نص شرس، وواقع سابق على التمثيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
النص الشرس: صيرورة وليس كينونة
كنت من المحظوظين بمتعة الروح الفائقة وأنا أحضر عرضا مسرحيا مثيرا على مسرح (هيب) مع فرقة (المسرح الدراماتيكي السويدي) في مدينة مالمو السويدية، فقد عشت أكثر ، فقد من ساعتين منغمسا في عالم حيوي نشط، شرس في فكرته، هادئ في عرضه، متوتر في أدائه، لم يكن مسرحا بل مسرح المسارح، ولم يكن مشهدا بل مشهد المشاهد، فأنت مضطر أن توزع روحك على كل نقاط الخشبة السحرية، وأنت مضطر أن تتجول بقلب مأسور على كل مشهد من المشاهد وهي تتناثر بإنتظام هنا وهناك، الأمر الذي يخلق منك أكثر من مخلوق، أكثر من مُشاهد، أكثر من ناقد، أكثر من راصد.
كان النص شرسا بكل معنى الكلمة، عنوانه دليل شراسته (مو هاملت)، تلك هي إلتفاتة بارعة تترجم شجاعة التحدي، وجرأة التجاوز، فلا نقاط حمر في الفن، كل شي مباح، حتى لو كان كسرا لنموذج إرشادي، ظل عشرات القرون يسيطر على صميم الفكر المسرحي، نصا وإخراجا وإداء ونقدا.
إذا كان محور (هاملت) تلك المعادلة التي يمكن وصفها بمركب (الثابت القلق)، فأن (مو هاملت) يمكن أختصارها بمركب مناقض، ذلك هو (القلق الثابت)، هناك هوية دائمة لا تستطيع أن تخرج من دوامتها الجهنمية، وهنا يسيطر منطق (الغيرية)، هناك أصالة الثابت وعرضيَّة المتغير، وهنا أصالة التغير وعرضيَّة الثابت، وشتان بين المركبين، وشتان بين المفهومين.
هذا هو الإنسان، فكما في كل لحظة يودع ملايين الخلايا الحية ويتلقى ملايين غيرها، كذلك روحه، في كل لحظة هو جديد، تنهال على روحه سيول من الأفكار والتصورات والخواطر والمشاكل، فكل لحظة هو (هوية)، وفي كل لحظة هو (عنوان)، فكما لا جسد واحد، كذلك لا روح واحدة.
ذلك هو الافق الكبير الذي تنحدر من فيضه اللاهوتي الغزير فكرة النص، نص (مو هملت)، فهذا المهاجر العربي الذي وفد أرض الغربة ليس حقيقة مطلقة، ليس أزلا يمحو الثابت لصالحه، بل هو كأي مخلوق في هذه الدنيا، صيرورة وليس كينونة، جدل وليس مُفارِقا يحلق في بحر مُثٌل إفلاطون، ليس هناك عقل متعدد بل هو عقل واحد، يتكيف لما يحيط به ويعمل فيه، فتتكون لدينا عقليات، هنا وهناك، عقليات تتخلَّق من الواقع، وتتخلَّق في الواقع، فلتسقط تلك المعادلة التي صنفت البشر في قوائم أزلية ظالمة.
لقد استطاع هذا الشرقي أن يقتحم الواقع الجديد، أن يلجه، أن يلتحم به مؤثرا لا متأثرا وحسب. فهذا البطل (باسم صباح) كان بطلا في الواقع وبطلا على المسرح، وبذلك يجسد
أنا ليس أنا، ففي كل لحظة تتحول روحي، وتنهال علي في كل لحظة من الزمن الطويل ما ا يغير في داخلي، بل يحوِّل ما في داخلي، الذي يقود إلى داخل جديد، هو الأخر عرضة لإنقلاب كبير بعد لحظات.
ذلك هو جوهر النص، النص من بعيد، أما النص من قريب، فهي مشكلة ذلك العربي الذي حكموا عليه بالثبات، فيما هو كأي شخصية في هذا الوجود، ليس قالبا قد نحته يد فنان جامد، بل هو إمكانية وإستعداد، وقد قرر مع نفسه أن يبرهن على ذلك بجهده وذكاءه وشطارته، وكان ذلك، ولكن لم يستسلم للانمحاء، بل تفاعل مع الحقيقة، فاعطها وأعطته، وبذلك يكون قد تغلب على الثبات القاتل والتغير الساذج.
لم يكن البطل صاحب مطعم شرقي في بلاد الغرب، بل صاحب موقع شرقي في صميم الغرب، صاحب عقلية شرقية تمازجت مع الجديد، فكان أغنى تجربة من الآخر.
مسرح يستعير الحياة
كانت خشبة المسرح حياة، فليس هناك مشهد واحد، بل مشاهد، وكل مشهد مشغول بقضيته، منصهر برسالته، منغمس في عالمه، تمثيليات وليس تمثيلية ــ إذا أردنا أن نستخدم الإستعمال الدارج عربيا ــ قضايا وليست قضية، مشاكل وليس مشكلة... الأمر الذي يضعك في صميم الحياة الواقعية، حياة تجري حسب سننها المعهودة، وليس حسب تقرير مسبق، كان قد أتفق عليه المخرج وصاحب النص والممثلون، تتوازى المشاهد، أفقيا وعموديا، فتضطر أن تنتقل بروحك أفقيا وعموديا، صرخة من فوق تستفز فضولك، وضحكات بين زبوتين يضمران في داخلهما سخرية الحياة، وزيارة في غير وقتها تغريك بأن تعرف سر الزائر، وقصة حب بين روحين مختلفي التاريخ ، وعمليات سرية يمكن أن نتصورها في القاع المجهول، وبين الفينة والاخرى قبلة سريعة، تبرهن أن الهوية ليست قدرا أزليا! ومحاسب لا يعرف غير هامش الحياة، ومدير عمل يمهر المهنة، ولكنه خبيث النزعة، ومقرر التاريخ كان يطل على مجرى العمل بوجه حديدي بارد، يذكرك بقضاة القرن الخا مس عشر.
كل ذلك في مشهد واحد، كل ذلك على مسرح واحد، كل ذلك في عالم واحد، كل ذلك في نص واحد، كل ذلك من إبداع مخرج واحد، فأنت إذن أمام مسرح الحياة، بل في صميم مسرح الحياة.
كنت مع مسرح سينمائي، او سينما مسرحية، وهي فن ثالث أتمنى أن يحمل من غنى الطرفين ما يخلق منه نموذجا مبتدعا في عالم الفن المسرحي / السينمائي، وهو بلا شك يكشف عن خيال بارع، يستطيع أن يخلق الجديد من عناصر قديمة.
وكان هو الممثل
العلاقة بين (الممثل) و(الدور) تتمايز وتتفاوت بين ممثل وأخر، هناك علاقة المحاكات، وهي نظرة إفلاطون للتمثيل، حيث كان قد أمضى سلاح الحذف على هذا الفن الجميل، لأنه شبح الشبح، تبعا لفلسفته في المُثل المعروفة، فكل شي في هذا الكون إنعكاس لتلك الكائنات العلوية الساكنة في عالم السماء المجهول، والتمثيل هو محاكات شبح، محاكات ظل، فهو إذن ظل الظل، لا يملك أصالة ولا جمالا. ولكن هناك من يمثل حقا دوره، أي هناك من يرتهن روحه لدوره، هناك المؤمن بدوره، على أن المسافة بين الممثل كأنسان له تاريخه وأسمه وجسمه وبين الدور كفكرة وكمشروع تبقى محفوظة، أنه لا يقلد بل يمثل، لا يحكي بل يعبر، لا يعكس بل يجسد، ولكن في أعماقه يبقى هو ذاك، ما زال هناك أنا وأخر. وليس من شك نعثر بين فترة واخرى على من تذوب روحه في دوره، ينسى أنه ذلك الشخص الذي يملك تاريخا خاصا به، يغفو اسمه على وسادة النسيان، ليس هنا أنا وأخر، بل هناك أنا، من الصعب تسمية هذه الحالة تمثيلا، ترى أي شي يمثله ؟ لا شي أبدا.
الفنان العراقي (باسم صباح) يرنو إلى مابعد الشخصية، يتلبس فلسفة الشخصية، وبهذا يتجاوز المحاكات والتمثيل والتجسيد، ليعيش حالة من التصوف الوجودي، ينهار كل شي أمامه، إلا الصورة النهائية للدور، فلسفة الشخصية أو فلسفة النص هي التي تتحكم بحركاته، وهي التي تصمم مسيرته، وهي التي تقرر موقفه من كل شي، الجمهور، الممثلين، الخشبة، الضوء... كل شي...
لم يتحرك من صورة ماثلة أمام عينيه، أو حاضرة في ذاكرته، او منطبعة في ذهنه، بل ينطلق من فكرة، من نص، كان يمثل النص وليس الشخصية!!! أو بالأحرى كان يمثل فلسفة النص، ما بعد النص، لم يكن يدا تشير، ولا رجلا تسعى، ولا اذنا تسمع، ولا عينا تبصر، بل كان تاريخا يتأسس، يتخلق، لم يمثل ماضيا، بل يخلق لحظات زمنية جديدة، أي هناك نص يتحقق فعلا، تاريخيا، زمنيا، وليس هناك صورة مفترضة يتم عرضها على شاشة خشبية أسمها المسرح. لقد حول النص إلى مرحلة متأخرة، فيما الواقع كان هو المرحلة المتقدمة. كان هو باسم نفسه.
لم اجد نفسي أمام شخصية تمثل، بل أمام شخصية واقعية بكل معنى الكلمة، شخصية بعينها، وليس شخصية مستعارة مهما كانت الاستعارة جادة وذكية، كان حقا صاحب مطعم شرقي أو موقع شرقي في صميم الغرب، وكان حقا شرقيا تصدى للتراكم التاريخي الراكد في أعماق الجهل، وكان ذلك الذي قرر أن يبرهن أن القلق الثابت هو الأصل وهو الجوهر، وليس الثابت القلق!
كنتَ مضطرا أن تنظر إليه لا بعين التحليل، تحليل الدور، أو تحليل الحركة، لا مجال للتحليل في هذه الحالة، بل تنظر بعين المستقبل، ماذا سيكون، ماذا سيحصل، وأني على ثقة، لو أنك تمعنت بالعمل لأخذت كل احتياطاتك للمستقبل، فلست أدري ماذا سيحدث!
لم يضف على شخصيته شيئا جديدا، بل هي هي شخصيته كما تراها في واقع الحياة، كما تراها في الشارع، كما تراها في مقهى، كما تراها في المدرسة، نعم، شي واحد يمكنك ان تميزه فيه وهو على المسرح، أنَّ (باسم) على المسرح هو (باسم) في الواقع، أكثر من ذلك، لقد تحول الدور إلى (باسم) ولم يتحول (باسم) إلى (دور)!
اهنئك من كل قلبي.