مسرح إيلاف

جان جينيه في خفارة الموت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ترجيعات مرايا أم لعبة أدوار؟


في كتابه الموسوم "جينيــه القديس" كتب سارتر: "... إذا كان جينيه قد حددّ عالمين متعارضين ومتعاديين هما عالم الشر وعالم الخير، فإن كلا العالمين قد دفعاه نحو الخلف!. وهذا ما ضاعف لديه الأحساس بالإثم. طرقه وأساليبه البرجوازية النكهة التي لم يفقدها بعد تماماً ولدّت لديه إحساساً بالإذلال في أن يكون عارياً يرتدي فقط مقدرات عقلية لا توصف!. وحين إختار ميدان الشر راحة له وإغاظة للآخرين كان عليه أن يعترف بحقيقة واحدة وهي أن هذا الميدان هو أكثر شروراً منه..".
لم يختر جينيه عالم الشر بمحض إرادته بل دُفع إليه بعنف وقوة من الخارج، أما السجن الذي نعثر عليه في جل أعماله الروائية والشعرية والمسرحية، والذي يبدو سجناً واقعياً حيناً ومجازياً حيناً آخر، فتسويغه أن الكاتب عاش منذ طفولته مشرداً ولصاً، لذا أصبح السجن ملجأه الوحيد، وهو حقاُ المكان الحر والمنزل الآمن لإنسان منبوذ من عائلته أولاً حيث تخلّت عنه والدته وهو في العاشرة من العمر ليعيش ذليلاً على موائد الآخرين، ولأنه مرفوض من المجتمع ذاته ثانياً، ذلك المجتمع الذي تعامل معه مثل كلب سائب وسارق صغير، وجملته الشهيرة " سوف أكون لصاً " ماهي إلا فعل ضخم وخطير لخيار وجودي.
إن غربته القاسية يمكن أن تجد لها صدىً حزيناً في كلماته التي كتبها عام 1977 وهو يصف تلك الأنعطافة الحاسمة في موقفه من حياته، حيث يقول: " لقد تعلمت أن أكون غريباً بطريقة مضحكة وحمقاء جداً. ففي أحد الأيام طلب منا المدرس كتابة موضوع صغير يصف كل واحد منا بيته، وحين إنتهيت من كتابة الموضوع، قرأه المدرس بصوت عالٍ أمام التلاميذ، وما أن إنتهى من ذلك حتى ضج الجميع بالضحك والسخرية مني قائلين: " ولكن هذا ليس بيته.. إنه لقيط.".
لقد كان جينيه زبوناً دائماً للسجون وقد كتب جل أعماله في سجونه الأنفرادية تلك، بل وحتى في خروجه منها ظلت تلك الزنازين الرطبة والمعتمة هاجسه الوحيد، وما خياره لفضاءات الشرور والجريمة تلك، إلا بمثابة نوع من الثأر وإغاظة الآخرين ممّن نبذوه. إلا أن التمرد الذي يكون مبعثه الغيظ لا يقود في الآخر إلا إلى خراب وهزيمة للتمرد الأكبر حتماً، ذلك أن الغضب هو إحدى العلامات الموحية بعقدة النقص والإحساس بالدونية.
إن جل نتاجات جينيه تكشف عن معضلته الخاصة، إلا أنه لم يكن مطلقاً بطلاً للجريمة أو مبّشراً بالشرور، فكل ما سعى إليه هو محاولته الغوص عميقاً عميقاً جداً نحو القعر، هناك حيث بالإمكان العثور على حالة أكثر نقاءً وإجلالاً من عالم يطفح في البؤس والشرور.
إن قبوله برفض المجتمع له وغوصه في المناطق المحظورة والمحرّمة أخلاقياً قاده إلى قاع الرفض المطلق، ذلك القاع الذي أحالته مخيلة جينيه إلى ما يشبه المطهر، على الرغم من أن طقوسه تلك تجري ضمن دائرة الشر!.


زنازيـــن المخيلــة
" خفارة الموت " كتبها جينيه في قاع إحدى زنازينه الباريسية عام 1947 وهي تحكي قصة ثلاثة سجناء يشكلون هرم الجريمة. يقف على قمة ذلك الهرم شخص يدعى أبو بريشة كوكتو العيون الخضر ( 22 عاماً ) والذي سيقاد إلى المقصلة في غضون شهر، بسبب قتله إحدى المومسات. يليه الثاني وهو ليفرانك ( 23 عاماً ) وهو السجين الذي سيطلق سراحه بعد أشهر، أما قاع الهرم فيحتله صبي في السابعة عشرة من العمر إسمه موريس، دخل السجن طواعية لينضم إلى معشر القتلة!. المسرحية تخلو تماماً من حبكة تقليدية أو حكاية مألوفة.. إنها أشبه بطقس جمعي تمارس الشخصيات فيه شعائرها بحثاً عن قناعات ما خاصة. شخصيات هذه الدراما هي بمثابة أساطير مجسدة وليست وقائع حية، إنها مرايا تعكس صور بيجماليون أو نرسيس كما في الأسطورة اليونانية. الطقس هنا بدائي جداً لأن الرمز فيه غير منفصل عن الفعل.. إنها أفكار جمعية مشتركة تقود شخصياتها إلى نوع من الشغف والأفتتان بفضاء الجريمة كنوع من البحث عن الهوية. فالشخصيات تنتحل أدواراً تعرض من خلالها بطولات وهمية وجرائم محبطة، كتلك التي نعثر عليها في مسرحياته الأخرى مثل " الخادمات " و " الشرفة " و " الزنوج ".
أبو العيون الخضر في مسرحية " خفارة الموت " يتمرد وبشكل عابث ضد الجريمة التي تنتظره، محاولاً دون جدوى، الزوغان من الوقوع في مصيدة هذا المصير الحتمي، إلا أنه مع ذلك يصبح مقيداً بإحساس آخر، إحساس غريب يغويه ويدفعه لأنجاز ذلك الطقس الذي هو الجريمة. إنه الآخر الذي يسكن أعماقه هو من يدفعه نحو تلك الحفرة العميقة التي يقبع فيها الآن، ليس كسجين، بل منقبّ فضولي عن المعنى!.
لقد إستطاع أبو العيون الخضر أن يغرق في فيضان مخيلته تماماً مثلما غرق نرسيس يوماً في النهر وهو يتطلع نحو جماله الأسطوري على صفحة الماء. بهذه اللغة يتحدث أبو العيون الخضر بعد سقوطه في وحل الجريمة:
" ترعبني صورة ذلك الجلاد الذي ينتظرني. لقد أردت عوناً من أحد. أحداً ما يوقفني ويمنعني من المضي أبعد. حاولت ذلك بمّشقة.. هربت.. ركضت في كل الأتجاهات.. حاولت أن أكون أي شيء، أيّ شيء، على أن أكون مجرماً.. حاولت أن أكون كلباً.. قطة.. حصاناً.. نمراً.. منضدة.. حجراً.. حاولت حاولت حاولت أن أكون وردة.. حاولت أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء وأستأنف حياتي السابقة. كان بمستطاعي القيام بذلك بكل يسر، لكن جسدي لم يطاوعني. نعم جسدي هو المجرم الذي دفعني نحو الجريمة.. ".
وفي مكان آخر يتحدث عن آلية قدره قائلاً: "الأشياء حدثت من تلقاء نفسها. كل ما فعلته هو مجرد إيماءات، إيماءات قادتني بهدوء إلى المقصلة.. ". لحظات مرعبة كهذه تشق الأرض من تحت أقدامنا لنهوي عميقاً في لجّة العتمة. الكمال التام يصبح ضرورة وسبباً، وفجأة يصبح مشوشاً، ذلك أن لظروف والملابسات قد إبتدأت القيام بالفعل هي بذاتها إرتباطاً مع الأمكانية الوحيدة له هو كمجرم للمستقبل. الأدراك نفسه يتغير هنا ويصبح متشيئاً، الأشياء تحاكي الفعل وتنجزه بعجالة وبوقت مختصر. إنها موضوعة هيجل في بحثه " علم الظواهر " حين يغرق الوعي في لجّة المظهر البرّاني مكتشفاً ذاته في الأعماق السحيقة، حيث الأستلاب والعزلة، منقذاً نفسه عبر إحالة الأشياء إلى أسبابها وإستجاباتها.
أبو العيون الخضر هو مجرم حقيقي لأنه إرتكب جريمته بوعي كامل، أما ليفرانك فهو مجرم زائف على الرغم من خنقه للصبي موريس في لحظة غضب في الآخر.. ليفرانك يبحث عن المجد في فعل الجريمة، إلا أنه يخيب في تحقيق ذلك لأن أنجازه لجريمته ماهو إلا هدفاً في التفوق على أبي العيون الخضر والقفز إلى قمة الهرم لاغير.
الوعي في مسرحية " خفارة الموت " هو وعي خائن لأنه قابل بسهولة لئن يستسلم ويخضع، وجينيه يظهر لنا هنا التعارض الحاد بين جريمة مفروضة ومحتومة وبين أخرى منتحلة.. جريمة بيضاء وأخرى سوداء إذا جاز القول، والجريمة، في كل الأحوال، هي ليست فعلاً جميلاً في ميدان الفن يدفع بجينيه إلى هذا الفرز الجلي، لأنها، أي الجريمة، هي واحدة في نتائجها الكارثية بغض النظر عن دوافعها، ولا يستطيع الكاتب هنا أن يقنعنا بالمبدأ النيتشوي الداعي لعدالة اللصوص، التي هي عدالة سلبية في الآخر.
ليس ثمة رابطة حقيقية وسط المجرمين واللصوص، وإن كل ما يجمعهم هو الشغف بالأذى. هذه الثيمة يمكن العثور عليها في " الخادمات " و " الزنوج "، فالحب والكراهية بين الشقيقتين في " الخادمات " وحسدهن لربة المنزل الذي يعملن فيه ومحاولتهن تسميمها، كل ذلك ينقلب إلى الضد، فحين تحبط محاولة الشقيقة الصغيرة كلير في قتل سيدتها عن طريق كوب الشاي المسموم، يضطرها ذلك إلى القيام بفعل بترجيعات المرايا أو لعب الأدوار، فها هي تلعب دور السيدة إزاء شقيقتها التي يقوم بلعب دور كلير نفسها، لتسقيها الشاي المسموم كي تشربه وتموت في الآخر منتحرة. هذا الأنتحار الذي يمثل من وجهة نظر كلير نوع من السمّو والمجد. ليفرانك، في خفارة مشهد من المسرحية الموت، هو الاخر يفشل في تحقيق تفوقه على أبي العيون الخضر، فبدلاً من قتله يخنق موريس الصغير ظناً منه أنه هو من سيكون مجرم المستقبل الذي سينافسه في مهنته!. لعبة الأدوار هذه هي واحدة من الوسائل المميزة لتقنيات جينيه.. إنها اشبه بالخدعة مادام كل شيء هو مجرد تمثيل أو محاكاة لشيء أو شخص وليس هو الشيء ذاته أو الشخص ذاته. إنه مجرد مرآة تعكس خيالات الآخرين لا الأشخاص أنفسهم، وليفرانك، من هذا المنطلق، يلعب دور مجرم من وجهة نظر أبو العيون الخضر. الزنزانة ذاتها تتحول إلى مرآة تعكس الآخر الذي هو ( الخارج ) عبر إستبطانات الشخصيات وخيالاتها التي هي ( الداخل ). والهرم الأجتماعي في الخارج يجد صورة هرم آخر له في الداخل.. لعبة المرايا هذه نعثر عليها في جل أعمال جينيه، بل يمكن القول أن مسرحياته كلها يمكن أن تكون مرآة كبيرة واحدة مهشمة ومشوهة، وفي ذات الوقت، ناصعة وباروكية، فهي " معمار من الفراغ والكلمات" على حد وصف أرشيبالد مكليش.

الرؤية الأخراجية
خشبة مسرح " بارون كورت " صغيرة بحجم زنزانة جينيه في "خفارة الموت " .. بفضاء رمادي مائل للعتمة وثلاثة ممثلين مسعورين يتناوبون النوم على سرير واحد، تدلت حقائبهم المرقمة من أعلى السقف كما لو أنها حبال مشانق. وخلف الكواليس تسمع خطوات الحارس الشبيهة بخطى ملاك الموت، رتيبة ومهددة. ثلاثة ممثلين فقط: بريت ألان ( أبو العيون الخضر ) وأندريه بريدورد ( ليفرانك ) و مارك هومر ( موريس ) والحارس الأسود الذي يلعبه الممثل ألان داوسن، وثمة شخصية رابعة لن تظهر على خشبة المسرح، بل سنسمع عنها من خلال حديث السجناء، ألا وهي شخصية السجين الزنجي سنوبول Snowball بطل الجريمة والمثال الأعلى وهي الشخصية التي يحتذيها هؤلاء المنبوذون الثلاث.
ا مشهد من المسرحية نها مباراة وحشية وقاسية تدور ضمن هذا البناء الهرمي لمجتمع هذه الزنزانة، حيث تدخلنا إلى حلبتها " تيري بوتوشنا" مخرجة العرض، لنشهد من خلالها واحدة من أكثر طقوس جينيه كابوسية ورعباً. إرتكزت بنية العرض على قوائم ثلاث، ممثلين ثلاث حملوا على كاهلهم ثقل نص مسرحي عسير ومبهم. في وحدتهم وتعارضهم كانوا يعكسون جوهر فكرة توحّد المجرمين في مظهرهم البرّاني، وتنافرهم في جوهرهم الداخلي، عبر حوار مسعور وحركات آلية حادة وعنيفة. إنهم يتوحدون وينشطرون كالموج في لحظات خاطفة بإيقاع محكم بدوا لنا وكأنهم شخص واحد مشطور إلى ثلاثة أقسام!.
الحارس الذي لم يظهر إلا مرتين طوال العرض، إحداهما عابرة لكنها مرعبة والأخرى مباشرة بعد خنق الصبي موريس من قبل ليفرانك، إلا أن الممثل الآن داوسن الذي لعب هذه الشخصية، بسحنته السوداء وعينيه البراقتين، أظهر شخصية الحارس كما لو أنه حفار قبور ينتظر الجنازة القادمة بفارغ صبر!.
أما سنوبول الذي لم يظهر على خشبة المسرح، فقد إستطاعت مخيلتنا أن ترسم ملامحه طيلة مدة العرض من خلال إيحاءات الممثلين ونثار كلماتهم، كما لو أنه قدر يوناني يقود أبطاله نحو حتفهم.
الزنزانة ذاتها برماديتها الخانقة بدت أشبه بقبر أو قاعة تشريح جثث تسربت في عروقها جرثومة الشر والموت لتذهب كل واحدة منها إلى طريق مرسوم سلفاً. موريس إلى القبر وأبو العيون الخضر إلى المقصلة وليفرانك وحيداً في زنزانته الأبدية!. لم يكن العرض سوى طقس ولعب أدوار وترجيعات مرايا، لا بل سأذهب إلى القول دون تردد إلى أنه كان أشبه بحفل تنكري أو رقصة أخيرة تكاد تتماهى ورقصة الموت.
alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف