مسرح إيلاف

بيتر بروك: سيرة شخصية زائفة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

سلوى اللوباني من القاهرة: للسير الذاتية سحرها الخاص وخصوصاً حين تكون سيرة مبدع كبير، فانها تلقي أضواء لا يملكها سوى صاحب السيرة، على مجمل الشروط والظروف التي عاش وأبدع في ظلها، يقول "بيتر بروك" في كتابه "بيتر بروك.. خيوط الزمن.. سيرة شخصية" كان بوده أن يسمي هذا الكتاب سيرة شخصية زائفة، لان فعل الكتابة ذاته يثبت أنه ليس في الدماغ مكان ذو تجميد عميق، تٌحفظ فيه الذكريات مصونة، لا يصيبها التلف، بل يرى الامر على العكس، يبدو أن في الدماغ مستودعاً عن شظايا الاشارات، بلا لون ولا صوت ولا مذاق، تنتظر قوة الخيال كي تبعث فيها الحياة، وتلك نعمة كبرى، الكتاب سيرة ذاتية للمسرحي الانجليزي بيتر بروك، كتبها قبل عدة سنوات، تمحورت السيرة حول المسرح، العائلة، واكتشاف الحياة.

بروك المسرحي الحكيم:
قسم بروك الكتاب الصادر عن دار العلوم للنشر والتوزيع، الى ثلاثة أجزاء باسلوب سلس اختلطت فيه تفاصيل حياته الشخصية بالمهنية لتخرج سيرته معبرة عن رؤيته للواقع الاجتماعي والفني، حكى عن أسفاره الى افريقيا، استراليا، افغانستان، ايران، والهند التي أبدى اعجابه وانبهاره بها في أكثر من موقع من الكتاب... سافرنا الى الهند خفافاً ورجعنا بحقائب مثقلة بالعاطفة والثقافة، وتعلم منها أن عمله هو أن يوحي لا أن يقلد، حدثنا عن والده ووالدته، واستعاد تجارب الطفولة والصبا والشباب، وتحدث عن الجانب الروحي من حياته، كما قدم العديد من الفنانيين القريبين الذين عمل معهم أو التقاهم منهم جون جيلجوود، لورانس أوليفيه، جين مورد، بريشت وسلفادور دالي، وتميزت سيرته بأنه لم يعتمد فيها كل التفاصيل الاجتماعية والتاريخية والسيكولوجية، بل كانت مليئة ب ليالي الافتتاح الشهيرة وما تحفل به من فتنة وبؤس، بيتر بروك يتقصى من خلال سيرته خيوط الزمن التي صاغته فكرياً وانسانياً، ويحاول استكشاف الصورة الحقيقية مع اعترافه بأن هناك تابوهات ومحرمات ووقفات ومساحات من العتمة وراء هذه الصورة، وأكثر ما يجذب القارئ بسيرة بروك العبارات المضيئة التي تخللت سطوره، كلمات بسيطة عميقة المعنى بالغة الاثر في نفس القارئ، حتى تستطيع أن توصفه بالمسرحي الحكيم، يعتبر كتابة سيرته الذاتية محاولة منه لنسج الخيوط التي عملت على تطوير فهمه العملي، آملا أن شخصاً ما يمكن أن يجدها مفيدة في تطوير خبرته.

أهم مسرحي غربي:
تميزت ترجمة الكتاب بمفردات سهلة وبسيطة، وهي لفاروق عبد القادر، وقد سبق له أن ترجم كل أعمال بروك الى العربية، حرصاً منه على تقديم الصورة الكاملة لبروك المبدع والانسان، فوصفه بأنه أهم مسرحي غربي، يقارب الثمانين وما يزال يعيش ويعمل، وأشار الى كتب بروك الثلاثة، المساحة الفارغة، النقطة المتحولة، والباب المفتوح أفكار حول التمثيل والمسرح، قائلاً "اذا اراد بروك التعبير عن فكرة أو موقف او جهة نظر أو رؤية فهي من خلال المسرح"، تجربته الاولى مع المسرح كانت عبارة عن مشاهدة عرضاً للاطفال يقدمه مسرح العرائس، في مكتبة في اكسفورد ستريت، ولا يزال يعتبرها التجربة الاكثر صدقاً والاكثر حياة، كان أكثر ما يبهره في المسرح هو الابواب والاجنحة، أكثر من الحكاية أو التمثيل، فهي التي كانت تستولي على خياله الى أين تؤدي؟ وماذا وراءها؟ أيقن منذ صغره أن التعليم الرسمي لن يكون ذا فائدة ايا كانت بالنسبة له، وهو في السادسة عشرة ترك المدرسة واعلن لوالده أنه سوف يتلقى دروساً في التصوير الفوتوغرافي في لندن كخطوة اولى، وحين بدأ العمل في المسرح لم يستطع أن يطيق تلك الطبيعة المهذبة والشاحبة تقريباً لمعظم المسرحيات الانجليزية، ويعتبر أنه اذا لم يجد قدراً من الاثارة في النص، فان مشاركته في المسرح سوف تكون بلا معنى، يرفض أن يكون مسرحه فيلماً تسجيلياً، أو قاعة محاضرات أو مجرد ناقلة أفكار، فالمسرح مسرح قبل أي شئ وبعده كما يقول، أن أي مسرح لا يمكن تقديم جواب بسيط، لكنه يؤكد على أهمية أن يكون العرض المسرحي ملبياً لاحتياجات قائمة عند جمهوره، أي أن يكون في أفضل الحالات، ضرورياً، كما يرى أن باستطاعة المسرح أن ينفذ الى أكثر المناطق ظلاماً من الرعب واليأس، لأنه قادر على أن يثبت أن النور موجود قبل الظلام.

موقفه من الحضارات:
بروك ليس محاصراً داخل اطر ثقافته الغربية أو مقتصراً عليها، بل هو قادر أن يبحث في تقديم أوديب، وفي الوقت ذاته نحو كتاب الزرادشتيين القدامى، كما هو قادر أن يبحث في كتاب الملك لير، وفي الملحمة الهندية، وأجمل ما يميز فكره أنه عندما يقترب من هذه الابداعات الثقافية لا يقترب بافكار مسبقة، أو قوالب جاهزة، بل يقترب باحترام ورغبة صادقة في تفهم منطقها الداخلي.

بروك والعائلة:
يحكي عن والده باعجاب شديد، والده لم يكن ثرياً أبداً، بل عاش سنوات القحط متنقلاً في عمله بين المهندس الكهربائي والصانع الكيميائي، كان همه الدائم هو الا يجعل اسرته تحس باحتياج لاي شئ، فهذا ما كانت تعنيه الابوة لبروك حسبما ذكر، كان يعتقد بانه يعيش زمناً من الترف، وأن بيتهم أرض الامن والوفرة، بالرغم من ذلك كان يعتبر هذا الاعتقاد وهماً خطيراً، لكنه وضع أساس الامن الداخلي لديه بقية الحياة، وكان والده من كبار المؤمنين بأهمية الرحلات واللغات، فسافروا كثيراً مما غرس في نفسه احساساً بالقلق وعدم الاستقرار، ولم يفارقه هذا الاحساس طوال حياته، بالاضافة الى ذلك كان والده معلماً له ولاخيه، لديه ذخيرة هائلة من الامثال والاقوال، والتي يعتبرها بروك أعمدة الحكمة عنده وعند اخيه حتى اليوم، ومنها "الطريقة الوحيدة تجد صديقا أن تكون أنت نفسك صديقاً"، "انتظر قليلا حتى يقوى جناحاك الضعيفان"، كما يعتبربروك أن البيت مكنا للهدهدة، وحين تغيب حماية الاسرة يصبح العالم الخارجي بالغ القبح، ووضح أن اصوله تعود الى روسيا، فوالده من قرية صغيرة من قرى "لاتفيا"، عاش طفولة ثورية، واضطر الى مغادرة البلاد الى باريس لدراسة العلوم في السوربون، وحين قامت الحرب العالمية ضاق الحصار كثيراً من الجيش المتقدم حتى اوستند، فرحل مع والدته على ظهر قارب الى انجلترا، وبعد انتهاء الحرب قرر والداه عدم العودة الى روسيا وبقي والده انجليزياً فخوراً بانجليزيته لنهاية حياته، أما زوجته ناتاشا بالرغم من اصابتها بمرض الدرن كان يراها كأميرة نادرة، عاش معها دون نوبات غضب ولا شكاوي، لم تكن الخلافات تنشب بينهما، فهو يؤمن بالحكمة الشرقية "أنه في علاقة بين اثنين ليس هناك أثمن من الصبر الذي يؤدي للامن والسلام".

الحياة:
تحدث في سيرته عن الحياة والانسان والعمل الاجتماعي والانجازات والاهداف الحقيقية، يشبه الحياة بعبور نهر على قطعة خشبية، ممسكاً بورقة شجر ولا يعرف المرء فيها أبداً متى سيهوى، أما في الكتاب بوسع المرء أن يختار اللحظة المناسبة للتوقف، وبعد خبرته الطويلة تعلم أن ما ندعوه الحياة ليس سوى محاولة قراءة الظلال، محاولة يقطعها عند كل منعطف ما نفترض أنه الحقيقة، يقول أننا نبدأ في الوجود حين نخدم هدفاً يتجاوز ما نحب وما نكره، ولا
نستطيع أن نفعل شئ على حدة، فنحن بحاجة الى الاخرين دائماً وطول الوقت، وأن الفرد ليس سوى جزء صغير متلاش في سياق انسانية، ما زالت تناضل وتتلمس طريقهما، وتثب وتتعثر بغير نهاية، تبحث "عن هناك" قد لا نجده أبداً في كل مسار التاريخ الانساني في المستقبل، على أننا في كل لحظة يمكن أن نجد بداية جديدة.
وسوف يظل صوت يهمس لي.... اذا تركت هذه اللحظة تمر فلن تعود أبداً.

salwalubani@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف