تشيخوف، ذلك السوداوي المرح! (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"طائر البحر" رؤى متجددة وأطنان من الحب
"إذا كان الحب يجلب البهجة والشقاء في آن، فبوسعه أيضاً أن يجلب الشجاعة والقوة" المخرجة كاتي ميتشيل
مدفيدينكو: لماذا ترتدين السواد دائماً ياماشا؟
القسم الأول ماشا: لأنني لست سعيدة.. إنني أرتدي السواد حداداً على حياتي.
علي كامل منلندن: لاشك أن البعض يستمتع برؤية اللوحات الزيتية القديمة وهي محملّة بطبقات صلدة من الطلاء والأتربة تراكمت فوقها عبر كل تلك السنين، والبعض الآخر يشعر بمتعة أكثر حين يراها وقد أزيل عنها كل ذلك الطلاء وتلك الأتربة لتبين ألوانها الأصلية ثانية. وهكذا فالبعض يحبها طرية فيما الآخر يرى في ذلك فقداناً لأصالتها..الخ..
إن القيام بإعادة كتابة النصوص القديمة وإعدادها مع مايتناسب ومتطلبات الراهن لايعني تغيير مضامينها على الأطلاق، إنما هو محاولة لإستبدال مظهرها القديم بآخر جديد حي ومعاصر. ولأجل تحقيق هدف كهذا شرع المُعّد والمخرجة بحذف الكثير من التأثيرات السردية للحوارات المتراخية تلك المتمثلة بالمونولوجات الداخلية المسهبة والأحاديث الجانبية الموجهة إلى الجمهور مباشرة والتي أصبحت بمثابة الميت الذي يمسك بالحي.
إن إحداث هزة قوية بوسعها أن تعصف بفضاءات تشيخوف الكسلى لإيقاظ شخصياته المتثائبة أبداً تطلبّ من المخرجة خلق بنية جديدة وشكل مبتكر لتقويض ذلك العالم الخدِر الآفل وتفجير سكون المكبوت من الرغبات السجينة في أعماق شخصيات النص الرئيسية والثانوية على حد سواء.
أما الفعل الأكثر جرأة ومشاكسة فهو نقل المُعدّ لزمن الأحداث كرونولوجياً من نهاية القرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن الماضي وتعليل ذلك كما يبدو كان يراد منه ملىء تلك
دلالات طائر البحر ورموزه
نورس تشيخوف في رؤية هذا العرض ليس طائراً يحلق فوق مكان الأحداث أو في خلفيتها حسب، إنما هو بمثابة رمز يجمع ويراكم المعنى وفقاً لسير وتطور الأحداث، فضلاً عن التغيير الذي يطرأ بين على ذلك المعنى الحين والآخر. فحين تشبّه نينا طفولتها التي أمضتها في ضيعة سورين بصورة ذلك النورس الذي ينجذب نحو تلك البحيرة، يأخذ رمز النورس دلالة تتماهى ومفهوم الحرية والطموح الأنساني، لأن طائراً كهذا مرتبط بقوة البحر وسعته التي لاتؤطرها حدود. أما حين يقتل كوستيا ذلك الطائر ويقدمه لنينا على مائدة الطعام قائلاً لها بأنه سيموت هو ذات يوم من أجلها بنفس الطريقة، عندئذ يصبح المغزى أشبه بنبؤة تتجسد واقعياً فيما بعد في إنتحار كوستيا، إن لم يكن تلميحاً بموت علاقة الحب بين نينا وكوستيا. وحين تخبر نينا الكاتب تريجورين بموت الطائر يلهمه هذا الخبر بفكرة كتابة قصة قصيرة فيقول لها معلقاً:
"إنها فكرة رائعة حقاً لكتابة قصة. قصة تتحدث عن فتاة سعيدة وحرة مثلك، تعيش قرب بحيرة، وتحب تلك البحيرة مثل طائر النورس. وذات يوم يأتي شخص ما فجأة ويراها فيقضي عليها كما قضى على النورس من قبل".
