نيكولايفتش سورين، الذي يعيش فيها هو وإبن شقيقته قسطنطين (كوستيا)، والتي يدير شؤونها الملازم المتقاعد شمراييف هو وزوجته باولينا وإبنتهما ماشا. تبدأ المسرحية بوصول الممثلة المسرحية الشهيرة إيرينا نيكولايفنا أركادينا ضيعة شقيقها بيوتر نيكولايفتش سورين وهي قادمة من موسكو مصطحبة معها صديقها الكاتب بوريس ألكسيفتش تريجورين لقضاء بضعة
في الواقع ثمة علاقات عاطفية خفية غير متبادلة تسري في جنبات ذلك الريف الهادىء والممل. فماشا
بواعث الحب غير المتبادل
الحب غير المتبادل هو قوة فاعلة أو نوع من الغِـراء وظيفته لصق وجذب شخصيات المسرحية بعضها ببعض. فالمدرّس مدفيدينكو يحب ماشا، إلا إن ماشا تحب كوستيا الذي لايبادلها ذلك الحب لأنه في علاقة حب مع نينا. نينا تحب كوستيا في البدء لكنها تهيم بالكاتب تريجورين حال وصوله إلى الضيعة بالأرتباط بفشل العرض المسرحي. أركادينا تحب تريجورين إلا أنها تفقد ميله نحوها فيما بعد لصالح نينا. باولينا، والدة ماشا، تحب الطبيب دورن على الرغم من زواجها من شمراييف. الطبيب دورن نفسه يشارك باولينا مشاعرها تلك في بعض الأحيان، إلا أن عدم إكتراثه بها يتواصل حتى نهاية المسرحية.
العشاق الذين يحبون دون أن يلاقوا إستجابة إيجابية ممن يحبون هم بمثابة مرايا تعكس صور بعضهم للبعض الآخر، فهم يجسدون مراحل متباينة من مراحل ذلك الحب وتلك الحياة. ولعل التماثل الأكثر جلاءً يتجسد هنا في علاقتي الحب المحبطتين بين كل من ماشا وكوستيا، وتلك التي بين والدتها ودورن. فالحب غير المتبادل بين كوستيا وماشا وقرارها الأخير في الزواج بالمدرّس ميدفيدنكو يبدو كما لو أنه يتماهى مع إحباط وتعاسة زيجة والدتها من شمراييف، أو يعكس حبها غير المتبادل مع دورن في ذات الوقت.
مآزق الحب غير المتبادَل
ترى أي نوع من الحب هذا الذي يتحدث عنه تشيخوف؟
الحب التشيخوفي كما يبدو هو من النوع الذي يخلق محن ومعاناة بالنسبة لأولئك الذين يدخلون فضاءاته، وهو بهذه الصفة أو المعيار يوفر فرصاً درامية خصبة للكاتب المسرحي. بكلمة، إنه الحب المثبط غير السعيد، لأنه حب غير مستجاب من الطرف الآخر تقريباً. ومحتمل جداً أن تشيخوف يعتبر هذا النمط من الحب هو الأكثر صدقاً وحقيقية ً. نحن في هذه المسرحية لسنا أمام شاب يلتقي بفتاة أحلامه ضمن خطة معّدة مسبقاً لحبكة درامية، إنما نحن أمام سّلة مليئة بمثلثات حب، مشحون كل واحد فيها بالتوترات الدرامية.
رجلان يتنافسان على إمرأة واحدة (كوستيا وتريجورين من أجل نينا). أو، إمرأتين من أجل رجل واحد (أركادينا ونينا من أجل تريجورين). وأحياناً يوجد ثمة مثلث يخلو تماماً من أي منافسة، حيث الحب يجري في إتجاه واحد أو لنقل من طرف واحد، ولايستجيب مطلقاً لشغف المحب أو العاشق.
فماشا مثلاً هي في علاقة حب يائس مع كوستيا، إلا أنها ستتزوج رغم ذلك في الآخِـر من شخص آخر لاتحبه وهو المدرس ميدفيدينكو، أملاً في النسيان، وهذا بدوره يشيد مثلثاً لرجلين وإمرأة واحدة، إلا أنه حب غير ذي جدوى لأنه سيتوّج في الفصل الأخير بضياع ماشا حيث ستدمن على الكحول وهي الطريقة النمطية السائدة بالنسبة للشخصية الروسية.
ومع ذلك يبدو أن كل ذلك لم يكن كافياً لتشيخوف فهو يضيف مثلثاً آخراً أيضاً أضلاعه يمثلون الجيل القديم، وأعني غرام بولينا وهيامها بالطبيب دورن. هذه العلاقة التي كانت موجودة كما يبدو منذ أمد طويل قبل بدء المسرحية أصلاً مثلما تتوضح في المسودة الأولى للمسرحية (والتي غيرّت فيما بعد)، حيث ثمة تلميحات تشير بأن ماشا هي إبنة دورن وليس إبنة شمراييف، وذلك حين نراها تفضي له وحده بحبها لكوستيا!. فضلاً عن أنها كانت تحس وبشكل غريزي، أنها أكثر ميلاً وقرباً من دورن قياساً بشمراييف!.
إلا إن دورن، الشبيه بتشيخوف نفسه، والذي يستمتع بمهنته كطبيب نسائي، ليس مهتماً كثيراً بمبادلة الحب مع باولينا أو بفكرة تجديده وهو في هذه المرحلة من العمر. لقد عاش حياته وإستمتع بها وحان الوقت لئن يتقاعد، مثلما يقول لسورين من إن الأطباء ليس بمقدورهم معالجة الشيخوخة، أو حين يهمس لماشا بحزن قائلاً: "الأطباء ليس لديهم علاجاً للقلوب المحّطمة للأسف الشديد". وفضلاً عن مثلثات الحب التقليدية هذه ثمة مثلث حب ملتبس آخر والذي يسمى في علم النفس الفرويدي بـ (مثلث الحب الأوديبي) الذي تتشيد قوائمه من أركادينا وكوستيا وعشيقها تريجورين.
حقيقة الأمر إن هذا الشاب وهو في عشرينياته يحاول عبثاً أن يُحدث صدعاً في البناء النرجسي لوالدته هدفاً في أن تمنحه شيئاً من الحب الذي هو بحاجة إليه مثل طفل صغير. إن هذا التوق أو الشوق لحنان الأم يضعه في منافسة غير متكافئة وخاسرة مع عشيقها تريجورين الذي هو فضلاً عن ذلك يمثل منافساً له ككاتب أيضاً.
هذا المثلث، عموماً، يشحن الحبكة بطاقة درامية أكبر قياساً بمثلثات الحب الأخرى، لأنه يكشف عن شخصية تحمل بين طياتها سمات الشخصية المضطربة عصبياً والعاجزة تماماً عن تجاوز الصدمة المبكرة، أو نسيان الماضي ومغادرته، وأعني بالضبط شخصية كوستيا.
والأجابة عن السؤال الذي طرحناه حول نوع الحب الذي يتحدث عنه كاتبنا ربما نجده عند الكاتب نيكولاي ليسكوف صديق تشيخوف، الذي قال مرة: "كل أنواع الحب يمكن أن تختزل إلى شكلين إثنين يتباينان عن بعضهما بنسبة ضئيلة، أحدهما أن يحب المرء ويتزوج، والثاني أن يحب ويطلق الرصاص على نفسه!"
يتبين من ذلك أن تشيخوف كان قد إستعار صيغة ليسكوف تلك في مسرحيته طائر البحر، ومايؤكد ذلك هو رسالته التي كتبها مرة لناشره سوفورين مرة قائلاً: "ينبغي على المّحب إما أن يتزوج أو يطلق النار على نفسه، ولايوجد طريق ثالث.". وهكذا يبدو أن تشيخوف قد إختار الحل الثاني في نورسه طائر البحر، وهو أن يطلق بطله كوستيا النار على نفسه في الآخِر.
فلسفة الحب وإنتهاك تشيخوف للأعراف الشكسبيرية
واضح أن تشيخوف يهتم بالحب المثبط لأنه أكثر دراماتيكية كما ذكرنا، وفي هذا الشأن يظهر أنه على خلاف مع شكسبير، في كوميدياته في الأقل. فلو أحصينا جميع أنواع الحب في كوميديات شكسبير وحتى بعض مآسيه لوجدنا أن هناك طرزاً مختلفة للحب. فالذي يهم شكسبير عادة كأساس لحبكاته، هو تلك العقبات والحواجز التي توضع من قبل قوى خارجية في طريق ذلك الحب المتبادل. فالعقبة في روميو وجوليت مثلاً هي ذلك الخصام أو العداء القديم القائم مابين العائلتين والذي يخلق حاجزاً وصعوبات في لقائهما على الرغم من أن حبهما هو من النوع المتبادل من كلا الطرفين. الحب المتبادل من الطرفين في الواقع يكاد يؤخذ تقريباً كحقيقة مسلّم بها في كل كوميديات شكسبير. ربما الكوميديا الوحيدة لديه هي (الكل بخير إذا إنتهى الأمر بخير) التي تتضمن حباً غير متبادلآً ذلك الذي يجري بين هيلين وبيرترام. تشيخوف هنا ينتهك هذا العرف بأية وسيلة!
ففي طائر البحر لاوجود لأي زواج أو أعراس، بل على العكس نرى الطفل الذي أنجبته نينا يموت وكذا طفل ماشا فهو يحيا محروماً من حب وحنان والدته التي أدمنت الكحول. رغم كل ذلك وفضلاً عن أن مسرحيته تنتهي بالانتحار إلا أن تشيخوف يصر على تسميتها كوميديا!. حسناً، إذا كان إختياره للانتحار وسيلة عقاب لكل من نينا ووالدته على حد سواء بسبب أنهما لم تحباه بما فيه الكفاية، فهل تستحق هذه العملية حقاً ثمناً كهذا؟
المراقب غير المنحاز أعني ذلك الذي يرى حياة الإنسان بمنظور سرمدي، لايقرأ الأنتحار إلا كونه فعل عابث وأحمق وسلوك لتدمير الذات، فعل ناتج عن إضطرابات ومشاكل عصبية لاأكثر. لذا فالأنتحار من هذا المنطلق ليس فعلاً تراجيدياً أو حسماً صائباً لمصير إنساني، إنما جوهري هو فعل كوميدي!.
من هنا فقط، ربما، يمكن لنا أن نرجح السبب الذي دفع به إلى أن يطلق على مسرحيته التي تنتهي بانتحار بـأنها (كوميديا).!.
تشيخوف سوداوي الرؤية بشأن موضوع الحب في واقع الأمر، وهذه الرؤية تظهر جلية في (طائر البحر) حيث حقول الحب مجدبة قاحلة لاتثمر. من هنا يمكن الجزم من أن جل مسرحياته تتضمن علاقات حب غير مكتملة. فالدكتور أستروف والخال فانيا في مسرحية (الخال فانيا) مثلاً يفتتنان معاً بالفتاة الجميلة يلينا، إلا أنها تميل للأول على الرغم من إحتمال أن ذلك الحب لم يكن حباً بقدر ماهو نوع من العطف أو الشفقة. أما إهتمامات حب الخال فانيا وإحتجاجاته فهي بالنسبة ليلينا مجرد نوع من الأغاضة والمضايقة لا أكثر. من جانب آخر نرى سونيا، إبنة شقيقة فانيا، هي في علاقة حب بائسة وغير متبادلة مع الدكتور أستروف نفسه.
أما في (الشقيقات الثلاث) فإيرينا الشقيقة الأصغر تتوق للحب لكن ذلك الحب لن يأت مطلقاً، ربما بسبب عجزها عن ذلك، فحبها يمكن تشبيهه ببيانو ُفقد مفتاحه!. إلا أنها مع ذلك تقرر أخيراً، ومن دون حب، الزواج بالضابط توزمباخ. إلا أن قراراً كهذا يثبط هو الآخر من قبل عشيقها الثاني سوليوني الذي يقتل توزمباخ في مبارزة.
ماشا المتزوجة من كوليجين المضجر والمزهو بنفسه حتى الأستهجان هي على علاقة حب بفيرشنين المتزوج زواجاً محبطاً هو الآخر ولديه طفلان مسؤول عنهما. إلا أن فيرشنين هذا ينسحب من علاقته تلك لأن تحطيم زيجتان في وقت واحد هو شيء قاس ومستحيل كما يبدو له.الخادمة العجوز أولغا نفسها تقول أنها ستتزوج من أي شخص يتقدم لها، لكن لا أحد يفعل ذلك!.
الزيجة الوحيدة التي تتم في مسرحيات تشيخوف كلها هي زيجة أندريه بناتاشا في (الشقيقات الثلاث)
والتي تظهر حالاً على أنها خطأ فادح على الرغم من أنها تنتج طفلين أحدهما، ربما، هو ليس إبناً شرعياً لأندريه!.
بكلمة موجزة، السعادة الدائمة أو العلاقات المستقرة والمريحة، عملياً، هي غير متواجدة في فضاءات تشيخوف الدرامية. ربما العلاقة المتبادلة الوحيدة التي تبقى حيوية ومكتملة عند تشيخوف هي تلك التي نعثر عليها في نهاية قصته الشهيرة (السيدة صاحبة الكلب)، أعني علاقة الحب بين جوروف وآنا سيرجيفنا، إلا أنها شبية بتلك العلاقة ما بين فيرشينين وماشا في (الشقيقات الثلاث)، أعني أنها تدخل في إطار الخيانة الزوجية لاغير، فضلاً عن أن إمكانية الطلاق في روسيا أنذاك كانت مسألة عسيرة ومعقدة جداً، لأن الطلاق الذي يتم على خلفية خيانة زوجية هو شيء غير جائز على الأطلاق!.
***
نزعات وجودية وبحث دائم عن المعنى
إن الإحساس الوجودي بمغزى الحياة بالتوازي مع الموت الوشيك يربك ويحير البعض من شخصيات طائر البحر. فماشا مثلاً، تثير إنتباهنا منذ البدء حول هذه الثيمة حيث تقول في
بدون حب ماشا ترى الحياة عقيمة تشبه الموت، وهو العقاب الذي ينبغي أن ينجز. إلا أنها وبعد حين من الأحداث تغير من وجهتها وتتزوج من المدرس ميدفيدينكو ليس بسبب الحب إنما بدافع من الملل وكنوع من العزاء في إمكانية نسيان كوستيا حسب. لذا يمكن القول أن الزواج وإنجاب الأطفال هو بالنسبة لها نوعاً من تزجية الوقت لاأكثر.
أما كوستيا فهو الآخر يتساءل عن سبب مواصلته الحياة بسبب فقدانه البوصلة التي توجه حياته. كوستيا يظن إنه موهوب ومبدع ومن الممكن جداً أن يكون رجلاً عظيماً، إلا أنه في واقع الأمر لايمتلك هدف محدد في رأسه أو وجهة نظر ليحققها!.
إنه يجيز لطموحه الهش من أن يسحق قابلياته الخاصة. فقدانه لحب نينا وفشله في إثارة إعجاب والدته، كذلك حياته التي يحياها تحت ظلال تريجورين، كله يصبح بمثابة سرطان يزدرد روحه ورغبته في مواصلة الحياة.
كوستيا يصبح مرآة تعكس فتوة خاله سورين الذي يتعاطف معه بل يراقبه عن كثب وهو في صراعه لتحقيق هدفه في أن يكون كاتباً وعاشقاً في آن، وهو ماكان يوماً ما هدفاً لسورين نفسه. إنه يقترح على كوستيا عنوان القصة التي ينبغي عليه كتابتها عنه بـ ( الرجل الذي أراد... )
سورين ذاته لايعرف مغزىً لحياته هو الآخر، فلقد أمضى جل حياته يدور في طاحونة عمله الوظيفي ولايعرف حتى الآن لماذا وكيف حدث ذلك! ومع ذلك يقول:"لقد حدث ولاشيء غير ذلك".
حقيقة الأمر إن سورين لم يمتلك شيئاً في البدء ليحققه في الآخر. الحياة بدون تحقيق هدف بالنسبة له شيء عقيم ولامعنى له.
سورين يواجه أزمة منتصف العمر وهي أزمة وجودية بالنسبة له. إنه يتسائل عن ماذا أنجز بحياته ويندب فقدانه جل مساعيه في تحقيق ماكان يحلم به في شبابه.
أما الكاتب تريجورين فيواجه هو الآخر أزمة وجودية حال نشوء علاقة حب بينه وبين نينا. إنه لم يتسائل أو يتأمل حياته أو خياراته بشكل حيوي يوماً، بل يكاد يكون مقتنع في كل شيء. إلا أن نشوء علاقة الحب تلك مع نينا التي أعجبت به وبكتاباته على حد سواء، هي التي فرضت عليه أن يعيد التفكير بحياته وبدلالاتها الراهنة في الأقل.
هاهي نينا تقدم له فرصة ثانية لأستعادة شبابه، وهو لايتردد حتى أن يلتمس من عشيقته أركادينا السماح له في البقاء مع نينا في الضيعة مدة أطول كي يجدد شبابه الذي أمضاه في الكتابة، الكتابة التي كانت حاجزاً بينه وبين إقامة علاقات غرامية.
حب نينا يفتح عينيه واسعاً ويخلق مغزىً جديداً لطريقة وعيه لذاته والذي كان يجهله قبل رؤيتها. لكن المفارقة هي أن تريجورين الذي كان قد فقد ذلك المغزى في الماضي، مهدّد في مستقبله هو الآخر فيما لو واصل علاقته بنينا!.
ومن أجل العثور على دلالة أعمق للوجود تخوض نينا وكوستيا معاً كفاحاً متواصلاً، كل بطريقته الخاصة، لتحقيق ما يصبوان إليه وهو إمكانية ممارسة مواهبهما، نينا لتصبح ممثلة شهيرة وكوستيا ليصبح كاتباً شهيراً.
سيتبعه القسم الثاني: طائر البحر، رؤى متجدّدة وأطنان من الحب