بيتر بروك مسرح التعزية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في عام 1970 قام المخرج الانجليزي الشهير بيتر بروك مع فريقه المسرحي بزيارة الى ايران ضمن زياراته العديدة الى بلدان شرقية للاطلاع على تراثها الملحمي والاسطوري، وتقديم عروض مستلهمة من ذلك التراث. ويصف بروك رحلته في كتابه "ليس هناك اسرار" قائلاً: " قطعت مجموعتنا الصغيرة من الاصدقاء كل المسافة الى ايران، عن طريق الجو الى مدينة ( مشهد)، وبعدها ارتحلنا بسيارة الاجرة الى عمق الريف الايراني المفتوح، حيث تركنا الطريق الرئيسي، واصبحنا نسير على طرق طينية وعرة، وذلك لكي نحافظ على قواعد لقاء غير مؤكد مع عرض مسرحي". والعرض المسرحي الذي يقصده بروك هو عرض واقعة الطف في كربلاء، الذي يشخص فيه الشيعة استشهاد الحسين(ع) في كربلاء في العاشر من محرم كل عام، ويدرج في تاريخ المسرح العربي ضمن الظواهر التمثيلية، او الاشكال شبه المسرحية التي عرفها العرب، ويسمى تجوزاً بمسرح (التعزية) او (العزاء). وانطلاقاً من رؤية بروك الاستشراقية، واعجابه الرومانسي بالطقوس والاساطير والملاحم الشرقية، يبدي دهشته مما شاهده من تمثيل لتلك الواقعة المأساوية، واسلوب عرضها، بادئاً بوصف فترة ما قبل العرض اولاً: "وجدنا انفسنا فجأة خارج حائط بني اللون يحيط بالقرية، حيث هناك بالقرب من شجرة تجمع ما يقارب من مائتي شخص في شكل دائري، وقد وقف بعضهم وجلس بعضهم الآخر تحت تلك الشمس الحارقة، على هيئة حلقة بشرية كاملة الاستدارة، حتى اننا الخمسة الغرباء قد ادمجنا تماماً قي وحدتهم. كان هناك رجال ونساء قد ارتدوا الملابس التقليدية، وكان هناك شباب قد لبسوا سراويل (الجينز) المعروفة، وقد اتكأوا على دراجاتهم الهوائية، وكان الاطفال في كل مكان. كانت جماهير القرية تتوقع تماماً ما سوف يحدث، وذلك لانهم كانوا على علم بتفاصيل ما هو قادم، اما نحن فلم نعلم شيئاً، فكنا في هذه الحال نمثل المشهد النموذجي، كل ما كنا قد اخبرنا به هو ان العزاء شكل من المسرحية الاسلامية الغامضة، وان هناك عدة مسرحيات شبيه، وانها تصور استشهاد الأئمة الأوائل من آل بيت النبي محمد ". ثم يصف بروك العرض بقول: "كان الموسيقي الجالس تحت الشجرة يعزف ايقاعاً مباشراً على الطبل، ويتقدم قروي الى وسط الدائرة ينتعل حذاءه المطاطي، وقد بدأ في مظهر شجاع، كان قد وضع قطعة طويلة من القماش الاخضر الزاهي الالوان حول كتفيه، انه اللون المقدس، لون الارض الخصبة، الذي يشير الى ان ذلك الشخص رجل مقدس، هكذا قيل لنا، فبدأ يغني لحناً يحتوي على قليل من النوتات في نمط معاد ومكرر لكلمات لم نتمكن من متابعة معانيها، ولكن اتضح معناها في الحال من خلال صوت قد انطلق من اعماق المغني. ان الهياج العاطفي الذي كان به وهو يغني لم يكن نابعاً منه، بل كأنه صوت ابيه وابيه الى آخر السلالة. لقد وقف هناك ورجلاه متباعدتان، وكان مقتنعاً بقوة تامة، بعمله هذا، وكان هو تجسيداً لتلك الشخصية التي هي في مسرحنا، دائماً بمثابة اكثر الشخصيات حيرة، وهي شخصية البطل ".
وعلى الرغم من ان بروك لايقدم تفاصيل للاحداث التي يحتويها العرض، فانه يعبر عن وجهة نظره في دلالات ذلك العرض وجوهره الطقسي، واداء الممثل، واختلافه عن اداء الممثل الغربي في المسرح، فيرى ان شخصية العرض يمكن ان ينظر اليها مثل سقوط (إيكاروس) في الاسطورة اليونانية، الذي حاول ان يحلق فوق محطته ليصل الى الآلهة. وهو تشبيه ارى انه في غير محله يشير الى عدم تعمق بروك في فهم ابعاد الشخصية و حساسيتها في هذه الواقعة التاريخية. ولكنه في المقابل يحلل نمط الاداء برؤية ثاقبة مؤكداً ان مشهد العزاء لا توجد فيه محاولة، من وجهة المسرحية، للقيام بأي شيء باتقان تام، فالتمثيل هنا لايتطلب خلق شخصيات روائية بالغة الكمال، وكاملة التفاصيل، او حقيقية جداً، وإذا لم تكن ثمة محاولة للتزيين يوجد معيار آخر يحل محله: وهو الحاجة الى ايجاد الصدى الحقيقي الداخلي للنفس. ومن الواضح ان هذا لايمكن ان يكون موقفاً عقلياً، او موقفاً جرى الاعداد له بوعي، ولكن في صدى الاصوات كان ثمة رنين واضح لعادات عظيمة. كان السر واضحاً خلف هذه التظاهرة، يوجد اسلوب حياة، وحياة كان الدين جذورها.
ويفضل بروك التجربة الطقسية التقليدية لعرض (العزاء) بأدواتها الفقيرة وتقنياتيها البسيطة، وفضائها الشعبي، على عرضها الاحتفالي الرسمي الذي يقدم بتقنيات حديثة، واخراج مسرحي مدروس، مشيراً الى الاختلافات بين التجربة التي شاهدها في القرية الايرانية، والتجربة التي امر الشاه بتقديمها في مهرجان شيراز الدولي للفنون عام1971، في محاولة منه ان يعطي العالم صورة ليبرالية جيدة عن بلاده. لقد كان عرض المهرجان، من وجهة نظر بروك، من دون مظهر عزاء، كان شيئاً عادياً تماماً، بل شيئاً كئيباً خالياً من أية أهمية حقيقية، ولم يعط اي شيء. اما الذين شاهدوا العرض فلم يدركوا كل هذا، لانه قدم لهم على انه( تراث).
ولكن هل علينا ان نعتبر ذلك قاعدة؟ أعني ان الطقس،اي طقس، يفقد اهميته ومغزاه وجماله حين ينقل من فضائه الطبيعي الى فضاء مسرحي، وتمتد اليه يد الفنان ومهارته وخبرته.