النظـّارة والممثـلون في قفص واحد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"مسرح في لبنان" المنسي:
النظـّارة والممثـلون في "قفص" واحد
في متابعتنا لمنجز المعماريين الدانمركيين واعمالهم في بلدان الشرق الاوسط والخاصة بموضوع التناص المعماري - الموضوع الذي يستقي اهميته وحيويته من فعالية التأويل لمنجز الاخر؛ الاخر المختلف اثنيا وثقافيا، ومحاولة توظيف نتائج تلك الفعالية الابداعية وطروحاتها مع انجازات المنتج الشخصي - استرعى اهتمامي مشروع "مسرح في لبنان" صممه المعمار الدانمركي المعروف عالميا "يورن اوتزن" (1918) الحائز على جائزة "بريتزكر" المرموقة والمعروف على نطاق واسع كونه مصمم "اوبرا سدني" الشهير، التصميم الذي عدّ واحدا من اهم الاحداث المعمارية في القرن العشرين. ادناه قراءة نقدية معمارية لذلك المشروع "العربي" المنسي من قبل الجمهور... والنقاد معا. قد
ورغم ان التصميم لم ينفذ مطلقا، فان تناوله الان يعيد الى الاذهان مدى مساهمة المعمار العالمي واهتماماته في اثراء الممارسة المعمارية العربية والاسلامية بتصاميم منتقاة ذات لغة معمارية استثنائية، اشتغل عليها بجد وحيوية لتكون بمثابة ايماءة احترام الى مكان موطن العمارة التى يقدرها ويعتبرها جزءا مهما من مصادره التصميمية. ولنتذكر رائعته التصميمية مجمع مباني البرلمان / مجلس الامة بالكويت (1974-82) وبنك "ملي ايران" في طهران (1959) وكذلك مشروعه الذي لم ينفذ المجمع الرياضي بجدة / السعودية (1967).
ينطوي مشروع "مسرح في لبنان" على لغة معمارية استثنائية، تستقي فرادتها من الشكل المميز غير المألوف لمبنى مسرح، كما تتكرس اهميتها من اتحادها العضوي مع خصوصية المكان ذي السمات الفريدة. وبمقدور الناظر الى عمارة المسرح ان يدرك اهمية امتزاج جهد المعمار المميز مع نوعية ثيمة المبنى، الامتزاج الذى افضى الى حل تصميمي مبتكر حافل بالاصالة والتجديد. بيد اننا سنشير الى ذلك كله لاحقا، بعد ان نعرف بان مشروع "المسرح" ما هو الا فكرة معمارية لتسويق منطقة سياحية تمتلك مشاهد غير عادية من كهوف جبلية غارقة في قدمها تمتد بامتداد جرف "نهر الكلب" في لبنان، وقد تم اكتشاف المزيد من تلك الكهوف في خمسينات القرن الماضي. وهو امر حفز السلطات المحلية لتأمين مسرح مخصص للحفلات تكون لغته المعمارية مترعة بالفرادة والحل الاستثنائي تتماشى واهمية الحدث الاسطوري كمكان عاج بالكهوف التاريخية القديمة .
يتكون مشروع "مسرح في لبنان" اساسا من مدرج Amphitheater ضخم مسقطه شبه دائري الشكل، محاط باضلاع حديدية تشكل " قفصا " معدنيا طافيا ً يضم الجمهور والممثلين معا ً. وهذه الاضلاع ذات هيئات خاصة بمقدورها ان تفرغ بكفاءة الاثقال الناجمة عن امكنة المدرجات المعلقة ونهاياتها الطليقة المشكلة بصريا " سقف " المدرج. لم يقتصر الجهد التصميمي على ايجاد هيئة المسرح المعبرة واسلوب نظامها التركيبي المميز ّ، وانما تخطاها الى الاشتغال على تفاصيل وسائل الوصول الى المدرج ذاته وكيفية اتصالها فيزياويا مع فتحات سلسلة الكهوف المجاورة، وذلك باقتراح ممرات / قناطر مرفوعة بواسطة اعمدة خرسانية. وتشكل مجموعة تلك الوسائل هامش التكوين الجانبي الذي وظف المعمار وجودها لاظهار اهمية مفردة التصميم المركزية - وهي كتلة المدرج الطافي. فمن خلال تقاطع شريط تلك الممرات واسلوب حركتها الانسيابية وكذلك وضعيتها الافقية والشاقولية واشكالها الزكزاكية فانها ترسخ حضور كتلة المسرح ذي الشكل المنتظم في المشهد البانورامي المصمم.
