الأسفار بين أسطرة الحاضر وواقعيةالماضي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السِفر، لغة، الكتاب الكبير1، وهو جزء من اجزاء التوراة وجمعه اسفار، ارتأى الكاتب ان يكون الجمع عنوانا لنصه بعد ان اضاف اليه اداة التعريف (ال) ليحدد اي الاسفار يريد، وما كان ينبغي له ان يفعل ذلك لان العنوان معرفا احالنا الى اسفار الكتاب المقدس مع اننا نعرف غايته سلفا، ونعرف انه اراد ذلك كي يضعنا، منذ البدء، امام احداث تراثية ذات طابع طقسي واجواء اسطورية اشار الى عصرنته اياها عندما وصف شخصية (سفيان) في فقرة "شخصيات مسرحية" بانه "بطل من العصور الغابرة والمعاصرة" او عندما حدد الزمان مؤكدا على ان احداث النص "تتحرك بين العصور الغابرة والمعاصرة" واضاف اليها انها (اي الاحداث) "دون تراتب منطقي" ولم يشر الى ان النص يخلق بنفسه لنفسه تراتبا منطقيا خاصا اذ لا وجود لنص درامي ، مهما استغرق في لا معقوليته وتجاوزه لحدود الواقع و الممكن، بلا منطق يحكمه او يحتكم اليه حتى ما يأتي به الجنون يأتي على وفق منطق خاص يبرره ويضع له شروطا نجد محدداتها في مناطق الاستجابات التي لم يخصصها الدماغ لتلك الاستجابات.
(إي ! لقد كان الوقت عصرا، حين اتخذت الاستعدادات للرحيل معي في خرج البعير.التعاليم السرية: سبع حصى، مؤونة لسبعة ايام، وسيفي النحاسي ! ودعت صديقي الراعي، واخذت اغذ السير الى اعماق الصحراء.)
ويروي لنا انه اصطحب امرأة الى واحة السمسم فسحبته المرأة الى ما تحت الرمال وصولا الى نهاية الحدث الاول حين يقرر انه الان في اعماق الصحراء مدفونا تحت الرمال.
من سياق المشهد (السفر الاول) لم نجد ما يغاير الاطر الفنية المعروفة للمشهد المسرحي التي غالبا ما تبدأ بدخول البطل وتنتهي بخروجه ،كما هو الحال في المشهد الفرنسي التقليدي او بدء الحدث وانتهائة مرحليا ، كما في المشهد الملحمي المستقل ذاتيا والمرتبط ببقية المشاهد موضوعيا او.. او.. الخ. وحتى وجود اللازمة الاعلانية للراعي وتكرار (إي! ) كلما ابتدأ (سفيان) مشهدا من مشاهد المسرحية لم يشفعا في تبرير هذا التغيير خاصة وقد سبقت هذا النص نصوص تم الاعلان عنها بوساطة معلق او راو او مذيع او عريف حفل او ممثل.. الخ. وهذا لا يعني بالضرورة الغاء دور الراعي ولازمته الاعلانية لان وجوده بهذه الطريقة اضفى على النص خصوصية قصد منها التهيئة التمهيدية للدخول الى احداث السفر وما يليه على الرغم من صغر الدور الذي لعبته شخصيته و محدوديتة فعلها ومساحتها النصية. وما يحسب لهذا التغيير ، قدرته على زجنا في طقوسية اجواء النص وتراثيته وقد عززت هذه الطقوسية لغة حازم كمال الدين الطيعة المنيعة واعتمادها على اسلوب التكرار الذي ألفناه فيما خلفه لنا العراقيون القدامى من رقم طينية دونوا عليها اناشيدهم واساطيرهم واخبار ملوكهم الغابرين.
ان ما يميز استخدام الكاتب للميثولوجيا ، هنا ، انه لم يعتمد ، كما هو الحال مع بعض مسرحياته ، على نص اسطوري محدد او شخصية اسطورية محددة بل انفتح على الميثولوجيا انفتاحا شاملا آخذا منها ما يخدم نصه ويفعل فكرته ويربطهما بتراتبية زمنية تفضي الى فكرة اساسية تتمثل في عدم توقف دورة الشر الزمنية عن اداء فعلها القاسي واثرها التاريخي. ولهذا حرص الكاتب على تحديد مهام (سفيان) في كل سفر من الاسفار التسعة داخل النص فجاءت المهام على وفق الترتيب الاتي:
السفر الاول: ايصال رسالة استخباراتية.
السفر الثاني: الشروع باكمال المهمة التي كلف بها في السفر الاول.
السفرالثالث: استنبات الصبار في الصحراء بأمر من مديرية الامن العامة.
السفرالرابع: تهريب النفط في باخرة تمخر الفرات.
السفرالخامس: استطلاع اماكن مجهولة في الصحراء.
السفرالسادس: بناء صحارى جديدة على حافة الصحراء.
السفرالسابع: الهجوم على مخابئ سرية في الصحراء.
السفرالثامن: قتل الراعي المسؤول عن نقل الاوامر من المديريات الى سفيان.
السفرالاخير: انتهاء المهام السابقة واعرابه عن استعداده للقيام باي مهمة اخرى اذا نودي عليه عند حلول المساء.
ان نظرة سريعة الى هذه المهام تكشف عن طبيعتها العصرية وعن نوايا بيتها مستبدون معاصرون لتفعل فعلها في اناس لم يشر اليهم حين اكتفى بوضعها ضمن الاطر التراثية والحكايا الشعبية.ففي السفر الاول يحمل (سفيان) التعاليم السرية ويغذ السير الى اعماق الصحراء ويكتشف ان المرأة التي رافقته ليست الا جنية تعيش تحت الرمال وتحتكم بامر والدها شيخ الجان وكما في اغلب الحكايا الشعبية فانها تحتجزه سبع سنين يكون خلالها طائعا لها ومنفذا لرغباتها ان لم يبسمل قبل ان يقوم بأي عمل مهما كان ذلك العمل بسيطا وتافها. على هذا الاساس الشرطي واقعته واحتفظت به داخل جرة من جرارها حتى نجح في جعلها تطلق سراحه وتطلب من والدها ان يزوجها له. وعلى الرغم من رفض شيخ الجان لطلبها احتفظت به في جرتها حتى ماتت وتحول جسدها الناري الى رماد. وهنا يكشف سفيان عن هويته الامنية حين يقول في ادعائه اختطاف الجنية من قبل اناس يعيشون فوق الرمال:
"اني قادر - بحكم مهنتي - على تعقب الخاطفين واسترجاعها. "
ويدعم هذا بتصريحه في الاسفار الاخرى عن تكليفه بمهامه من قبل المديرية التي ينتسب اليها وهي كما جاء في السفر الثالث مديرية الامن العامة.
نستنتج من هذا ان (سفيان) شخص تابع مهنيا لنظام امني لا يعمل ضمن دائرة سيادته حسب بل ويتعدى ذلك الى مساحات تقع خارج هذه الدائرة. وهو اداة ناشطة وفاعلة من ادوات ذلك النظام ومدرب ، بشكل جيد، ليقوم بمهام مختلفة: استخباراتية وتهريبية وتغييرية ، وان صديقه الراعي ما هو الا اداة الوصل الرابطة بينه وبين من يضعون القرار ويوجهون الاوامر فهو من ناحية يؤدي مهامه المهنية المرتبطة بزبانية تلك المديرية ، ومن ناحية اخرى يؤدي دوره البرولوجي في مفتتح الاسفار. ولقد آثر الكاتب ان يمنحه اسم (الراعي) داخل النص لاسباب لا تتعلق بطبيعة المهمة التي صارت معروفة لنا عبر عدد من النصوص الدرامية والاسطورية التقليدية والمحدثة.
وفي السفر الثاني يعطي هاتين الشخصيتين ملامح جديدة من خلال دال مهم هو نبتة الخلود التي تجعل من (سفيان) صورة اخرى من صور كلكامش الاسطوري المستبد والمغامر العراقي الذي يقطع الافياء والبراري سعيا وراء عشبة الخلود. وتجعل من الراعي صورة مقاربة لصورة الافعى التي تنعمت بعشبة الخلود تلك فاستبدلت جلدها واستعادت شبابها وهو عين ما فعلته بالراعي. وفي هذا اشارة الى تجدد مخططات مديرية الامن العامة واستمرارها على النهج نفسه الذي سارت عليه منذ اربعين عاما. وفي هذا السفر ايضا يعود الكاتب لموضوعة الجنية التي يظهرها ، هنا ، على شكل صنم ناري او وثن نسائي تكمن فيه مهمة (سفيان) الجديدة التي جسدها بشكل طقوسي حين رسم بسيفه ، على الرمال ، نجمة سباعية الرؤوس واضعا حصاة على رأس كل زاوية منها ، واذ يقرأ تعويذته الخاصة تدب الحياة في الوثن وتتحرك الجنية زاعمة ان لها سبع ارواح. ولعل من الجدير بالذكر هنا ان نشير الى تأكيد الكاتب على الرقم سبعة وعلى تكراره في مواضع مختلفة من الحوار والاحداث. لقد حجزت الجنية (سفيان) في الجرة سبع سنين وبعد ان ماتت اعادها للحياة برسم نجمة ذات سبع رؤوس واضعا في رؤوسها سبع حصى ثم نعرف ان للجنية سبع ارواح. وان الصبار لم ينبت طوال سبعة مواسم ، في صحراء الربع الخالي.
في السفر الثالث يكشف (سفيان) عن وجه اسياده القبيح بعد ان يفشل في استنبات الصبار يقول بيأس:
"سبعة مواسم مضت ولم تنقلع الارض وما انبثقت حياة
سيقتلونني كالكلب اذا لم افلح هذه السنة باستنباته."
ويلجأ ثانية الى الاسطورة فيأخذ بذورا ميتة جاء بها من العالم السفلي ينثرها بجانب الحصى فتنشق الارض ويندلع الصبار. وامعانا في الاسطرة يقوم (سفيان) بالتهام الصبار فينط احد اضلاعه مخضبا بالدماء وقد نبتت عليه زهرة صبار اخذها ولفها بالجريد ثم دفنها في جذور النخيل. بعد اسبوع واحد فقط حدثت المعجزة وخرجت من بين جذور النخيل ابنته (زهرة الصبار).
ان حازم كمال الدين لا يكتفي بما تمنحه الاساطير والتراث من طاقات فكرية و درامية لانه غالبا ما يصنع اسطورته الخاصة اعتمادا على الاجواء الطقوسية التقليدية وانطلاقا منها الى محددات اسطورية مبتكرة. بمعنى ان حازم يؤسطر احداث نصه عندما تتوقف الاسطورة عن منحه ما يريد. وان اسطرته هذه يقصرها على الاحداث المعاصرة تاركا احداث الماضي على ما هي عليه حد انك لا تستطيع الفصل بين الواقعي والمؤسطر او بين الحاضر والماضي فكلاهما عنده يقعان ضمن دائرة الشر الزمنية.
ولم تختلف (زهرة الصبار) في سلوكها عن سلوك عشتار ورغبتها في مواقعة من تشتهيه نفسها. وعندما طلبت من الانسان مواقعتها ذكرها بشبقها العشتروتي القاتل كما فعل كلكامش ، من قبل، مع عشتار. يقول صارخا في وجهها:
انت تلتهمين كل من تقترنين به! ألم تفعلي هذا بغزال البراري ؟ الم تبتلعي فحل النخيل ؟ هل نسيتي الذي فعلته بصخرة الجبل ؟
وفي السفر الرابع يرحل (سفيان) على متن باخرة لتهريب النفط. تتبعه حمامة تحت جناحها ندبة كان كلما سمع زقزقتها (والاصح هديلها) يرمي لها الخبز. وكانت عينا شيخ الجان تمنعانه بشواظهما من افراغ حمولته حتى تمكن من شق احدى العينين والتهمها. بعد اسبوع ظهر الراوي وقد تحول الى راع للحمام. ويستمر الصراع بين قوى الشر نفسها بين (سفيان) وعيني شيخ الجان والجنية المتخفية بهيئة حمامة. ينهزم (سفيان) ويروي لنا هذه المرة عما حدث له مع السعلاة وهي من الحكايا الشعبية المألوفة المتداولة بين العساكر على وجه الخصوص. ويكمل انه التقى بابنته (زهرة الصبار) ووقع في حبها وقرر الزواج منها. واذ رفضت صار يسوقها عنوة الى مخدعه. ان حازم كمال الدين وهو يسمح لسفيان بمواقعة ابنته انما يروم من وراء هذا الى تأكيد نغولية (سفيان) ونغولية ذريته. ويبدو لي ان التنغيل هنا يمتلك مبررات وقوعه اذا اخذنا سلوك (سفيان) العام وسلوك ابنته الشاذ بنظر الاعتبار. وعلى المنوال نفسه يقوم سفيان بأداء المهام الاخرى فيما تبقى من الاسفار وفيها يكتشف ان صديقه الراعي لم يكن الا وجها من وجوه جنيته الجميلة ونكتشف ان (سفيان) لم يكن الا وجها من وجوه (شيخ الجان). يقول في خاتمة المسرحية:
"شفتا شيخ الجان تتحرك، والصوت ينطلق من حنجرتي. هذا الذي كنت شاهدا على حدوثه. انا شيخ الجان. "
هكذا يثبت حازم شهادته على ما رآه من زاوية واحدة دون ان يترك لقارئه فرصة الاطلاع على ماحدث للآخر او لقوة الصراع الاخرى التي غيبها النص مكتفيا بالقاء الاضواء على حقيقة الشر وقواه العابثة خلافا لاغلب الاعمال الدرامية السائدة. وقد كلفه هذا تنحية عنصر او اكثر من عناصر الدراما الاساسية واستبداله بعنصر او اكثر من عناصر السرديات الادبية. فلو عدنا وتفحصنا النص بكامله لوجدنا ان اغلب شخصياته لم تتحاور مع بعضها حوارا مباشرا ، اكثر الاحيان، ولم يدخل بعضها في صراع مع بعضه الاخر. واكتفت اغلب ان لم نقل كل الشخصيات برواية ما حدث لها او لغيرها باسلوب درامي ، يقترب في مفصل او اكثر من مفاصل العمل المسرحي ، من المونودراما. فمن الرواية يستعير حازم كمال الدين اسلوبها في رواية الاحداث محولا شخصيات نصه من شخصيات تفعل الى شخصيات تروي. صحيح ان روايتها للاحداث مؤسسة على بنية الفعل بشكله الدرامي المعروف ، وعلى وحدة وتناقض الاضداد مما يقربها من المونودراما الا انها تظل بشكل عام محتفظة بجنوحها نحو الادب اكثر من ثباتها كجنس درامي تقليدي. ففي السفر الاول والاسفار التي تبعته نجد الراعي مجرد معلن عن بدء الاسفار ، ولا يتحاور مع (سفيان) الا في السفر الرابع حين يقول:
الراعي: سفيان! عليك حماية الحمامة. منذ اسبوع والحمامة تتعرض لمحاولة اغتيال
وكان سفيان قد اعلن عن ظهوره سلفا حين قال:
" بعد اسبوع ظهر الراعي وكان هذه المرة راعيا للحمام "
ثم يعود في السفر نفسه ليقول:
الراعي: اهرب ، ثمة مؤامرة تحاك ضدك. حياتك في خطر ولا احد يستطيع مساعدتك.
وفي السفر الخامس والسابع يحظى ببضع جمل مقتضبة جدا تهمش شخصيته وتنهي دوره في النص تماما. اما الشخصيات الاخرى فعلى الرغم من دخولها في حوار انفرادي مع (سفيان) الا انها في اغلب الاحيان كانت تروي او تكمل ما رواه (سفيان). لنقرأ هذه الفقرة لشيخ الجان على سبيل المثال:
شيخ الجان: بعد فوات الاوان.. بنشوة هائلة ارتعد كل شئ. الحوت استيقظت تحت الرمال. اصطفقت اشجار النخيل ببعض (والاصح بعضها ببعض) وتناطحت الصخور. ضربت الحوت الهائجة بذيلها يمينا ويسارا ، فتقطعت رؤوس النخيل وتدحرجت في عرض الصحراء.. الى اخر الفقرة. ولنقرأ ايضا الفقرة الاتية:
شيخ الجان: بدأت الجنية ترسم اشكالا غريبة في الهواءعندها وبمثل لمح البصر خلقت معجزة: تشتت انتباه خمبابا فاستلتالجنية سيف سفيان النحاسي من غمده وانقضت على الربة (والاصح على الرب لان خمبابا ذكر وليس انثى حسب ملحمة كلكامش) كشرت الربة عن اسنانها واندلعت المعركة.. نظر سفيان واذا به يرى الندبة تحت صدر خمبابا فعرف من هي خمبابا (يصح التأنيث هنا لان الشخصية منتحلة ).
ولو استعرضنا الفقرات الاخرى لوجدنا انها جميعا تعتمد على رواية الاحداث حسب. ولم يكن حوار الجنية ، على قلته ايضا ، قادرا على تحريك محفزات الصراع الدرامي في الوقت الذي ظل (سفيان) يروي الوقائع والاحداث بما اوتي من قدرة على شحن تلك الوقائع والاحداث بالطاقة الدرامية الفاعلة. ولنا في اقواله امثلة امتلأ النص بها فأن دققنا فيها وجدنا انه ابتدأها في الغالب بفعل يشير الى وقوع الاحداث وانتهائها في الماضي وان المتحدث ينقل لنا تفاصيل تلك الاحداث حسب. ومن تلك الافعال نذكر ما يأتي:
كان الوقت عصرا.. ودعت صديقي.. فكرت.. هكذا عشت.. حدث ذات يوم (وصحيحه ذا يوم).. ماتت الجنية.. لقد حدث ذلك.. قلت لنفسي.. تناولت فطوري.. حدقت بها.. خرجت.. وجدت انيسا واقترنت به.. ظهرت السعلاة.. هربت الى عالم اخر.. بدأت الجنية.. كان ذلك لسنوات طويلة.. نظرت في عباءته.. الخ.. الخ.
وهي كلها تدل على ان الشخصية لم تكن تفعل (على وفق المفهوم الدرامي ) بل تقول (على وفق المفهوم السردي ). وان هذا التغيير الوظيفي ادى الى تغيير جنسي لم تؤازره دراسة مستفيضة له ولم تسبقه تنظيرات ممهدة فان كان حازم كمال الدين قد فعله بدافع التجديد او التجريب فعليه ان يضع نصب عينيه ايجاد المبررات العلمية والفنية المقنعة لهذا التغيير الفني الخطير.
اقرأ أيضا: