مسرح إيلاف

هولندية تقتحم التابو الشرقي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الكائن.. الرجل!:

صالح حسن فارس من أمستردام: جرائم الشرف أو ما يعرف بغسل العار تعتبر جزءا ًمن النظام الأخلاقي والقيمي في بعض المجتمعات. فالخزي والعار والشرف كقضايا معنوية لاترتبط بالمنظومات القانونية الدينية أوالبشرية الوضعية، ولكنها ترتبط ارتباطا وثيقاً بالتقاليد والأعراف السائدة، والتي قد تعود لأزمنة بعيدة تاريخياً فالإقدام على كسر ومخالفة القوانين الأجتماعية العرفية قد تؤدي إلى عزلة الإنسان الفرد معنوياً في الفضاء الأجتماعي الذي يعيش فيه، بل ان كسر بعض القيود يؤدي حتماً إلى الموت كما في الممارسات الجنسية خارج إطار المقبول أجتماعياً وخصوصاً وأن الجنس عملية تعتبر إلى الان من التابوهات المشددة في أنظمتنا الأجتماعية سواء في الحديث الصريح عنها أو في ممارستها عملياً. المرأة في التقاليد العربية تعيش حالة بؤس كبيرة تحدث عنها الباحثين والمفكرين والروائين كثيراً. فالمرأة بالذهن والتقاليد الشعبية تعتبر مركز الشرف، ولاخيارات حرة لها في السلوك والممارسات الجنسية فهي جزء من حالة معنوية رمزية للذات ومكانتها واي خروج أو تمرد انثوي على هذا النظام يسحب منها حق الحياة ويمنح قاتلها كل المبررات التي تشرعن دفنها كحالة رمزية لدفن العار المعنوي وإستعادة الكرامة المهدورة.

من المسرحية
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

النظام الأخلاقي القيمي وتقاليده دخل إلى ساحات الأبحاث الاجتماعية والنفسية ومشاكل التنمية، وقد تناولته الاعمال الادبية والسينما والمسرح، وأهتم به المثقف والفنان الغربي به كثيرا مثلما أهتم به المثقف والفنان العربي، فما دام النظام فعالا ويحصد الابرياء - رموز العار- تستمر الأعمال الفكرية والفنية حوله كمحاولات لكسره وتهشيمه وإعادة نظام اخلاقي وقيمي مختلف يحترم كرامة الإنسان دون تحويله إلى رموز للشر والخطيئة والعار التي تضغط على الذات وتفجر فيها كل مخزونها الوحشي والبدائي. إن هذا الموضوع الشائك والراسخ هو الذي اشتغلت عليه المخرجة الهولندية "ادلهيد روزن" في عملها المسرحي الجديد "الكائن.. الرجل". لتقدم لنا نصا فنيا شعرياً مسرحياً مركزه جرائم الشرف وغسل العار.
أعتمدت المخرجة في عملها هذا على الحوارات الشخصية والمعاشرة الحياتية وسماع حكايات وقصص تلك الجرائم من أفواه المهاجرين العرب والمسلمين وكذلك السجلات الرسمية للشرطة والسجون ومشاهدت الأفلام الوثائقية الخاصة بهذا المجال.
للمخرجة دراية وخبرة وإهتمامات سابقة بقضايا المرأة وحريتها في المجتمعات الشرقية، بعد النجاح الكبير الذي حققته في مسرحيتها "حوارات محجبة" التي تناقش موضوعة المرأة والجنس. تواصل من جديد في الابحار العميق في العالم الشرقي هذه المرة عن حياة الرجل وأسراره الخفية، وتزيح الستار عن المحظورات واقتحام التابو الشرقي.

في عملها الجديد "الكائن.. الرجل" تتناول حكاية زواج مثيرة تنتهي بجريمة قتل، اب تركي يزج في السجن لقتله أبنته، ويروي لنا حكاية هجرته إلى هولندا في بداية الستينات وقصة عشقة من "نور" التركية التي تسكن في مدينة هنكلو الهولندية، بعدها يذهب إلى تركيا في زيارة ثم تأتيه رسالة من أهلها بأنها تزوجت من رجل اخر، يستسلم للامر ويتزوج في تركيا وينجب منها أطفال ثم يجلبها معه إلى هولندا.
هذه هي فكرة تأسيس العمل المسرحي" الكائن.. الرجل " على شكل حوارات في قصص واقعية، يمثلها أربع ممثلين رجال، الجدّ، الاب، الابن، والراقص الصوفي. تنقلنا المخرجة في عوالمها من خلال محاورة طويلة وعميقة وصراع وعتاب وندم وتشفٍ بين أفراد العائلة. على شكل محاكمة شخصية وأبراز معالم القوة والضعف ومعاقبة الضمير والمقارنة بين العالمين الهولندي والعالم الشرقي في عمل درامي يعتمد على الحوار الشعري المكثف والعميق المعقد، يجمع بين الغناء والموسيقى والرقص الصوفي. على مدى الساعة وعشرين دقيقة ظل الجمهور مشددوا ومجذوبا لهذا العمل الذي يحاكي الموت والحياة.

ثمانية ستائر داكنة اللون على شكل فساتين نسائية معلقة من اعلى المسرح بعلاّقة ملابس، كانت الستائر الشاهد الوحيد على أحداث جريمة القتل المعلقة اثارها في ذاكرة البيت، وعلى مجرى الاحداث الدموية، في مقدمة يمين المشاهد ثمة مقعد وكرسي للعازف الموسيقي ذو اللحية البيضاء تذكرنا بالرجال المتصوفة وهو يعزف على الة "الساز"بشكل حي، وعلى جهة يسار المشاهد مائدة وكرسي يجلس عليها الاب -القاتل الذي أنتهى به الحال إلى السجن تاركاً وراءه تاريخاً ملطخاً بالدم- وأمامه أوراق القضية المعقدة وظهره كان طيلة العرض إلى الجمهور يخفي وجهه عن الحقيقة ولم يستطع أن يظهر بملامحة الحقيقة للجمهور، ممثل اخر يرتدي ثوبا ابيض وطربوشا للمتصوفة يجلس في عمق المسرح يراقب الاحداث في صمت بليغ، وفي الجهة الاخرى يطل علينا الممثل الهولندي من أصل فلسطيني ببدلة سوداء يروي لنا حكايته بل حكايتهم المعقدة الشائكة بشكل هائل وابرز طاقاته الجسدية والفنية وأثبت للحضور عن قدرة ممثل محترف يقود هذه الرحلة المعقدة.
اخيراً تختتم المخرجة عرضها بالملتي ميديا الذي تظهر فيه صورة لطفلة بريئة لم تتوضح ملامحها على ساحل البحر. تسقط صورتها على أرض المسرح ويحدث الظلام، وهي نهاية لم تخدم العمل بقدر ما أربكته إذ كان الاستمرار في تغييب الفتاة أكثر انسجاما مع روح العرض.
ملاحظتان لابد من تسجيلهما على العمل هي حضور الراقص المتصوف لم يكن مجدياً ومبرراً، بل كان حضوره مقحماً، حتى اذا كان يشير إلى رمز الديانة الصوفية وحضورها بشكل متفرج على الاحداث. ثانياً الموسيقى التي تنبعث من المسجل لاضرورة لها كون المغني الذي لعب دور الجّد يمتلك صوتاً رخيما ومعبراً ويمكن له يعوض عن أستخدام التنكلوجيا بحجرته. استطاعت المخرجة أن تثبت قدرتها الفنية والابداعية على صعيد الاخراج. هذا العمل يعتبر علامة مهمة وجديدة ومميزة في تاريخها المسرحي. وعن العرض قالت المخرجة في جريدة "فولكسرانت" الهولندية: "في العالم الغربي هناك ضحايا يسقطون بسبب الاغتصاب العائلي ومرض "الانروكسيا" وقتلة الاطفال والعصابيين، أما في الشرق فتسقط الضحايا لأسباب اخرى من بينها غسل العار. غسل العار أعتبره تراجيديا معاصرة.


ويبقى السؤال متى ستنجو المرأة في العالم العربي والشرقي من التهميش، الاضطهاد والقتل وغسل العار؟

"ادلهيد روزن" كاتبة، ممثلة، ومخرجة مسرحية هولندية من مواليد 1958 نشأت وسط عائلة هولندية دينية كاثوليكية متشددة، بعد أن أنهت دراستها تمردت على واقعها وكسرت القيود بدخولها معهد الفنون المسرحية بأمستردام حتى تخرجت واصبحت مدرسة فيه، كانت بدايتها الفنية ممثلة كوميدية في مسرح الكباريه، شاركت كممثلة في أدوار مختلفة في التلفزيون والسينما والمسرح. وعلى صعيد الاخراج قدمت مسرحية "حوارت محجبة" التي تدور حول الجنس والمرأة في العالم العربي. وأصبحت واحدة من الفنانات الهولنديات المهمات في المشهد المسرحي الهولندي، صارت تميل في الاخير الى الاهتمام بالثقافة العربية الاسلامية وتستعير مواضيع عن الجاليات وتقدمها على المسرح الهولندي موظفة تجربتها المسرحية الهولندية مع الخبرة العربية والشرق اوسطية مع ممثلين اجانب. وتكتب أعمالها بنفسها مستعيرة حكايات الاجانب وخبراتهم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف