ثقافات

براءة: صورة شعرية ومؤلمة للعالم

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

شخصيات تائهة تبحث عن الحب والحميمية
الهجرة والإندماج والعودة إلى الجذور

صالح حسن فارس من أمستردام: من يهتم بمخلوقات العتمة؟ من الذي يعيش معاناة الضائعين في دروب النسيان؟ آلام وأحلام أناس على هامش المجتمع، شخصيات خارج مركز الدائرة الاجتماعية وواجهاتها وعناوينها الفخمة من نجوم السياسة والفن والرياضة! على مر التاريخ والطبقات المسحوقة مهمشة،وهي خارج دائرة الاضواء، فمن يدري بهموم ابناء الأرصفة والطرقات وأحلامهم؟
إلى هؤلاء المنسيين هتفت الكاتبة المسرحية الألمانية (ديا لوهير) من مواليد عام 1964، والتي تعتبر من أحد أبرز الكتاب الألمان المعاصرين، فتوضح أن هناك من يهتم بهم وينير مأساتهم ويروي حكاياتهم وأحلامهم. غير أنذلك تجلىفي عملها المسرحي "براءة". وهو عمل مسرحي جديد من إخراج الهولندية (اليزا زاندفايك) قدمته فرقة مسرح ( رو ) (Ro Theater) في الأسبوع الماضي على قاعة مسرح (ستاتس خاوبورخ) بروتردام .
يتناول العمل حكايات مختلفة منتقاة من واقع الحياة المعاصرة ، بأسلوب شعري جميل على الرغم من التراجيديا المأسوية التي تحاول عرضها، فتبين أوجاعها بأجواء "كافكاوية"
عدمية بإمتياز.
حقائب وأحلام طفولة ملونة على حافة الميناء، هموم وأشجان، أحاسيس وعواطف، أوساخ وأدران المجتمع الحديث، تعرية الإنسان الأوروبي واكتشاف ما يكمن في إعماقه من يأس وعبثية وضياع وفقدان الدفئ الوجداني في عملية سبر الأغوار، واكتشاف أيضًا جذور مسرح اللامعقول الأوروبي المعاصر.
النص يمتاز بشعرية حارة وشفافة مشبعة بأحاسيس وعواطف ووجدانيات اليائسين، وهو مخالف تمامًا للصور السائدة في المسرح الهولندي الذي يحاول رسم صور التفاؤل والأمل، ولا ينير الجانب الآخر من الواقع الاجتماعي، مما يكشف لنا عن جرأة تكاد تكون نادرة وثائرة على النمط المسرحي الهولندي السائد من خلال حكايات متنوعة يقوم بأدائها احد عشر ممثلاً، حكايات اناس من مختلف الشرائح الاجتماعية، حكايات مختلفة ومنفصلة ولكنها تتصل في النهاية بنسق واحد على غرار الفيلم الذي نال جائزة الأوسكار ( بابل).
ساعتان ونصف من الفانطازيا والخيال، أفريقيان مهاجران، عاطلان عن العمل، لا يجيدان لغة الغرباء، تملؤهم مشاعر الخيبة والفشل، وشخصيات فلسفتها عدم جدوى الفلسفة والحياة في هذه الدنيا، وأن السعادة والأمل موجودان في العالم الآخر، ولكن هل هناك عالم آخر بعد أن صرخ نيتشه مؤذنًا بموت الإله؟
عبر تسعة عشر مشهدًا قدمت لنا المخرجة الهولندية هذا العالم الغرائبي وأشخاصه الحائرين والساخرين من عبثية الحياة اليومية في حياتنا الحديثة، ومشاعر العجز في تلك البلدة الأسطورية، بحيثيشهد المهاجران الأفريقيان امرأة تنزل البحر لتضع حدًا لحياتها؟ولكنهما لم يتدخلا، أليس ذلك خير لها؟فنرى أن أحدهما لا يستطيع النوم فمشاعر تأنيب الضمير تقضي مضجعه دائمًا... والآخر يعثر على كيس نقود ويعتبره إشارة أو علامة الهية. على الرضا والقبول ...

ونرى أيضًا إمرأة عمياء، ترقص عارية في ملهى (الكوكب الازرق) لكي يتمكن الرجال من رؤيتها...
إمرأة بلا أطفال، تطلب المغفرة من الجميع عن الخطايا التي أرتكبها ابنها...
فيلسوفة تحرق كتبها وتضرب زوجها الصامت حتى الموت، ولم تعد تؤمن بصدقية العالم ...
عجوز مريضة بمرض السكر تنتقل للسكن مع أبنتها وزوجها وتهيمن على حياتهما وتسممها...
بشر يتقابلون ويفترقون ...
وحفار القبور العاجز جنسيًا وتأكله مشاعر الفشل عن تلبية رغبات صديقته الجنسية...

تفتح المخرجة علينا نافذة كبيرة للأسئلة التي لا تنتهي إبتداءً من عنوان عملها (براءة) وانتهاءً بعدم الجدوى للشخصيات، حيث يتجلى واضحًا أن عنوان العمل صرخة كبيرة في وجه المجتمع. يبدأ العمل بمشهد رائع حيث تظهر لنا المخرج حياة المغترب وهو يلتحف الرصيف في ميناء الذييعبر عن فضاء مفتوح على خشبة المسرح، وفي الخلفية هناك باخرة كبيرة جاثمة على صدور المغتربين. حيث ينقل لنا الممثل المغترب مشاهد من حياته وأحلامه المبعثرة في المدن التي تركها. من هو المسؤول عن ضياع تلك الاحلام؟ سوال يبقى معلقًا في فضاء الميناء!

المكان هنا ضياع لكينونة الإنسان وعدميته.
لا تتمسك المخرجة بشمهد واحد، إذ إن كل مشهد من مشاهد المسرحية هو عمل مسرحي منفصل عن المشهد الذي قبله أو المشهد الذي يليه. تناولت المخرجة حياة المغترب واثار المنفى على حياته بطريقة شعرية ساخرة مرحة. حيث يخرج المشاهد من العرض بحالة من الوجودية تلاحقه، لقد نجحت المخرجة في تسريب القلق والاسئلة الوجودية إلى الجمهور. حصلت مسرحيتها على عدة جوائز، ونالت مكانة مرموقة في عالم المسرح الالماني والاوروبي. كما أن هناك قرابة كبيرة بين نصوص لوهير وعمل اليزا زاندفايك. الاثنان يظهران عبثية جوانب الحياة اليومية في حياتنا وفي واقعنا. ان عملها هذا الاخير(براءة) هو أكثر متعة وتشويقًا ويعتبر من أهم أعمالها المسرحية على حد تعبير جريدة (فولكس كرانت) الهولندية.

بعد نهاية العرض، عقدت ندوة نقدية للعمل المسرحي بتنسيق وتعاون مع مسرح ( رو) ومنظمة (عايدة) الهولندية، أدارها الكويغراف الهولندي ( توباس روبرت) مع تعريف بضيوف الجلسة، وهمالباحثة الاجتماعية العراقية الكردية الناشطة في حقوق الانسان (جوانه عمر) التي تحدثت عن تجربتها في المنفى وعن حرية الانسان. وكاتب هذه السطور الذي تحدث عن اهمية حضور الممثل في العرض المسرحي وتقنية الجسد ولغته واستخدام الاضاءة واللون في العمل المسرحي وبصرياته وعن اداء الممثلين وتقنياتهم. كما تكلم أحد الممثلين المشاركين في العرض المسرحي عن تجربته الخاصة في افريقيا ومدى استفادته من المسرح الهولندي واعتبر هذه التجربة من التجارب المهمة في حياته المسرحية.. وتم مواصلة الجلسة لمناقشة العمل من قبل الجمهور في اغناء النقاش من خلال مداخلاتهم ونقاشهم وأختتمت الجلسة بمشاركة فنانيين هولندين وأجانب.

www.salehhassanfaris.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف