مسرحية الشـاهد: الممثل، حينما يتماهى مع نصه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يتميز الصنيع المسرحي بخلاف الاجناس الابداعية الاخرى، كونه " ينتج " آنيا ً وبكثير من التلقائية التى تمنحه حيوية ما بعدها حيوية، يشترك في التمتع بها الفنانون انفسهم، والنظارة: مشاهدو العرض المسرحي والمتابعون لاحداثه. وهذه السمة المميزة للمسرح آهلته لان تكون مساهمته في اثراء تنويعات المشهد الثقافي العالمي ذا اهمية بالغة، ظل
تتحدث المسرحية من خلال اداء الممثل الوحيد عن شهادة لاحداث دراماتيكية مرت على مدينة كان الممثل شاهدها ومشارك في احداثها: ثمة كائن عمل مساعدا لملاك الموت المتجسد بالطاعون الذي غزا تلك البلدة واحال بعض سكانها الى مجرد موتى، والبعض الاخر الى مجرد منتظرين لموت آت لا ريب فيه. وفي هذه الاجواء الملحمية التى يتعرض لها الناس وهم في موقف مباشر امام سطوة الموت يتلو الممثل شهاداته ومشاهداته، مع " سيده " الذي لا يقهر؛ ويصف لنا، نحن النظارة، بكلام عادي ومفهوم عمله غير العادي والعصي على الفهم والادراك.
لا يمكن ان تكون مسرحية " الشاهد " الا مونودراما، وبعكسه سيفقد الكلام الملقى قوة تأثيره على المشاهدين، الكلام الذي اريد له ان يكون مباشرا وصريحا ومعبرا ومؤثرا؛ ذلك لان الاحداث الجسام التى مرت على المدينة لا يمكن سردها لهولها وفضاعاتها الا بكلام مباشر يستدعي حضور المخاطب بغيابه؛ فالممثل الوحيد منهمك في تلاوة نصه حدّ التماهي، وهو يقف امام النظارة مجردا تقريبا ً من كل ادواته الا نصه الذي به تتجلى سطوته وقوة تأثيره على جمهوره المصغي لذلك النص المحكي المنطوق قولا وليس فعلا؛ الواصف للمصائب التراجيدية التى خلفها الطاعون في انتشاره الكاسح على مدن بعينها. فالنص، هنا، كلام، وليس حوار، ذلك لان الحوار يستوجب حضور محاور، وهذا قد يحيل المتلقي الى محض مصغٍ ربما يسهو عن متابعة ما يجرى من حوادث تتفاعل امام ناظريه. ولهذا ينطوي الكلام في " الشاهد " على تلوينات القائية وتلقائية اريد بها شدّ النظارة نحو مايقوله الشاهد الوحيد: الممثل الوحيد.
ثمة جهد كبير بذله " اسعد راشد " ممثل دور الشاهد في " تقمص " بطله الراوي والرائي والسارد لتلك الاحداث الملحمية التى استمر بالقائها طيلة سبع وخمسين دقيقة هي مدة العرض المسرحي على جمهوره المكون اساسا من عراقي المهجر وبعض المهتمين من العرب والسويدين. كان حضور " اسعد " على خشبة المسرح طاغيا ً، ليس بباعث كون العرض مونودراميا ً يعتمد على ممثل واحد، وانما بسبب المَـلكـَة التمثيلية العالية التى بحوزة الفنان. وقد اسهمت طريقة الالقاء الصافية ونبرة الكلام المتغيرة طبقا لتغيير الحالات المشخصة وسهولة تحركه على الخشبة حد التلقائية المدهشة، اسهمت في تكريس ذلك الحضور وابانت تميزه المقتدر وآهليته للدور المركب كثيرالتعقيد الذي اضطلع بادائه.
ولئن اتفق كثر من المشاهدين، وانا احدهم بالطبع، على حسن اداء اسعد التمثيلي، فان ذلك الاداء لم يكن حاجزا امام التلذذ بقوة النص المسرحي وجرأته؛ وانا اتكلم عن " متعة " النص lt; بلغة رولان بارت gt;، تلك المتعة التى ينشأها ذلك الكلام المنطوق من قبل الممثل والمسموع من قبل النظارة: النص الفخيم الصافي، المركز والمفهوم والواصف بدقة لهول الاحداث المروية والسارد لوقائعها الرهيبة. ولهذا فان " اسعداً " وفي تماهٍ كامل مع نصه، يحجم احيانا عن اظهـار قوة " صنعته " التمثيلية فاسحا ً المجال واسعا اما النص وحده لتحقيق التأثيرات المطلوبة. في كثير من المشاهد " يغيب " الممثل توطئة لحضور النص. وهي علامة ايجابية، في اعتقادنا، عملت لصالح المسرحية ولصالح الممثل ذاته وقدرته المميزة بلا ريب، في " اختلاق " تنويعات متباينة للعرض المسرحي؛ تلك التنويعات التى وددنا ان يكون حضورها في العرض المسرحي حضورا ً بليغا ومؤثرا. فعلى سبيل المثال كان يمكن ان تكون الحركة الراقصة التى وردت في سياق العرض، حركة اساسية وليست هامشية وان تحظى باهمية " الفاصل " وتنويعاته التى تقطع مجرى السياق وتبعد عنه الرتابة. كما وددنا ان يكون ثمة توظيف مناسب، تقتضيها خصوصية العرض المسرحي، للمقاربة " الميرخولدية " lt; نسبة الى المخرج فسيفوليد ميرخولد gt; في اهتماماتها بحركة جسم الممثل تعبيرا عن مختلف الاحاسيس التى يؤديها اثناء اداء دوره المسرحي، اذ ربما اغنت مثل تلك التوظيفات تنويعات المشاهد المسرحية واكسبتها رصانة مضافة، ومنحت انتقالاتها مزيدا ً من الحيوية والتشويق.
واذ اسلمنا الرأي مع " اسعد راشد " بوجوب ان تكون عناصر مسرحه بسيطة وسهلة الحمل وقابلة لان تخزن في حجم حقيبة واحدة ليكون امر انتقالها من مكان الى اخر ومن بلد لاخر ميسرا وسهلا، فاننا نعترف مع هذا بان تلك العناصر كانت شحيحة في قيمتها الفنية وانطوت على بساطة عادية حد السذاجة، ولم يكن منتجها متساوقا مع قابلية الممثل وقيمة نصه الرائع. ونحن نتكلم عن ادوات الديكور وبقية عناصر السينوغرافية وكذلك اسلوب الانارة والموسيقى، وخصوصا الموسيقى التى لم تكن موفقة في اختياراتها، ولم تكن مقنعة كثيرا في مواكبتها لنوعية الاحداث الدراماتيكية الغاصة باحداثها خشبة المسرح. كما لم نلمس ثمة اجتهاد ملحوظ في العملية الاخراجية. بيد ان الاشارة الى تلك الملاحظات لا يمكنها باي حال من الاحوال ان تقلل من الجهد المبذول من قبل منتسبي " تياتر ميزوبيتاميان " في تنظيمهم للعرض المسرحي الناجح بكل المقاييس وفقا لاشتراطات المكان وخصوصية العمل المسرحي المهاجر، ذلك العرض الذي ابانوا به عن امتلاكهم لاحترافية متقنة ومهنية عالية. لقد عبروا بوضوح عن انتمائهم لمسرحهم الجاد، المسرح الذي ما انفك يعتبرونه واحدا من الروافد العديدة التى تصب في مجرى المنجز المسرحي العراقي المميز. lt; كان العرض المسرحي مكرّس، بايماءة كثيرة المعنى، الى ذكرى فقيد المسرح عوني كرومي gt;.
ومع الاقرار بنجاح " مسرحية الشاهد "، فثمة " غصة " مؤلمة يظل تأثيرها قويا لجهة عدم تساوق الجهد المبذول في اعداد المسرحية مع واقع عدد الحضور المقنن والمتواضع الذي شاهد العرض المسرحي. فالعمل المضني والشاق الذي رافق العرض والاستعدادات الكثيرة العسيرة والمتعبة لما قبل العرض، كان يمكن ان تكافأ بحضور عدد مقبول من المشاهدين كي تستقيم معادلة " وجود المسرح بجمهوره ". لكن من اين لهم ان يجدوا جمهورا مناسبا ؟ فهذه الاشكالية هي جزء من معاناة واقع مبدعي المهجر والتباساته. يعيب البعض على العراقيين كرههم الشديد والدائم للنظام الديكتاتوري التوتاليتاري الصدامي لمسؤوليته في تشتت مثقفيه ومبدعيه ونفيهم بعيدا عن وطنهم. وحال مبدعي " المسرح الرافديني " هي احدى الحالات الكثيرة والمتشعبة لما اقترفه ذلك النظام الظلامي من نهج دائم في وأد الثقافة الرفيعة وانتهاك حقوق مبدعيها.
ان مسرحية " الشاهد " صرخة قوية ومسموعة في وجه الديكتاتورية، انها تذكير للجميع بآثامها المرعبة تجاه الوطن ومبدعيه.