حين يشبّه تريجورين موت النورس بموت فتاة تشبه نينا، فإن هذه الصورة تبعث الحيرة والأضطراب في كيان نينا موحية لها أنها مقبلة حقاً نحو مصير مأساوي كهذا وهو ماسيقنعها لاحقاً بتسويغ علاقتها الجديدة بتريجورين كنوع من الخلاص، تلك العلاقة التي ستقصي قسطنطين من مثلث الحب تماماً.
فكرة القصة الفانتازية تلك ستصبح في الآخِر نبؤة مرعبة بالفعل حين تتحقق عبر زيجة نينا المحبطة بتريجورين الذي سيهجرها بعد حين ويعود ثانية لأركادينا.
وهكذا ومن خلال سير الأحداث ونموها تتغير دلالات موت ذلك الطائر ورموزه لتصبح في الآخر مجازاً مكثفاً لتحطم الأحلام.
البحيرة تحمل هي الأخرى أكثر من مغزى وتأويل، فهي المكان الذي يشيّد كوستيا على شاطئها مسرحه التجريبي الصغير لعرض مسرحيته البكر والذي يمكن أن يلمّح إلى تطلع تشيخوف نفسه وبطله كوستيا معاً لنقل المسرح من القاعات التقليدية المغلقة والمحدد بثلاثة جدران إلى مسرح يسبح في الهواء الطلق، مسرح أكثر حرية وطبيعية.
البحيرة مكان للراحة والهروب والتأمل أيضاً، فتريجورين يتوجه نحوها لصيد الأسماك، وكوستيا يلجأ إليها للتفكير والتأمل بأناه الجريحة ربما. أما بالنسبة لنينا فهي أشبه بعنصر جذب لها كالمغنطيس، فضلاً عن أنها تمثل بالنسبة لها أيضاً نوعاً من الفضول لتأمل وإستكشاف طفولتها، فهي تقول لتريجورين بأنها تعرف كل الجزر الصغيرة فيها، في حين يقول كوستيا لها بإن فقدانه لحبها يمنحه إحساس بأنه أشبه ببحيرة غارقة في الأرض، أو إحساس بفقدان مكان عزيز إلى نفسه، مكان مفعم بالدفء والأمن والتجدّد. والبحيرة في الآخِر هي مجثم للطيور والمنزل لمن لامأوى له ومكاناً للراحة والنوم والشعور بالأطمئنان.
الرؤية الأخراجية
لغرض إضاءة ثيمات النص ورسم معالم الشخصيات وأبعادها لجأت المخرجة إلى الغوص عميقاً في دراسة حياة تشيخوف وفلسفته وفقاً لمنهج ستانسلافسكي في الكشف عما وراء النص وتحليل أبعاد الشخصية وإعداد الدور المسرحي. وفي هذا الشأن تقول المخرجة: "الجميع يعرف أن تشيخوف كان يومها طبيباً وقد كتب مسرحيته في لحظات كان يدرك فيها تماماً أنه سيموت قريباً، لذا يمكن القول أنها كتبت بعين جدلية عديمة الرحمة أظهر الكاتب من خلالها كيف أن الناس أنذاك كانوا يقولون شيئاً ويعنون شيئاً آخر!. أو، كيف يمكن لحديث حميمي بين أم وولدها وهي تعالج له جرحه إثر عملية إنتحار يمكن أن يخرج عن التحكم بمساراته ليتحول إلى حديث يضمر ضغينة ساخرة ولاذعة.
كان تشيخوف يعرف إن إمتلاك الناس لأفكار متضاربة في رؤوسهم بوسعه أن يؤدي إلى سلوك مربك ومشوش. وكان يدرك أيضاً أن الناس يمكن أن يكونوا قساة في التعامل مع من يحبونهم حين يتلاشى ذلك الحب من نفوسهم.
ليس ثمة شيء رومانتيكي أو وجداني إذاً هنا حول الطريقة التي رسم تشيخوف بها شخصياته أو كيفية التعامل مع بعضهم الآخر.
فلنتسائل هنا عن الذي أفادنا به تشيخوف بشأن سبر أغوار شخصية الكاتب تريجورين مثلاً؟
إن المعلومات التي قدمها لنا تشيخوف عنه شحيحة جداً بالطبع، إلا أن العودة لدراسة حياة تشيخوف وتفحصها بدقة تمنح الممثل الذي سيلعب دور تريجورين مفاتيح لمعرفة مغاليق خلفية هذه الشخصية وثقافتها!.
أو لنتسائل عن الفوائد التي يمكن أن تأتينا من دراسة الوضع الصحي لتشيخوف نفسه أنذاك، لمعرفة المشاكل الصحية التي كان تعاني منها شخصية الدكتور دورن مثلاً..؟
معروف أن تشيخوف كان يعاني من مرض السل الرئوي حين كتب هذه المسرحية، لذا يمكن لهذا الأمر أن يزودنا بمعلومة تفيد أن دورن يمكن أن يكون مصاباً بمرض السل هو
متابعة سيرة حياة الكاتب بهذه الدقة أوصل المخرجة أيضاً إلى إستنتاجات بصرية تتعلق بمكان أحداث المسرحية أيضاً: "مكان المسرحية" تقول كاتي: "هو عبارة عن ضيعة نائية تدعى "غوركي" تقع إلى جوار بحيرة طولها عشرة أميال خارج حدود مدينة "بولوغا"، في منتصف المسافة الفاصلة بين موسكو وسانت بطرسبورغ. إنها تبعد كثيراً عن البحر، وهي ذات الضيعة التي زار فيها تشيخوف صديقه الرسام إسحق ليفيتان في صيف عام 1895(***)حيث كان يقيم مع مدبرة منزله صوفيا كوفشيننكوفا، وقد كان تواً قد نجا من محاولة إنتحار بمسدس."
لتشييد بنية العرض المسرحي شطرت المخرجة نصها الجديد إلى ثلاث ثيمات تتحرك بشكل متوازي:
(1) أن تكون فناناً وعاشقاً في نفس الوقت.
(2) النزعة الأوديبية في علاقة الأم والأبن والعشيق.
(3) الأحلام المحطمة والحب غير المتبادل.
أما الخيط الرفيع الذي يدخل في نسيج هذه الثيمات الثلاث فهو النزاع المزمن بين الجديد والقديم، بين الميت والحي.
أن تكون فناناً وعاشقاً في نفس الوقت!
ثمة خيط رفيع يربط مابين موضوعتي الحب والفن في رؤية عرض مسرحية (طائر البحر)، فأركادينا الأم ممثلة كذلك نينا، أما تريجورين وكوستيا فهما كاتبان،الأول روائي والثاني مسرحي، والأربعة جميعاً عشاق.
أركادينا (الممثلة جوليت ستيفنسون) توظف مهنتها كممثلة لتسويغ نرجسيتها وزهوها وإستخدامها جسراً لتحقيق رغباتها العاطفية في علاقتها بتريجورين(الممثل مارك بازلي)، أو ربما لمقاومة إحساسها المفزع بسن اليأس والأفول، فيما نرى نينا (الممثلة هاتي موراهان) كممثلة تعزز فن التمثيل كنوع من الطقس الروحي تمنحه قدسية وتضحية ونبلاً حتى وأن تطلب ذلك إقصائها لحبيبها كوستيا (بن ويشو) والأقتران بكاتب في متوسط العمر مثل تريجورين.
أما كوستيا فنراه يشل نفسه تماماً وبشكل مكره في تحقيق أن يكون فناناً وعشيقاً في ذات الوقت، فيما نرى تريجورين في المقابل يوظف التفاصيل الثانوية من حياته الشخصية وحياة المحيطين به مادة ً لكتاباته دون أن يجيز للعمل أو المهنة أن تؤثران سلباً على مسيرة حياته.
الشخصيات الأربعة، بكلمة موجزة، تكافح وبدرجات متفاوته من أجل تحقيق ذواتهم في ميدان الأدب والفن، لأنهم يرون أن في إحرازهم إعجاب وإحترام الآخرين عبر هذا الميدان
بمعنى آخر، القناعة التي يحرزها أشخاص كهؤلاء في أنهم فنانون تصبح معادلة تماماً لمشاعرهم في أن يكونوا محبوبين أيضاً.
مثلث الحب الأوديبي
أما بشأن مثلث العلاقة بين الأبن والأم والعشيق فثمة تلميح جلي في العرض لما يسمى في علم النفس بعقدة أوديب، فالعلاقة التي تربط كوستيا بوالدته تكاد تتماهى وعلاقة أوديب الملك بأمه أو علاقة الأمير هملت بوالدته وهي علاقة غيرية إيروتيكية. فالعرض المسرحي الذي يقدمه هملت أمام والدته وعمه الملك في القصر (مسرح داخل المسرح) يتكرر هنا من قبل كوستيا في عرضه لمسرحيته التجريبية أمام أركادينا وعشيقها تريجورين قرب البحيرة، فضلاً عن أن النص التشيخوفي ذاته يتضمن الكثير من الحوارات المقتبسة أصلاً من هاملت شكسبير.
لابد من التشديد هنا من أن ثمة مشتركات بين خصال الشابان هاملت وكوستيا بمقدورها تسويغ إبراز فكرة كهذه، فكلاهما مفرط في حساسيته وكآبته وكلاهما غير موفق في علاقته العاطفية أيضاً، والأثنان يمتلكان إيماناً كبيراً بقدرات المسرح على الرغم من أنه إيماناً مشوشاً، وأخيراً كلاهما يتيم الأب ولديه شعور بغيرة خفيّة وربما إيروتيكية نحو الأم وعشيقها في (طائر البحر) وبين الأم وزوجها في (هملت).
ففي مسرحية شكسبير تتزوج جرترود أم هملت من عمه كلوديوس (قاتل أبيه) وفي طائر البحر ترتبط أركادينا أم كوستيا بعلاقة عشق بغريمه الكاتب تريجورين.
إن إبراز مثلث العلاقة بين الأم والأبن والعشيق إستطاع أن يشحن حبكة العرض بطاقة درامية أكبر لأنه كشف من خلالها عن سمات الشخصية العصابية القلقة والعاجزة تماماً عن تجاوز الصدمة المبكرة أو نسيان الماضي، وأعني بها شخصية كوستيا.
الممثل بن ويشو الذي كان قد لعب دور هاملت قبل سنتين على خشبة مسرح OLD VIC)) يستعيد في دوره الجديد تلك الذكرى الجميلة ثانية. ويشو يلعب هنا وبشكل رائع دور الكاتب الشاب المضطرب المثالي الشديد الحساسية والمتقلب المزاج الذي يمتلك رؤية جادة ومشوشة في نفس الوقت عن فن المسرح. إنه يصارع وبضراوة من أجل ترسيخ
إن إحدى مخاوف كوستيا الكبرى هي شعوره المضخم بإزدراء والدته له كشخص غير ممّيز وكاتب لاقيمة له مقارنة بتريجورين العشيق والكاتب، وهذا هو ما يفجر إحساسه العميق بالغيرة والحسد والفقدان والغضب إزاء غريمه تريجورين، ويؤسس لفكرة مثلث الحب الملتبس أو (مثلث الحب الأوديبي) وأعني به مثلث العلاقة بين الأم والأبن والعشيق.
في الواقع أنا أخالف رؤية المخرجة وتفسيرها لهذه العلاقة وأعود لأؤكد على إن علاقة الحب بين كوستيا ووالدته هي ليست علاقة إيروتيكية بقدر ماهي تعكس حاجة كوستيا إلى حنان الأمومة والحب التي يفتقدها في أمه والتي لم تمنحها أركادينا له. هذا التوق أو الشوق لحنان الأم هو الذي يضعه في منافسة غير متكافئة بل وخاسرة مع تريجورين.
بإمكان أركادينا أن تلعب دور الأم بشكل رائع وجميل بالطبع، إلا أن ذلك لايمكن أن يحدث إلا حين يكون الأبن تحت هيمنة الأم (الميت الذي يمسك بالحي).. وهذه هي المعضلة!.
جوليت ستيفنسون (أركادينا) هي ممثلة ممسوسة حقاً ولديها القدرة على ملامسة قعر الشخصية التي تريد تجسيدها بيسر. ففي طريقة تعاملها مع ولدها كوستيا ظهرت لنا كأنها تتأرجح بين القسوة المعلنة والأثم الذي يقود إلى الندم، فهي تحبه وتمقته في ذات الوقت. تحبه لأنه ولدها وتزدريه بسبب عنفوانه وطموحه الذي يذكرها بكهولتها وأفول نجمها وزال عالمها. الشيء الذي يؤخذ على ستيفنسون وهي تجسد هذه الشخصية أنها أظهرت أركادينا ودية وشفوقة جداً وهذه مجازفة ومخالفة للنص التشيخوفي تماماً.
أما بن ويشو (كوستيا) فقد جسد بحساسية هاملتية شخصية هذا الشاب العشريني في محاولته العابثة لإحداث صدع في البناء النرجسي لوالدته، هدفاً في إنتزاع شيء من ذلك الحب الذي هو بحاجة إليه مثل طفل صغير.
الأحلام المحّطمة
لاتوجد شخصية تشيخوفية تخلو من التذمر أو الشكوى سواء كان ذلك بسبب الملل أو سكون الريف أو فقدان الحب المتبادل أو غياب الحنو العائلي أو بسبب الزيجات الخائبة أو مخاوف سن اليأس أو الأفتقار إلى الشهرة أو خيبات الأمل الأخرى.
جميع الشخصيات تحلم بواقع شعري إلا أن تلك الأحلام تتقوض حال ملامستها الواقع اليومي. مثلثات الحب تتشيد وتتهدم في اللحظة نفسها لتكشف عن خواء وإمتلاء روحيان مغلقان لايلتقيان، عن حب من طرف واحد، حب غير متبادل. فماشا تحب كوستيا وكوستيا يحب نينا، نينا تحب تريجورين وتريجورين عشيق لأركاديا، بولينا تحب الطبيب دورن
ملاحظات أخيرة خاطفة ومختزلة
ـ الديكور الذي صممته فيكي مورتيمر لايشير إلى أي مكان محدد، فهو لم يكن بيتاً ريفياً قبل الثورة الروسية كما في النص التشيخوفي، بل هو عبارة عن باحة فسيحة خربة داخل بناية مهجورة جدرانها عارية متآكلة يتساقط طلاء الجدران من سقفها شبيهة بمنزل عتيق أو مكان منسي.
المصممة فيكي تكرر أسلوبها السينوغرافي لمسرحية (إفجينيا في أوليس) مرة أخرى والذي سبق لها أن صممته لعرض المخرجة كاتي ميتشيل منذ عامين والذي تتمحور وظيفته في إخلاء فضاء المسرح من الأثاث والأكسسوارات المسهبة هدفاً في إقصاء الهوية الزمانية والمكانية للنص ولأضفاء بعداً إنسانياً كونياً عليه، فضلاً عن أن من شأن ديكور كهذا منح جسد الممثل فسحة أوسع للتعبير والأرتجال والحركة.
الشيء الذي أثار إعجابي حقاً هو دقة تنفيذ المسرح الدوار وإنسيابية حركته على خشبة المسرح والذي شيدّ في مقدمة المسرح لغرض عرض مسرحية كوستيا التجريبية.
لقد إندفع المسرح الدوار نحونا بشكل مفاجىء ومفزع مستديراً إستدارة كاملة تقريباً حتى أحال القاعة التي نجلس فيها إلى بحيرة، فأصبحت وجوه جمهور المسرحية في مواجهتنا (أعني جمهورمسرحية كوستيا ـ الممثلون) فيما أصبح ظهرْ نينا نحونا. (مسرح داخل المسرح).
ـ والآن، يمكن لنا أن نتسائل لماذا إختار المعدّ عشرينات أو ثلاثينات القرن الماضي زمناً للأحداث؟ هل كان يراد من ذلك نقد الفترة السوفييتية والتلميح إلى أن الثورة لم تغير شيئاً من الضيعة الريفية الخربة لسورين؟ أم أنه أراد من ذلك ردم الهوة الزمنية بيننا وبين زمن الأحداث؟
لقد أدخل المُعّد في حوار نصه الجديد مراجع صورية ولفظية تشير إلى الكولاك والمزارع الجماعية والخطط الخمسية إلا أنها جميعاً كانت زائدة ومقحمة على العرض وغير ضرورية. ثم لماذا هذا العدد الكبير من الخدم رغم أن النص الأصلي يخلو من ذلك؟
لقد كنا نرى أجزاء من الطلاء المتآكل وهو يتساقط من سقف المنزل على رؤوس ساكنيه أثناء الجري السريع للخدم ودخولهم وخروجهم المتخاطف فيما هم يفتحون الأبواب ويغلقونها بقوة!. مرة أخرى، هل كان المقصود من ذلك القول أنه رغم قيام الثورة البلشفية إلا أن الخدم الموالون للأقطاع مازالوا في الوجود؟ أم كان يراد منه العكس في أن يكون مجازاً لحتمية تقويض ذلك القصر الروسي الخامل المتراخي الآيل إلى السقوط؟ وإذا لم يكن هذا ولاذاك فهل هو تعبير عن الفوضى الداخلية للشخصيات؟
ـ لقد أعجبني جداً توظيف مصمم الصوت كريستوفر شات للمؤثرات الصوتية، فالطقس العاصف والريح الهائجة وموج البحيرة وهو يرتفع قبيل عودة نينا من موسكو، كله يشارك في جلب نينا (الطائر) إلى البحيرة، متزامناً مع سقوط قطع الدهان من السقف داخل تلك الغرفة الغائرة والشبيهة بكهف.
المناخ الذي تخلقه المخرجة عموماً في معالجتها الجديدة هو مليء بالأمطار والرعود والعواصف، لهذا السبب نجد سكنة منزل سورين مثقلين بالمعاطف المطرية الثقيلة والمظلات طوال الوقت.
ـ لم أرَ من قبل عرضاً لطائر البحر تضج فيه رقصات التانكَو ذات الأيقاع المدبب الحاد والسريع وسط سكنة منزل سورين المتراخين والمحبطين. إن إستخدام المخرجة للتانكَو رقصاً وموسيقى وجعل شخصياتها تؤدي هذه الرقصة الأنيقة الرائعة بشكل مكرور زوّدت العرض بتضاد موسيقي دينامي لأيقاع العلاقات المعذِبة البطيئة والعسيرة الحل في المسرحية.
لقد وُظفت التانكَو رقصاً وموسيقى كنوع من المونتاج والأنتقال من مشهد لآخر، كما إنها أحدثت في نفس الوقت نقلات مفاجئة في طبيعة الشخصيات ذاتها فأصبحت تلك الشخصيات المتراخية كاريكتورية تتقافز أشبه بالدمى المتحركة، فضلاً عن ذلك فقد كان لتلك الموسيقى بإيقاعها المثير والسريع الفضل في التخفيف من بطء المشهد التشيخوفي وثقله وبعث النشوة والحيوية والفرح في عموم العرض.
أما توظيف موسيقى أوبرا (دون جيوفاني) لموزارت فقد كان موفقاً جداً، فإغواء دون جوان للفتاة زرلينا وهجرها في الأوبرا يتماهى تماماً وإغواء تريجورين لنينا في المسرحية.
الشيء المميز الآخر للمخرجة كاتي هو توظيفها الفطن للضوء فلقد بدت وجوه الممثلين باهتة شاحبة نصف مضاءة تحوم ظلالها كالأشباح في أركان المكان المعتم جزئياً. يبدو لي أن كاتي أرادت تقديم تشيخوف ليس من خلال الألوان بل عبر تدرجات الأسود والأبيض.
يمكن لك في مسرحيات تشيخوف بالطبع أن تكون مرحاً موحشاً وكئيباً في نفس الوقت، إلا إن عرض كاتي ميتشيل إستطاع حقاً أن يضفي شيئاً من البهجة المنعشة في نفوسنا جعلتنا نغادر المسرح بحساسية تشيخوفية كوميدية معتمة شفيفة وحزينة.
هامش:
المسرحية تعرض حالياً على قاعة مسرح ليتلتون ( المسرح الملكي البريطاني)
الترجمة عن الروسية: هيلين رابابورت
إعادة كتابة: مارتن كريمب
إخراج: كاتي ميتشيل
الممثلون:
جوليت ستيفنسون بدور إيرينا أركادينا
مارك بازلي بدور تريجورين
بن ويشو بدور قسطنطين تريبليف (كوستيا)
هاتي موراهان بدور نينا
ساندي ماكَداد بدور ماشا
جاستين سالنجر بدور ميدفيدنكو
كَاون كَرينجر بدور سورين
أنكَوس رايت بدور دورن
مايكل موراهان بدور شمراييف
ليز كيتِل بدور بولينا
موسيقى: سيمون ألِن
الصوت: كريستوفر شات
الأضاءة: كريس دايفي
تصميم الملابس: نيكي جيليبراند
تصميم الديكور: فيكي مورتيمر
مدرب الرقص والحركة: سيترون ليسلي
(إستغرق العرض ساعتان ونصف الساعة)
سير:
كاتي ميتـشيل (كاترينا جين) (1964)
مخرجة مسرحية بريطانية وفنانة خلاقة ذات مخيلة خصبة وحساسية جمالية مرهفة فضلاً عن جرأتها المتميزة في مشاكستها للنصوص الكلاسية وتطويعها للراهن. تعمل كاتي بشكل متواصل ومتزامن كمخرجة ومدربة للتمثيل في أشهر مسرحين في لندن وهما (المسرح الوطني الملكي البريطاني) و (مسرح كورت الملكي). عملت كاتي وماتزال مع عديد من الفرق المسرحية البريطانية لعل أبرزها فرقة شكسبير الملكية من خلال عروضها الألِقة أمثال "الخال فانيا" لتشيخوف و"هنري الخامس" لشكسبير، و"الفينيقيات" ليوربيدس (هذه الأخيرة كانت حصلت على جائزة "ستاندرد" كأفضل إخراج لعام 1996 ). أما في قاعة مسرح "دونمار وورهاوس" فقد قدمت "نهاية اللعبة" لبيكيت والتي حصلت على جائزة (تايم أوت) هي الأخرى كأفضل مخرجة لنفس العام.
إستأنفت كاتي عروضها فيما بعد على مسارح عّدة منها مسرح كورت الملكي حيث قدمت مسرحيتان هما Live like pigs وThe Country، أما على خشبة المسرح الوطني البريطاني فقد أسهمت بعروض إستثنائية عدّة أمثال "أورستيا" التي أعدّها الشاعر الأنكليزي تيد هيوز عن ثلاثية إيسخيلوس، ولهارولد بنتر أخرجت "لغة الجبل" و "من التراب إلى التراب" تبعتهما وعلى ذات المسرح بـالعروض التالية: "يفجينا في أوليس" ليوربيدس، و "لعبة الحلم" سترندبيرغ ثم "الشقيقات الثلاث" و"إيفانوف" و "طائر البحر" لتشيخوف. عملها الحالي "طائر البحر" الذي يعرض على خشبة المسرح الوطني الملكي يأتي تتمة لرحلة تأملاتها المتواصلة لثيمات تشيخوف وشخصياته، تلك الرحلة التي بدأتها ولم تنته منها بعد. تقوم كاتي حالياً بالتدريبات على عملها الجديد (الأمواج) المقتبس عن رواية فرجينيا وولف والذي سيعرض على خشبة كوتيسلو في المسرح الوطني الملكي في 7:01:2007
(***) إسحاق ليفيتان (1860ـ1900)
رسام المنظر الطبيعي الروسي الحزين ومبدع لوحة (البحيرة الصفراء) و(يوم خريفي في سوكولنيكي)، ذلك الفنان الذي كان ينبعث من قماشة لوحاته خريف موسكو الرمادي المُذهّب الحزين مثل حياته وحياة موسكو نفسها أنذاك.كان تشيخوف قد إستدعي يوماً وبشكل عاجل إلى منزل ريفي يقع بجانب بحيرة لينقذ حياة صديقه الرسام ليفيتان الذي حاول أن يطلق الرصاص على نفسه بحضور المرأة التي كان عليه أن يسدد لها ديوناً. ثمة حادثة واقعية أخرى تتحدث عن خروج تشيخوف وليفيتان يوماً لصيد الديوك البرية وكان ليفيتان يومها قد أصاب طائراً وقتله، إلا أن ميتة الطائر تلك كانت سببت له حزناً شديداً. لايوجد بالطبع سجل مدوّن يذكر هذه الحادثة وتفاصيل تلك الزيارة، إلا إن من الواضح أن تلك الحادثة تركت أثراً واضحاً على المسرحية فضلاً عن إن أحداثها تدور قرب بحيرة وتتضمن حالتي إنتحار وفي المرتين ثمة مسدس!.