يعود " يورن اوتزن " في مشروعه " مسرح في لبنان "، مرة اخرى، الى موضوعة اصطفاء نوعية حجوم " ضامة " لفضاءات مركزية مستقلة نوعا ما استقلالا ذاتيا عن بقية الفراغات المحيطة. وهذه الموضوعة التصميمية شاهدنا تنويعات لتطبيقات لها في مشاريع سابقة صممها " اوتزن " في السنوات التى سبقت مسرح في لبنان. ولعل مشروع
تسترجع نوعية هيئات الاضلاع الحديدية المحيطة بالمدرج، التى تشكل صورة " اميج " القفص الحديدي الطافي، تسترجع استحضارات الاضلاع الحديدة التى استخدمها المعمار في مشروعه المميز " المجمع الرياضي بجدة/ السعودية (1967). وهنا كما في مشروع جدة يشكل تكرار تلك الاضلاع ذات التراكيب الكابولية Cantilever الثيمة الاساسية لخصوصية عمارة المبنى مكرسة توق المعمار ورغبته في اتاحة الفرصة، كما يقول، ".. امام الانشاء ليغدو عاملا اساسيا في العملية التصميمية ". وتجدر الاشارة بان اختلاف المادة الانشائية الداخلة في تراكيب المشروعين: الخرسانة المسلحة لمقترح جدة، والحديد لمسرح في لبنان لم تكن عائقا جديا في تحقيق عزم المعمار في ترسيخ مقاربته التصميمية في كلا المشروعين.
يمكن للمتابع ان يلحظ في عمارة " مسرح في لبنان " حضور احدى السمات الخاصة بمقاربة " اوتزن " التصميمية، المقاربة التى جسدتها مشاريع عديدة اشتغل عليها المعمار العالمي الشهير ؛ ونقصد بها مسعاه وراء ابتداع فورم معماري مميز تكون صورته العامة غير قابلة للنسيان، وبمقدور الذاكرة ان تستحضر " اميجه " بسرعة وسهولة كبيرتين. ولعل هذا السبب هو الذي يفسر تنوع فيض الاشكال المتخمة بها خزين منجز" يورن اوتزن " المعماري، فلكل تصميم عنده هيئته الخاصة المتفردة واسلوب تنطيق لغته المعمارية التى لا تكرر حرفيا ً مثيلاتها من التصاميم الاخرى ؛ ومشروع " مسرح في لبنان " غير بعيد عن خصوصية تلك المقاربة. فبالاضافة الى الشكل المميز وغير العادي للمسرح المصمم وابتعاده عن التطبيقات السائدة في الخطاب المعماري وقتذاك، فضلا عن منظومته التركبية المعبرة واشكال مفراداته الانشائية غير المألوفة، فان المعمار سعى الى جانب ذلك توظيف الانارة ذات الاضاءات الملونة المختلفة لكتلة مبناه المسرحي، مانحا اياها دورا فعالا في تكريس صورة المبنى في مخيلة المتلقي.
ينطوي تصميم "مسرح في لبنان" على حضور خاصية تصميمية اخرى ارتبطت بشكل وباخر بمنجز " اوتزن " المعماري، وتتبدى في المسرح اللبناني بشكل مثيرولافت ونقصد بها ولع المعمار وتعمده لانتقاء حالة من التناقض والتضاد القوي بين بساطة شكل المخطط ووضوحه في المستوي الافقي الذي لا يخرج عن مجموعة دوائر مرسومة بعناية واهتمام، والمنظر المعقد والمشوش غير المألوف في بعده الثالث المتشكل من اضلاع حديدية ذات اشكال انسيابية، ينشأ عن تجميعها سقف المبنى وجداره الخارجي العازل معا. وهذا التجميع هو الذي يمنح المبنى شكله العام وصورته المكتملة. ولهذا ايضا فان عمارة "مسرح في لبنان" شأنها شأن تصاميم "اوتزن" الاخرى مابرحت تثير اشكالية خلافية وسجال فكري عن مفهوم المنتج المعماري وكيفية ادراكه من قبل متلقيه. فبالاضافة الى عدم مألوفية الفورم المنتقى لعمارة "المسرح"، فانها حافلة بفيض من العناصر التكوينية التى لا يمكن تفسير وجودها فقط بباعث الغاية النفعية المباشرة؛ الغاية التى لازمت تصورات الفعل المعماري ملازمة يصعب الفكاك منها، وباتت تبعا لذلك تمثل احد اقانيم العمارة الرامزة الى دلالتها المفاهيمية. بمعنى آخر يتوق المعمار الى "فك ارتباط" مفهوم المعطي المعماري وعدم حصره بحالة ادائه الوظيفي. ولهذا فهو يسمح لنفسه باستخدام عناصر تصميمة في مشروعه ليس لها وظيفة نفعية في المعنى المباشر.
يعي " اوتزن "، بالطبع، ان مهمة ازاحة المعنى الدلالي للمنتج المعماري امرا ليس من السهولة قبوله من قبل الاخرين او حتى ابداء التعاطف معه، ونحن بالطبع نتحدث عن مرحلة تاريخية محددة وهي مرحلة الستينات وما جاورها، المرحلة التى الف الجمهور فيها وتعود على ذائقة فنية وفكرية تقضيان بوجوبية الاداء المعماري لوظيفته، ونظرا لكون رب العمل ايضا لم يكن يقدرّ اجتهاد المعماروصنيعه التصميمي الذي راى فيه محض كلف اقتصادية مضافة لا يجد مبررا مقنعا لقبولها. بيد ان المعمار كان يعتقد من جهة اخرى، بان حضور تلك العناصر" الزائدة " في التكوين المقترح تحتمه طبيعة " تابولوجية " المبنى وخصوصية المكان المتفرد والاستثنائي. ومن دونها، اي من دون وجود تلك العناصر اللاوظيفية، سيفقد الحدث التصميمي نظارته وتعبيريته ومفاجآءته البصرية، التى يرى المصمم في شأن حضورها اتساقا ملزما مع موضوعة المبنى ومكانه. وبهذا الطرح فان "اوتزن" عمل باكرا على ازاحة المعنى الدلالي للعمارة، والذي سيجعل المنهج التفكيكي Deconstruction لاحقا منها كازاحة رافضة تماما لتلك المعاني التقليدية، وسيرفع من شأنها عاليا لتكون احدى اهم مرتكزاته في تكريس اطروحاته الفكرية والتطبيقية.
لكننا يتعين علينا ان نعترف بان جرأة وشجاعة "اوتزن" كانتا عبئا اضافيا على المشروع افضت الى رفض التصميم كليا ً وبالتالي الى عدم تنفيذه. وهو قرار نراه الان بعد عقود من السنين التى تفصل حدث تصميمه قرارا مجحفا وغير عادل بالمرة، انطوى على خسران البيئة المبنية المحلية لواحد من مشاريعها الاستثنائية المتفردة. ولو قُدر تنفيذه لكان فعلا مشروعا رائدا مكتنزا بافكار جد طليعية ولعد ظهوره ارهاصا مبكرا لما هو آت ٍ.
لقد تطلع "يورن توتزن" المعبأ بمنجز العمارة الاسلامية والمولع بها، واحد المشتغلين المبدعين في تأويل ذلك المنجز، لان يكون مشروعه في الارض العربية وهو "مسرح في لبنان" غير مقتصر فقط على ايجاد اجوبه وظيفية مباشرة لمشكله تصميمية بقدر ما كان يتوق الى حل مشبع بافكار جديدة وطليعية سعى لان تتمثل في تكوين مميز ولغة تصميمية معبرة، تنتج في الاخير عمارة حداثية تتصادى مع ثقافة الآخر ومع جغرافيا المكان!
معمار واكاديمي/ مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون