مسرح إيلاف

كارمن: العالم يتسع بالحب والرقص

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

صالح حسن فارس من أمستردام: في بداية الموسم الخريفي لهذا العام أنطلق في أمستردام مهرجان جديد بعنوان (أسبوع الرقص الهولندي) تضمن ستة عروض راقصة، ومن أهم تلك العروض التي قُدمت في المهرجان مسرحية ( كارمن). المُعدة عن أوبرا كارمن للكاتب الروائي الفرنسي" بروبسبير ميريمه" ووضع الموسيقي لها المؤلف الموسيقي الفرنسي "جورج بيزيه". تُعد" كارمن" واحدة من أجمل وأشهر الأعمال الفنية العالمية التي سحرت الناس بمشاهدتها وشغلت الكثير من الفنانين بتقديمها على خشبة المسارح وشاشات السينما والتلفزيون برؤى مغايرة.
قدمتها فرقة الباليه الوطنية الهولندية التي تأسست عام 1961، على "مسرح الموسيقى" في مدينة أمستردام، ويُعد هذا المسرح من المسارح الكبيرة والمهمة في أوربا ويحتل موقعاً جغرافياً متميزاً أذ يقع على ضفاف نهر أمستل الذي يشق قلب أمستردام إلى نصفين ويضفي عليها جمالاً خلاباً ساحراً.
يتكون العمل من ثلاثة أجزاء أو ثلاثة أعمال راقصة في عمل واحد، الجزء الاول بعنوان" الفوضى والنظام" وهو من اخراج الغوريغراف الامريكي" وليم فورسيث" تنفتح الستارة على مجموعة كبيرة من الراقصين بملابس شفافة رصاصية فاتحة اللون في قاعة عارية يلفها البياض من كل الجهات مما أضفى على العمل جلالاً وهيبة تشبه أرواح الراقصين، الديكور كان بسيطاً ومعبراً، مقاعد صغيرة وضعت في نهاية عمق المسرح أستخدمت بشكل أنيق وجميل وبشكل غير متوقع لأستراحة الراقصين من تعب الرحلة الراقصة كما لوانهم كانوا في مسابقة للطيران. نرى في البداية مجموعة في كتلة جسدية واحدة من الراقصين يؤدون حركاتهم الراقصة كأنهم أسراب من النوارس تحلق صوب البحر، ثم ينقسمون إلى مجموعتين وبعدها إلى رقص انفرادي، ويتحول بقية الراقصين إلى مشاهدين يواجهون الجمهور والراقصين معاً. قُدم هذا العمل برؤية اخراجية تعتمد على الرقص الكلاسيكي للباليه حيث قدم الراقصون عملاً متكاملاً أعتمد على التقنية الخاصة لتاريخ الجسد المضطهد وباحثاً عن فضائه الحر من أجل كسر كافة القيود المرئية وغير المرئية التي تكبل الجسد.
أجواء الشرق والغرب
الجزء الثاني يحمل عنوان " الطرق المتقاطعة" والذي يطرح موضوعة حساسة وغاية في الأهمية حيث يناقش قضية تحريرالمرأة في الشرق الاوسط من وجهة نظر اوربية معتمدا على حكاية العنف ضد حياة وجسد المرأة المكبل بقيود اجتماعية وسياسية ودينية، والعزلة القاتلة بأعتبارها حواجز كونكريتية تقع بين الرجال والنساء.
الله اكبر، الله أكبر،اشهد أن لاالله الا الله، هكذا يُفتتح العمل بصوت الاذان، حيث نشاهد أحد الراقصين في وسط عمق المسرح مشغولاً بغسل جسده بالماء بشكل تعبيري راقص وكأنه يتهيأ للصلاة، وفي الخلفية ثمة نساء بملابس شفافة يرقصن على دكة مرتفعة بحركات بطيئة معبرة كأنهن يخرجن من رحم الحياة ثانية إلى عالم اخر خال من السيطرة والعنف، بعدها يفاجئنا صوت عزف لالة العود العربية مصحوباً بغناء صوفي تركي يضاف إلى ذلك دور الموسيقى والرقص كعنصرين أساسين في العرض، تتغيرهنا الملابس والاضاءة ويهبط من أعلى فضاء المسرح صندوق مربع الشكل يوحي بأنه سجن مادي يحجزالاجساد التي تمارس الاضطهاد بحق جسد المرأة، تستمر الموسيقى الشرقية مع مضاجعة راقصة داخل الصندوق الحديدي في مشهداً ذكي ومبهر في التصميم الحركي للراقصين، قد صاغ لنا مخرج هذه اللوحة الغويغراف البولوني " كرزاستور باستور" مشهداً في غاية الجمال حيث رسم الالوان والاضاءة والديكور التي أدهشت الحضور وأستفزت المخيلة حيث أصبح كل شئ معتماً بأستثناء لغة الجسد والموسيقى اللتين تمثلان روح العمل. وضعنا المخرج منذ البداية أمام تساؤل كبير: كيف يمكننا كسرالجدار الذي يغلف منطقة الروح والجسد حين تصبح الهيمنة ذكورية؟!

سيناريو فيلم لم يُمثل بعد
أما الجزء الثالث وهو الأهم فكان بعنوان" كارمن" وقد بدأ بعزف حي لفرقة "السمفونية الهولندية الوطنية" والتي أستهلت العمل بمؤثرات موسيقية كان أولها صوت القطار الذي يخترق المدينة، وأصوات اخرى وكذلك أحدى روائع موسيقي "باخ". قدم لنا الغوريغراف الهولندي"تيد برانسن" عمله الجديد" كارمن" الذي تدور قصته عن علاقة حب غرامية تقع بين عسكري وامرأة غجرية، متمردة، حول الحب، الخيانة، والغيرة، بحّلة جديدة ورؤية اخراجية معاصرة أعتمدت على الرقص والباليه الحديث.
في مساء رومانسي حالم في ضواحي مدينة ما، نرى مشاجرة تحدث بين رجال وامرأة بملامح غجرية ترتدي ثوباًً أحمراللون تتوسطهم وترقص على أنغام الموسيقى الكلاسيكية بحركات رشيقة تبعد عنها الرجال بكل دهاء وغنج وأثارة جنسية. أخذتنا كارمن معها برحلتها الغريبة والمثيرة إلى الأجواء الاسبانية برقصاتها الشبقية، تبحث عن عشيق مجنون مثلها، هكذا رسم مصمم العمل شخصية كارمن في علاقة حب عاطفية أسبانية مثيرة، وموسيقى شرقية لمصمم غربي كلهم أجتمعوا في تقديم عمل باليه لا يخلو من حيرة وتساؤل ودهشة، يستمر العمل متناولاً حياة "كارمن" في الشارع والسرير والسجن، وفي الختام تموت كارمن بطعنة سكين، ويبقى الحب منتصراً لا الخيانة.

هكذا أنتهى العمل بمشهد درامي متماسك، جعلنا نتعاطف مع كارمن وحياتها التي لا تملك غيرالجمال والحب في عالم معقد يشبه سيناريو فيلم لم يمُثل بعد. لقد كان العمل بمجمله تجربة متميزة حيث تجول الراقصون بحرية في تلك المساحة الحرجة الفاصلة بين الشرق والغرب .
وقد ذهب المخرج في عمله هذا إلى ألتقاط الحس الشعري والبصري في تقنية الاداء الحركي للاجساد الراقصة، والمزج بين أجواء الشرق والغرب، وكانت قراءته لكارمن تشبه إلى حد بعيد عمل نحات خبير بتفاصيل وأجزاء الجسد في محترفه الفني كأنه عالم شاسع يتسع في الرقص، خرجنا من العمل بأجنحة من أمل وحلم مطرز بموسقي شرقية وغربية مفعمة بالحب والبهجة.
وقد قُوبل العمل بحفاوة كبيرة من قبل الصحافة والاعلام، وقد كتبت جريدة NRC الهولندية عن العمل: الشخصيات قُدمت بشكل قوي وكانت المشاهد الجماعية تمتاز بالحيوية ولغة الرقص مفعمة بالحياة والعاطفة.


تصوير: الفنانه الهولندية انجلا ستريلنك ، لايجوز استخدام الصور الا بموافقة إيلاف.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف