الحلم في لغة الجسد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ملاحظات حول كتاب: فیزیاء الجسد لمؤلفه د. فاضل الجاف
بدءا تنبغي الإشارة، بل الإشادة، الى إنَ كتاب فيزياء الجسد لمؤلفه د. فاضل الجاف إطلالة رائدة تنطوي على زخم نوعي من المعلومات عن موضوعة المسرح قد تتجاوز عن قصد أو من دون قصد بيوميكانيكية الحركة التي يروم طرحها. وليست محصورة بالأسلوب المييرهولدي فحسب، بل رحلة ماتعة الى الماوراء، إلى أيام الثقافة التي فتحت أجنحتها على كل مناحي الحياة. حيث الرموز الأولى، التي أحدثت قيامة جديدة في جسد التنوع الثقافي بعامة، والمسرح بخاص .. يوم كان المسرح يمرع في ضفاف الواقعية والطبيعية
ما يعنينا هنا تلك الثورة التي فجرّت إبداع الفن في روسيا وخاض مبدعوها عملية التجريب والخلق وإستقدام كلّ منجزات العلم والإقتصاد والتأريخ وعلم النفس والإجتماع لإسعاف أعمالهم شعرا وموسيقى ورسما ومسرحا. وتواصلت هذه المنجزات المبتكرة من رحم التجارب مع مسيرة ثورة أكتوبر الأشتراكية التي كانت إنقلابا في الشكل والمضمون في كل منحى من مناحي الحياة. في وقت كان التمرد يجتاح أوربا الغربية أيضا عبر مسلسل من التغييرات الشمولية من القمة حتى القاعدة. أما الحرية فكانت المتنفس الأرحب التي منحت الإبداع رؤية إستثنائية في إسبشراف الحداثة.
ففي علم النفس أحدث فرويد وبافلوف وتلامذتهما إنقلابا في السلوك والغور في أعماق النفس البشرية. وفي الشعر كان مايكوفسكي وباستيرناك وأبولينير وبريتون ودادا وأراغون وغيرهم من أحفاد رامبو وبودلير ولوتريامون في التجديد والإبتكار. أستمر مبدعو أوربا الغربية يكتشفون مجاهل غير مسبوقة أصلا. يستظلون بفئ الحرية التي فتحت لكل أشكال الفنون آفاقا وسيعة، بينما في روسيا السوفيتية إنكفأ الفن في مطلع الثلاثينيات بعد أن تمادى المبدعون في التجريب وملامسة الرؤى الحداثوية. وبعد أن أستمدت الثورة الإشتراكية من رحيق ألمعيتهم نسغ ديمومتها وقوتها، قلبت لهم ظهر المجن بوضع الشروط والعلامات على إبداعهم، بدعوى أنهم يسيرون بالثورة نحو الإيهام والتماهيات اللامجدية والأفكار المضللة. وتصدت لهم أبواق السلطة بالنقد الجارح حدّ المطالبة بتصفيتهم فتاب منهم من تاب وصفّي منهم من صفّي،... فأنتحر مايكوفسكي لأن الستالينية ضاقت بأفكاره المستقبلية. والإشتراكية لم يسع صدرها لتقبلها. أما مييرهولد نبيّ المسرح فقد أنتهت حياته نهاية فاجعة رميا بالرصاص بعد تعذيبه بأبشع الأساليب. وقبل ذلك أغتيلت زوجته الممثلة الكبيرة زينادا رايخ بوحشية. وباستيرناك صديق مييرهولد لزم الصمت، لكنه كتب رواية دكتور زيفاجو سرا وسرّبها سرا الى الخارج ، فطبّل لها الغرب وحظيت بجائزة نوبل. ربّما نكاية بالنظام السوفيتي أيامئذ حين أوصد كل النوافذ على الخارج. فيما كان الإبداع الغربي يضرب جذوره في أعماق الحياة وأغتنى الفن بإبداعات بيكاسو وكوكتو وإزرا باوند وإليوت ومور..
أما المسرح فقد جعل يغذّي مسيرته برؤى السريالية والتعبيرية والإنطباعية والفرويدية تسنده بقية الفنون/ الرسم/ الموسيقى/ النحت/ الادب.
ما يهمني بعد هذا الإستطراد هو الحديث عن كتاب فيزياء الجسد ورائد البيوميكانيك فسيفولود مييرهولد.
فمنذ عشرينيات القرن الماضي تألق مييرهولد على صعيد المسرح متخطيا معاصريه. حيث طوّر أعماله وجدّدها باستقدام وملامسة معطيات المسرح الشرقي والغربي ( من اليابان والصين وصولا الى فرنسا وانكلترا واسبانيا). فأزاح جانبا ما كان يثقل كاهل المسرح من الطبيعية وجفاف الواقعية... وإيغال الممثل في إفتعال الحياة بأدق تفاصيلها سعيا لتجسيدها بصورة فوتوغرافية. بدأ عمله بتغيير مفاهيم التمثيل من الممثل حتى فضاء المسرح.. كما أعطى أهمية خاصة لإختيار النص. فلا بدّ له من الشاعرية المحلقة في الرمزية والمجازبة. الواقع شجونا وشؤونا في متناول اليد و تحت النظر. نراه ونعيش فيه بحساسية جديدة. أيّ ترك شخوص الأشياء وتسلّيط الضوء على ظلالها، ونتغوّر الى عالمها الداخلي ، عبر عملية التجريب التي كانت تنتقل من مرحلة الى مرحلة تاركة وراءها رؤى وإيقاعا جديدين.
وعلى الرغم من أن مييرهولد أحدث ثورة في بنية المسرح وفضائه ألا أنه أولى الممثل إهتماما غير عادي. كونه نبض وإيقاع أي منجز مسرحي. يجب أن يكون لكل عضو في الجسد لغته التعبيرية، بدءا من الاصبع والشفتين والعينين والحاجبين والانف والرقبة وصولا الى بقية الاعضاء. عليه أن يعبّر بها أكثر مما يحركها: اقتصاد في الحركة( من منطلق التايلورية)، الإرتداد وردود الأفعال ( بافلوف، الإنعكاس الشرطي) . إيغال في التعبير، وفق أداء تمثيلي واع. كما لو كانت الكلمة المنطوقة شخصا. واللغة موسيقى. أما مجمل حوار الممثل فيبين عمّا في داخله، فيجر النظارة الى ماوراء الاشياء ، الى القاع الأعمق. لذلك كان لابد من أن ينقل مييرهولد المشاهد من يباب الواقع ، من الرتابة والملل، من المعتاد البالي الى سدم معرفية لا مرئية.. يرى بعقله وضميره وإيمانه.. ولن يتأتى هذا الإنجازالحداثي إلا من خلال التمرين والتلقي والتعليم والدرس والمثابرة ، واليقين الذي يمنح الممثل قناعة بأن من يمثل على خشبة المسرح ليس شخصه، وانما هو من يتقمصه ويعبّر عنه.
إذا النص في التمثيل غير النص المقروء والمسموع عبر اداء الممثل. فبدأ القرن العشرون ثورة في المفاهيم: الرؤية والرؤيا، العمل والراحة. التربية والعلم. وصولا الى الفن الذي فجّر - من خلال افرعه: الرسم ، النحت، الموسيقى، الادب- الثورة العلمية التي إنطلقت من بؤر الحلم الى ضفاف الإنجاز والتطبيق.
مييرهولد كان يحلم. ويستحيل حلمه حلما آخر على الخشبة. إذا كان الناس يشاهدون حلما من أحلامه يشع به جسد المسرح: إضاءة، ومخلوقات محايدة. وممثلين حالمين خلل اللغة والإداء. فليس إعتباطا أن تقول د. غالينا تيتوفا عن هذا الكتاب: إنه يقنع قارئه بأن مييرهولد هو أحد النوادر من رجال المسرح الذين لا تنحسر أهميتهم بمرور الزمن، ويدرك إلى أي مدى غيّر فهم و إمكانات المسرح( ص 22) ، كما يقول عنه أ. فيفراليسكي متسائلا: ماذا نتعلم منه، ذلك الرجل الذي قام بالربط المباشر لمنجزات العلم في مختلف الميادين مع متطلبات المسرح الحديث وفن التعليم المسرحي، ويشيد بدوره في تنشيط القدرات الفنية لدى شخصيات فنية مثل: جيرزي غروتوفسكي ، بيتر برووك، جورجيو ستريهلير، وآريانا منوتشكين...( ص25).
يقول مييرهولد على لسان تريبيليف الذي مثل دوره في طائر البحر ل (تشخيوف): ما نحتاج اليه هو نوع جديد من المسرح .. نحن بحاجة الى أشكال جديدة، وإذا لم نأت بها فمن الأفضل ألاّ نعمل أي شئ. (ص45)
فقد أعتمد جميع المذاهب الفنية الجديدة: الرمزية في مسرحيات ميترلينك... كما تأثر بكتاب " مسرح المستقبل" للألماني جورج فوكس.. وخلال حياته- كمحرك دينامي فاعل- تخلّص من رميم بعض التقاليد الكلاسيكية وتوغل في التجريب والحداثة. فاصطدم بجدار الواقعية الاسمنت.. تلك الواقعية التي ظلت تجترّها القوى الإشتراكية وتلوكها حد الجفاف والعقم. وبعد وفاته حظي بإهتمام الكتاب والنقاد والمسرحيين. فظهرت في أوربا مدراس مسرحية عنيت بتراثه الفني.
ففي السويد تبنى مسرح شهرزاد تجاربه. وفي بريطانيا حظي بإهتمام روبرت ليتش الذي يقول عنه: "على النقيض من ستانيسلافسكي مؤسس المدرسة السايكولوجية في التمثيل فإن مييرهولد أبتكر مسرحيا شعريا، له قوة مجازية لا حدود لها" وعلى الرغم من كون ليتش منجذبا الى التصويرية المعبرة لدى إيزنشتين الذي سمّى منهجه" الحركة المعبّرة".. فإنه تطبيق متطوّر لمنهج البيوميكانيك قام به أحد تلاميذه(ص 289)
والى عهد قريب كان الغربيون يظنّون أنّ مسرح مييرهولد تجسيد للمسرح السياسي القائم على التحريض في المقام الأول.
فاضل الجاف في كتابه، يلج بقارئه في محترف البيوميكانيك.. بعد أن مهّد لتفصيلاته وتمريناته التي يتوجب على الممثل التدريب عليها وإتقانها( يراجع الملحق 1ص 195 والملحق 2 ص209).
كما يتيح لنا الجاف فرصة للتعرف على تلاقح المسرح الاوربي الغربي مع المناهج المييرهولدية. وتاثير أحدهما في الآخر أخذا وعطاءً.
لقد أوقفنا قبل ذلك على حياة هذا المخرج الفذ بدءاَ من أيام دراسته الأولى حتى نهايته الفاجعة على أيدي السلطات السوفيتية.( يراجع الفصل الأول من الكتاب)
ولأن مييرهولد مبدع طليعي، مستقبلي حداثوي، ومجدد فذ، فلا غرابة في أن يقول الباحث الاميركي ميل غوردن: في المسرح سران: أحدهما ستانيسلافسكي والآخر مييرهولد.
ملخص ما يقال عن هذا الكتاب: إنه جهد رصين بإمتياز، حظي بعناية باحث متخصص صرف وقتا طويلا في تأليفه، عبر الرجوع الى العديد من المراجع واللقاءات مع مخرجي المسارح والكتّاب، ممعنا النظر في كل ما كتب وقيل عن مييرهولد..
في إعتقادي اننا في جاحة الى منهج البيوميكانيك بتأن وشمولية من مصادره ومن العاملين ضمن هذا الخط والاسلوب. ومن الضروري أن يدرّس في معاهد التمثيل وخلال الورشات المسرحية. فمسرحنا العربي- بإستثناء بعض الأعمال الجادة- يتخبط في العشوائية والإربا ك
وجهد الممثل الضائع الذي يستنزف قواه وطاقته جيئة وذهابا وصراخا.
ينبغي ان نبحث عن محرّك جديد. عن إنطلاقة سحرية ترينا مالانراه عيانا وتغور بنا في مدائن الأحلام ، بعيدا عن الملل والرتابة ونبش عوراتنا الإجتماعية التي تتكرر خلل المسلسلات التلفازية البئيسة. أما مسارحنا فلا بدّ من أن تضاء بأنوار الحداثه خارج الرقابة التي تفرضها السلطة.
أسم الكتاب: فيزياء الجسد ، مييرهولد مسرح الحركة والإيقاع
عدد الصفحات: 324 صفحة
المؤلف: د. فاضل الجاف
الناشر: دائرة الثقافة والإعلام/ حكومة الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة. 2006