سوداني: الإنسان يحلم عن طريق اللغة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حوار مع الكاتب والناقد والمسرحي العراقي المغترب فاضل سوداني:
المسرح يحيل عالمنا إلى أكثر عدالة وإنسانية وأقل عنفا
حاورته نـوّارة لـحـرش: فاضل سوداني شاعر و أستاذ جامعي ومخرج مسرحي وباحث أكاديمي في الفن له دكتوراه في الإخراج والعلوم المسرحية. هو المخرج والمدير الفني لفرقة (مسرح البعد الرابع ـ كوبنهاكن ) محاضر حر في الطقوس الدرامية والفن الشرقي في معهد تاريخ البحوث المسرحية في جامعة كوبنهاغن وعضو الجمعية الملكية
عمل أيضا مخرجا وممثلا لسنوات طويلة في العديد من المسرحيات العالمية في مختلف البلدان ولمؤلفين مختلفين عالميين وعرب.وهو يعد واحد من أهم وأبرز الكتاب والمسرحيين و الأكادميين العرب و معروف عنه أنه يدعو بشدة وامتياز إلى تحقيق النص المسرحي البصري وإلى تطوير عمل الممثل والمخرج المسرحي من خلال إقامة work Shop في مختلف المعاهد والمهرجانات الفنية والمسرحية العربية يدرب ويدعوا فيها إلى استخدام الذاكرة الجسدية البصرية المطلقة لجسد الممثل، وعن الرؤيا الإخراجية في الفضاء المسرحي البصري.
منذ عام 1991 وهو يعيش ويعمل في الدنمارك.تُرجمت مؤلفاته ومسرحياته إلى اللغة الدنماركية بعد أن قدمت على المسرح وخاصة مسرحية ( النزهات الخيالية ) ومسرحية ( الرحلة الضوئية ) والتي درست وترجمت إلى الانكليزية ضمن متطلبات نيل شهادة الماجستير في جامعة عبد المالك السعدي في طنجة.. في الفترة الممتدة من 23 مايو و إلى غاية 6 جوان كان فيها ضيفا على الجزائر لتنشيط بعض فعاليات مهرجان المسرح المحترف في طبعته العربية بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، حيث قام بعدة ورشات مسرحية لمؤلفين شباب كورشة الكتبة المسرحية التي أنجزها سوية مع المؤلف المسرحي عبد الكريم بورشيد وقدم عدة محاضرات ومداخلات عن المسرح والتغريب وعن الذاكرة الجسدية والبصرية و عن درامية الشعر وشعرية المسرح. عن كل هذا و أكثر كان هذا اللقاء معه وهو الأول له في الصحافة الجزائرية.
** أنت الشاعر والباحث والمخرج و المؤلف المسرحي والأكاديمي، تحت أي سماء من هذه السموات تجد نفسك أكثر أجمل؟ و هل تنحاز للمسرح أكثر على حساب الشعر أم العكس أم تخدم هذا بهذا كثنائية لا انفصام ولا انفصال فيها؟
** فاضل سودانيالمسرح بدا طقسا وشعرا وحتى هذه اللحظة لا يمكن الفصل بينهما، إذ أنّ المسرح والشعر جمعتهما الدرامية ـ الشعرية، أي درامية الشعر وشعرية المسرح. وبالنسبة لي فإنّ الشعر غير مستقل عن فضاء المسرح عموما أوعن النص المسرحي بالخصوص، و لهذا فإنه يؤثث المسرح. ولكن السؤال المهم هو أي شعر وأي نص مسرحي يمكن أن يخدم المسرح ويجعله بصريا حقا؟.
وحقيقة القول لا يصلح أي شعر للمسرح، و إنما فقط ذلك الشعر الذي يمتلك رؤيا متميزة ويحتوي على ذلك السؤال أو السر الخفي الذي يقلق الإنسان من جانب، ويمنحنا سهولة العمل في مجال البصريات ما دام المسرح بصريا في الأساس، وهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون تأثير الشعر أو الشعرية أو النص الشعري (البصري) أو الصورة الشعرية، تأثيرا على السمع فقط، وإنما على البصر أيضا.هنا تكمن صعوبة كتابة النص المسرحي(البصري)، ولهذا فإن الشعر والنص المسرحي الحداثي المتقن الصنع من أهم الأنواع الأدبية والفنية وأصعبها قاطبة.والشعر أو الشعرية في المسرح تحتم على أن تكون مفردات اللغة قادرة على أن تُرى وليس أن تسمع فقط، ومن هنا فإن شكسبير مازال يعاصرنا.والنص البصري الذي أدعو له هو ذلك النص البصري الذي يمتلك القدرة على تخليص المسرح من الثرثرة، ليس في الحوار وإنما ثرثرة العواطف والأفكار، ويدعو إلى تلك الرؤيا وذلك السر الذي يقلق الجمهور (الذي يجب أن يكون متفاعلا ).إذن الشعر البصري المتفرد هذا يؤسس المسرح كما أن المسرح وأعني (النص البصري والعرض المسرحي الرؤيوي، والفضاء الميتافيزيقي للمسرح) يؤسس أيضا الشعر والشعرية كرؤيا بصرية تؤثث وعي الإنسان الجمالي، ولهذه الأسباب فإن هذه الثنائية لا انفصال بينهما مطلقا.
(المسرح يجب أن يقلق المجتمع )
** مسرحيتك الجديدة (النزهة ) تعالج خراب الإنسان المعنوي، برأيك ما الذي يشكل خراب الإنسان؟ وهل الخراب الإنساني واحد أم متعدد وله مناخات مختلفة؟ هل يحتويه الركح، وهل يؤثثه بما يمكن من فرح و أمل و حبّ؟
** فاضل سوداني شكرا لهذا السؤال المتشعب. يعالج المسرح منذ نشوءه وحتى يومنا هذا، تلك الموضوعات والمشاكل المصيرية التي تقلق المجتمع و الذات في آن واحد، وتنشأ في ظروف زمنية ملتبسة، مما تفرض الخواء الروحي.
وبالتأكيد فإن الأهداف النبيلة والإنسانية للمسرح تمتلك ضرورتها الآنية في المجتمعات العربية لأسباب كثيرة نتيجة لإعتماد الإتكالية والسهولة وسذاجة النظر في معالجة مشكلة الثقافة العربية من خلال إبعادها قسرا عن الحياة، إضافة إلى التزام عقدة النقص إزاء ثقافات أخرى أكثر تطورا مما هيئ إمكانية تقليد الحياة الاستهلاكية و الفكر التجريدي، ونـقلها حرفيا إلى مجتمعاتنا التي مازالت تعاني الأميّة والجوع والتخلف وختان البنات وتعـدد الزوجات ( بمفهوم الحريم)، واستخدام التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الإعلام فقط لصنع دعاية ساذجة لتمجيد سلطة الفرد والحكم الشمولي، و لتثبيت ركائز الديمقراطية المزيفة في الحياة اليومية.
هذا هو المشهد المرعب الذي نعيش فيه، ألا نتلمس من خلاله أسباب للخراب الذاتي والروحي والإجتماعي؟ ولكن عندما يعي الإنسان وجوده هذا، بالتأكيد لا بد أن يعي خرابه الحقيقي. وبالتأكيد أن الخراب متعدد الأشكال فالموت قادر على خراب كيان الإنسان روحا وجسدا. وفي المسرح فإن موضوعة الخراب قد عولجت كثيرا على طول التاريخ
أما بالنسبة إلى مسرحيتي الجديدة " النزهة " فهي حالة خاصة عن خراب روح الإنسان الذي يعيش ضمن ظروف إجتماعية وسياسية معينة.
أي عندما يمعن الإنسان في الخراب ولا يستطيع مقاومته وينساق له فإن حدود الرقيب الذاتي والأخلاقي تنعدم. مما يدفع هذا بالبطل أن يضع الإشكالية أو الأزمة بعيدا عن التسامح فيفرض العنف التدميري. هل يمكن أن يقتل الأب إبنه؟ هذا هو السؤال الصعب الذي يجب أن يعالجه المسرح مثلا مادام يحدث في المجتمع، لأن المسرح يجب أن يقلق المجتمع.
وأعود إلى السؤال الذي طرحته حول القتل؟ نعم ممكن للأب أن يقتل أبنه ضمن الشروط التي تطرقنا لها أو الظروف الاستثنائية كالحرب اللامجدية أوالعنف. وهذا ما حدث للأب في أحداث المسرحية، حيث وضع مصير إبنه بين عاطفة الأبوة وبين واجبه الذي يحتم عليه كإنسان ينتمي إلى مجتمع العنف ( إذ كان كل من الأب والإبن في نهاية طرفي المعادلة، حيث كان الأب رجل مخابرات في سلطة إستثنائية تقود حربا لا مجدية، وإبنه من المعارضين للحرب ويرفضها وعندما يعود إلى بيته بعد اختفاء وهروب طويل فإن الأب يسلمه للموت كما يفرضه قانون السلطة الإستثنائي ) وبالتأكيد حتم هذا الأمر انتصاراً لمجانية العنف الذاتي والإجتماعي. أليس عدم حماية الأب للإبن (عكس ما يفرضه شرط الأبوة ) وإهداءه للموت هو تراجيديا الخراب الروحي والمعنوي و العدمي؟؟ ألا يكون مثل هذا الخراب جديرا بالمعالجة على المسرح أو في شتى الأنواع الفنية أو الأدبية الأخرى؟
** قلت " الكلمات تحلم وتدعونا لتسميتها "، فهل أيضا الكلمات تحلم بنا وتدعونا لتسمينا في ذات الوقت؟
** فاضل سوداني بما أن الإنسان متعدد الذوات، ستكون بالتأكيد اللغات التواصلية للذات مع الآخر متعددة، وبالتأكيد فإن الإنسان يحلم عن طريق اللغة، لكن ليس عن طريق اللغة الواقعية اليومية، وإنما لغة الحلم الخاصة، وهي لغة تصويرية وتحتوي على دفق كبير من الخيال، إذ أن اللغة البصرية هي التي تشكل وجود الإبداع وجوهره إضافة إلى أن الإنسان لا يمكن أن يتخلى عن خياله.ويصبح الفن جافا إذا لم يمتلك القدرة على منح الأشياء والكلمات وجودا ديناميكيا لتصبح مرادفة لوجود الإنسان..
إذن الفن يتحدث عن الرؤيا الخفية وعن ذلك الوجود غير المرئي في الحياة والطبيعة أو الواقع، و يفرض اكتشاف هذه الرؤيا على لغة الحلم والصورة معبرا عنهما باللغة البصرية.
إضافة إلى هذا فإن هذه اللغة البصرية تجعل من الأشياء ( عندما نستخدمها فنيا ) كائنات مرئية نندهش لوجودها البصري ـ الفني بالرغم من استخدامها كل يوم في الواقع قبل أن تدخل العملية الفنية. أنظري إلى لوحات بيكاسو و سلفادور دالي لتلاحظين هناك تأكيد على وجود الأشياء والكائنات المهملة ومنحها وجودا جديدا في أحلامه.أن مثل هذا الفهم الإبداعي لابد أن يمنح هذه الأشياء وجودا مرتبطا بوجودنا، ولا بد أن تسمينا كما نحن نسميها ضمن لغة بصرية تختلف عن لغة الواقع.
** بين الصورة الشعرية والحركة التعبيربة المسرحية أين تجد سماءك أوسع /أكثر؟أم كلاهما يكمل ويؤثث الآخر؟
** فاضل سوداني وكما ذكرت في السؤال الأول حول علاقة المسرح بالشعر، وهنا أيضا يمكن أن نؤكد عدم الفصل بين الصورة الشعرية والحركة التعبيربة، وهذا بالتأكيد مرتبط بالشعرية في المسرح إذ أن شعر الفضاء المسرحي لابد أن يكون بصريا. وكذلك فإن جسد الممثل ( الحركة ) لا بد أن يكون شعرا بصريا في تعامل الجسد مع الفضاء.أي لا بد أن يكون للجسد وجودا فنيا يختلف عن وجوده الواقعي و ما أعنيه هو شعرية الفضاء المسرحي ( وليس الشعر في المسرح ). وهذا التلاحم في المتن الإبداعي بين الشعر والتعبير الحركي المسرحي هو الذي يخلق البصريات الإبداعية.
و يمكن الحديث عن علاقة الحركة بالجسد في العملية الفنية من خلال ما أسميته بالذاكرة المطلقة لجسد الممثل مثلا والتي لا تعني ذاكرة الممثل كإنسان.
يمكن التأكيد على أن جسد الممثل بذاكرته البصرية هو لغة في الفضاء المبدع، ، لأنّ الممثل يتعامل دائما مع الزمن الفني والإبداعي وليس الزمن الواقعي. وضمن هذا المفهوم لا بد أن يمتلك الجسد ذاكرته الإبداعية، فالجسد يعبر تأويليا وبصريا وسميولوجيا عن ذاته وكينونته ووجوده في الزمكان الإبداعي من خلال قدرة الممثل والمخرج على فهم الزمن الإبداعي.
إن وجود الممثل في الفضاء في علاقة ديناميكية مع الآخر ومع الشيء هو من أجل إنتاج الصورة الشعرية ـ البصرية الإبداعية غير الكلامية التي ترتبط بالزمن الميتافيزيقي.
** هل وصل المسرح العربي في تجريبيته لدرجة التأثير الفعلي؟ هنالك من يرى بأنه لم يتخطّ عتبة التتلمذ، وبأنه لم يتطور بالشكل المرجو؟ أنت كمسرحي هل ترى هذا أم ترى أنه وصل إلى أرقى فنيات التجريب و أنه حقق ذاته الركحية التجريبية ولو بدرجات؟
** فاضل سوداني التجريب في المسرح العربي إحدى مشاكل تخلف المسرح، و بدون ذكر بعض التجارب الإستثنائية و إبداع تجريبي لبعض الممثلين والمخرجين والكتاب، فهو عموما تقليد للمسرح الأوربي بشكل مشوه وهامشي وذلك نتيجة لتكيف الفنان ليس مع ذاته الإبداعية على اعتبار أن التجريب هو تعبير حقيقي عن الإبداع الذاتي وعلى تطور الذات الواعية ضمن الحداثة المعاصرة، أو على ضرورة وأهمية التجريب لتطور المجتمع، بل إن هدف التجريب كان و مازال إرضاء لغرور الفنان أو المؤسسة الرسمية أو لأغراض سياحية أو نتيجة لهيمنة الطابع الإستهلاكي للفن، أو لكون الفنان داعية آديولوجية مما يخلق نوع من التكيف بين الفنان و المؤسسة أو السلطة.فعادة يفهم التجريب بأنه إلغاء الجهد الإبداعي العظيم السابق. وهذا يدفع الفنان الهاوي و الساذج وغير المتمكن من أدواته الإبداعية بالحذف و الإضافة على أعظم إنجازات الفكر المسرحي العالمي بحجة التجريب، أو يستخدم المخرج والممثل حركات رياضية بدون معنى على اعتبارها جوهر التجريب، بدون معرفة فلسفة الجسد وقانونه في الفضاء الإبداعي.وكبديل لهذه الهلوسات من الضروري اعتماد التجريب كضرورة لها معماريتها الفلسفية والبنائية، ولهذا فإنني طرحت كتابة وتطبيقا منهجين للوصول إلى التجريب في المسرح العربي وهما إعادة بناء فضاء المسرح بصريا من خلال البعد الرابع في الرؤيا الإخراجية، والثاني هو أهمية كتابة النص المسرحي البصري من قبل المؤلف.إن النص في الطقس المسرحي البصري، ضمن مفهوم بصريات النص، والبعد الرابع، يجب أن يكتب بوعي بصري و رؤيوي منذ بذرته الأولى. أي أن حجم ومستقبل الفعل والحدث و الحركة و المادة والصمت المتوتر والرموز والإشارات، لها كثافتها وحجمها و ديناميكيتها وأبعادها ضمن الزمن والفضاء الإبداعي على خشبة المسرح، وليس على الورق. ولهذا فإننا يمكن أن ندعو النص المسرحي غير البصري، بالنص الأدبي المغلق، النص الميت، لأنه ذلك النص الذي يتحدث بالوسائل الأدبية عن كل الأجوبة حد الثرثرة، ولا يتعامل مع فضاء العرض البصري، وإنما يكتب بلغة الأدب. ومثل هذا النص وكذلك الرؤيا الإخراجية البصرية بالتأكيد ستوحي إلى الممثل بأن يستخدم ذاكرة جـسده المطلقة، كل هذا الذي ذكرته هو الذي يبني تجريب غير هامشي أو ساذج.بالتأكيد فإن النص البصري القريب من رؤيتنا هو النص المسرح الطليعي الذي يسمى خطأ باللامعقول.
** كثيرا ما نسمع ونقرأ عن المثقف العربي وعن أزمته المديدة، برأيك مأزق المثقف العربي أين يكمن تحديدا، هل مع السلطة مثلا، مع المجتمع، أم مأزقه بالأساس مع نفسه؟
** فاضل سوداني إن أزمة المثقف العربي عادة تكون مع ذاته لأنه يعتمد السهولة والاستهلاكية في الفكر وكذلك هو كفكر قابل للتكيف الفكري، فهو يتكيف عادة فقط مع ذلك الفكر الذي يعود له بالمنفعة الذاتية، إن هذا التكيف الفكري مع السلطة اللا ديمقراطية والانسجام كليا و التماهي معها يؤدي بالمثقف إلى خيانته لدوره التاريخي وهذا هو الذي يخلق أزمته الثانية مع المجتمع.ولهذا فإن تحولات مثل هذا المثقف كثيرة وسريعة و تخدم التطور الإستثنائي فقط.
غير إن خواء أية ثقافة وعدم فعاليتها متأتية من خواء روح المثقف بالدرجة الأولى وعدم تطور الظروف الموضوعية، وتضخم عبوديته لمصالحه الأنانية الآنية الصغيرة، وهذا يفرض عليه الإلتزام بثقافة تخدم مصالح الأنظمة الإستثنائية. وبالتأكيد فإن ما نطلق عليه بمفهوم التكيف الفكري والثقافي، والذي نعتبره ظاهرة للمثقف السلبي المعاصر، حيث من خلالها يضطر هذا المثقف إلى الإلتزام بالفكر أللا إنساني.
وإذا كانت فرضيتنا هذه منطقية ومعقولة فإننا يجب التأكيد بأن مثل هذه التحولات لا بد أن يكون لها ظروفها ومسبباتها و تمهيدها التاريخي. ولكن الخطورة تكمن في العمل على تعميم ظاهرة التكيف لدرجة أنها لا تشمل المثقف فحسب بل المجتمع ضمن ظروف إستثنائية ستساعد على تكيف قطاعات كبيرة من المجتمع.
ينشأ التكيّف ويصبح جزءا من عمليات التخريب الإجتماعي والثقافي عندما يكون هنالك خواء فكري يميز فعاليات الإنسان الحياتية والفكرية، و سكونية في التطور الإجتماعي، وفي مثل هذه الظروف يخون المثقف ذاته ويقوم بتحويل قدرة الوعي والعقل الشموليتان إلى أنانية ضيقة، وهذه تحوله إلى مشروع للتكيف مع سياسة السلطة الشمولية أو الدكتاتورية فيفقد حصانته الداخلية المتفاعلة ليتحول إلى مثقف متكيف يحفر الخواء في روحه وروح أمته.وهذا يهيئه إلى أن يصبح داعية لبرنامج السلطة، وتكون مهمة المثقف هنا، إضافة إلى ما ذكر، هي استغلال ثقافته لتنمية غرائز العنف المتوحشة في روح الإنسان وفي المجتمع حتى تحتل الأولوية في سلوكه، فتتحول إلى ظاهرة طبيعية وتقود الجهالة الخراب والسكون الحضاري.
سيكون ديالكتيك الثقافة العربية وتأثيرها الديناميكي هامشيا ما لم يأخذ بالإعتبار أهمية الدور التاريخي للمثقف المتفاعل غير المتكيف.
ومن أجل الوصول إلى الوعي الخلاق لتطوير ذات المثقف المتفاعل وعدم السقوط في شيزوفرينيا الذات والوعي، عليه أن يعتمد على تماسك ذاته وصلابتها وبنائها، أي اختيار ذاته من جديد للمساهمة في خلق البناء الإجتماعي والحضاري، و يفرض هذا أهمية المثقف المتفاعل، صاحب العقل الديناميكي والمعارف المتطورة، وهذه كلها تشكل سلطة المثقف المتفاعل.
** خلال فعاليات مهرجان المسرح المحترف في طبعته العربية، قدمت مداخلة أو محاضرة بعنوان ( النقد المزدوج وتغريب المسرح العربي )، برأيك لماذا المسرح العربي يعاني من بعض الإغتراب؟
** فاضل سوداني المسرح العربي أحادي النظرة في ربرتواره ( برنامجه ) أما أن يكون هنالك إنحياز إلى المسرح الأوربي باعتباره المسرح الوحيد و المتطور، أو أن بعض منظريه يدعون إلى الإنغلاق لتأكيد الهوية والخصوصية. لأن السؤال الذي يضعنا في مستوى المسؤولية هو من أجل الكشف عن ذلك السؤال المستور دائما وهو كيف يمكن أن
يكون المسرح حداثيا أو ما بعد الحداثة أو لنقل معاصرا يصبو إلى دوره النهضوي وهو يخضع لسلطة تقوده نحو سلفيتها حسب مفهومها الماضوي؟، إذن بالتأكيد ستكون النتيجة هي إنهيار المجتمع و الثقافة العربية بما فيها المسرح. وكيف يكون موقف الفنان العربي ضمن هذه الظروف والشروط بالرغم من الجهود العظيمة التي بذلها للخروج من عنق الزجاجة؟ أو في أحسن الأحوال مداهناته وموافقته على المفروض عليه وأعني أن يحمل دائما جملا عربيا على ظهره أو يضع غشاوة على عينيه في مجتمع يسير مبتهجا نحو هاوية الجحيم.
بالتأكيد فإن هذا الوضع يحدث نوع من الإنفصال الحقيقي بين الفنان الحقيقي والسلطة عندما تحاول الأخيرة أن تخلق منه فنانا متكيفا لبرامجها و إديولوجيتها هذا من جانب، ويحدث الإنفصال أيضا بين الفنان وذاته عندما يمارس تكيفه وعدم قناعته، فيضطر إلى عدم معالجته للأفكار المصيرية والأساسية التي تقلق الإنسان والمجتمع، ويطرح تلك الأفكار التي تضمن دعاية مباشرة لأبدية السلطة القمعية. والجانب الثالث هو الإنفصال الأكثر خطورة بين الفنان وجمهوره عندما لا يؤمنون به. إذن أزمة المسرح والثقافة مرتبطة بأزمة العقل والفكر العربيان، وهذه الأزمة تخلق إشكالية في المسرح العربي.
ونحن الآن بحاجة إلى السؤال الديناميكي المعاصر حتى وإن كان أوربيا مادامت العولمة تعني التكامل الحضاري والثقافي وليس هيمنة المراكز الكبرى وتهميش ثقافات المجتمعات الأقل حضارية. إن السؤال الفكري والفلسفي الذي يهمنا ويهم الآخر في ذات الوقت هو الذي يخلق في دواخلنا القدرة على مواجهة سؤالنا المصيري.
إذن تحتم المعاصرة والحداثة، ضرورة التهجين والتفاعل بين الفكر المسرحي الغربي والهوية الفنية الذاتية( والتأكيد على القيم الفكرية والتراثية النيرة)، وفي ذات الوقت الاختلاف في جوهرهما. وبالتأكيد يتم هذا من خلال التزام ( النقد المزدوج ) أي نقد المفاهيم الغربية والأوروبية المهيمنة وفي ذات الوقت الاختلاف معها، و أيضا نقد الهوية الذاتية ( أو ما يسمى بالأصالة ) وهذا يعني الدمج الحداثي بين خصوصية الهوية والحداثة الأوروبية.
و لا يتم هذا إلا بقبول فكر وثقافة الآخر، فالخطورة و تهميش ثقافتنا الديناميكية و الحرة والملتصقة بالعصر والحداثة، يأتي من غزو الأفكار الظلامية وفرضها على ثقافتنا ومن ثم رفض أي تواصل حضاري وثقافي مع الآخر.
** ماذا تعرف عن المسرح الجزائري و الشعر الجزائري؟
** فاضل سوداني يؤسفني أني لم أطلع كثيرا على الشعر الجزائري وهذا بالتأكيد قصور من جانبي بالرغم من معرفتي ببعض نتاجات الشعراء. لكن المسرح الجزائري أمتلك خصوصيته نتيجة لمسايرته لثورة الجزائر للتحرر من الاحتلال الفرنسي، ودخوله كوسيلة للتوعية وعلى طول التاريخ المسرحي برزت الكثير من الأسماء في الجزائر مثل محي الدين بشترزي وعبد الرحمن ولد كاكي ومصطفى كاتب وعبد القادر علولة وكاتب ياسين ومحمد بن قطاف، سليمان بن عيسى، زياني شريف عياد وغيرهم.
فيعتبر الروائي والمؤلف المسرحي كاتب ياسين كإنسان وفنان من المساهمين في الدفاع عن قضية شعبه أمام القاريء الفرنسي والأوربي وخاصة من خلال رواياته الشهيرة مثل رواية "نجمة" وغيرها وكذلك مسرحياته كمسرحية " الأجداد يزدادون شراسة". ومسرحية "مسحوق الذكاء". و"الجثة المطوقة". وبعد التحرير أصبحت نظرته كوسموبولوتية (عالمية ) وبدأ في الكتابة التي تخدم نضال الإنسان عموما كما في مسرحية " الرجل ذو الحذاء المطاطي " التي كتبها عن نضال الشعب الفيتنامي آنذاك و ( محمد خذ حقيبتك وارحل ).حاول دائما اعتماد منهج الكتابة عن مشاكل المجتمع الجزائري وخاصة قدرية التخلف المتأتِ من التزمت الديني السلفي وأثره في المجتمع الجزائري بعد الإستقلال. وقد استفاد كاتب ياسين من المسرح البرشتي، لأنه يعتبر برشت فنانا ديالكتيكيا و أعطى أهمية كبيرة لإستخدامه في المسرح الجزائري والمسرح العربي وقد ساهم أيضا بخلق المسرح الشعبي الجماهيري في الجزائر.
ويعتبر المؤلف والمخرج المسرحي عبد القادر علولة واحد من أهم المخرجين العرب والجزائريين الذين يعملون على تكييف أهم وسائل التوصيل التي تحقق العلاقة الفعالة بين الفنان والمشاهد لتطوير وعي جمهوره. ولهذا فإنه يبحث في التراث الجزائري والعربي عن تلك الأشكال الماقبل المسرحية أو الدرامية وربطها بمفاهيم المسرح الملحمي لتكيفها حتى تنسجم مع متطلبات عرض مسرحي لجمهور ومجتمع ليس أوربيا.
وتحقيقا لهذا الهدف قام علولة بإحلال الكوال بدلا من الراوي البرشتي ـ الشرق الجذور أصلا، حيث يمكننا أن نجدها في التراث الشعبي العربي وتراث المغرب العربي بالتحديد. ومهمة هذه الشخصية هي رواية وتمثيل الأحداث والقصص التاريخية التي لها مكانتها في الذاكرة الشعبية وكذلك الأحداث المعاصرة في الأسواق والساحات العامة و أماكن تجمع الناس الذين يشكلون جمهوره عادة.كان علولة يمزج في عروضه بين ما هو واقعي و ما هو رمزي وأحيانا خيالي ( فنتازي ) كما هو الحال في مسرحية " الأجواد ".
عمل علولة على تحقيق مسرح "الحلقة" شكلاً وأداء وإنتاجية وفرجة، بعد أن توصل من خلال الممارسة العملية إلى قناعة شخصية أن القالب المسرحي الأرسطي ليس هو الشكل الملائم الذي يستطيع أن يؤدي به رسالته الإجتماعية، في البيئة التي يتعامل معها، وقدم خلالها خمسة أعمال فنية ثرية. ويمكننا أن نستنتج بأن علولة كان صاحب مشروع مسرحي إنساني الهدف يصل به إلى العالمية.
واستشهاد علولة في مارس 1994 حال دون تحقيق هذا ودون استمراره كجزائري مخلص وأصيل، في أن يساهم بتوعية مجتمعه الذي هو بحاجة له كمثقف وفنان ملتزم.
والآن فإن فنان وكاتب مثل محمد بن قطاف استطاع أن يلخص أزمة المجتمع الجزائر المعاصر في بعض مسرحياته واستطاع أيضا أن يحلل إلتباسات الماضي وكذلك التطرق إلى تلك الروح الوطنية في موقف الإنسان الجزائري.
** في إحدى مقالاتك تقول " عزلة الشاعر في أحلامه "، هل حقا عزلة الشاعر في أحلامه؟ أليست لذة الشاعر أو متعته أيضا في أحلامه؟
** فاضل سوداني بالتأكيد أن أي عمل فني إبداعي يحتوي جانبين مهمين للفنان أو الشاعر وهما المتعة ولذة الإبداع وكذلك الشعور أيضا بلذة العزلة، وأعني الغربة الداخلية للمبدع وهذا شئ ضروري وبدونهما فهو لا يستطيع أن يبدع بصدق، وبالتأكيد فإن المبدع دائما يمتلك الشعور بالغربة والعزلة حتى وإن كان وسط مجتمعه الذي تربى فيه.والشعور بلذة الحلم الإبداعي الخاص سواء كانت أحلام نهارية أم ليلية ( كما هو الحال مع سلفادور دالي الذي يعمل على امتلاك واستمرار كوابيسه الليلية لإعادة خلقها فنيا ) هو في ذات الوقت عزلة خاصة بمفهوم التفرد والإنسجام مع الذات. إذن أهمية اللذة والمتعة الفنية، مرادفة لأهمية العزلة والغربة الداخلية التي يحتفي بها المبدع.
** عملت أستاذا في الكثير من الجامعات منها جامعات بلغاريا. الجزائر، ليبيا. كوبهاكن ماذا تقول عن تجربتك في الجزائر؟
** فاضل سوداني الجزائر وبدون مجاملة من البلدان التي تراود الذاكرة بل تتثبت فيها مما تدفع بالإنسان إلى التفكير دائما بالعودة لها. إنها ذاكرة تختلط فيها الألوان المتوسطية الأبيض والأزرق والبحر والسماء، أخرجي يا نوّارة لتشاهدي المدينة الناعسة فجرا وهي تستيقظ بتمهل وتمعني بالفجر على سطح البحر تحتضنه سماء فضية زرقاء يشوبها شيء من غفوة الفجر القانية، إنه مشهد خالد لم تستطع خلقه ريشة أعظم الفنانين. لتهمس قدماك تلك الأزقة التاريخية والتراثية الضيقة التي يتوه فيها كل عاقل، والتي تسلب من الإنسان جذوته وحنينه وتلاحقه دائما من أجل العودة لها من جديد، فالجزائر عبقة دائما بالتاريخ، والجزائري عبق بدفء يتميزه ودماثة التعامل مع الآخر.
في تلك الأزمنة الهانئة استقبلتني الجزائر أنا العراقي المنفي في دروب الحياة المليئة بالأسى، في الوقت الذي كان العراقيون غير مرغوب بهم في الكثير من البلدان العربية، بسبب سياسة النظام العراقي السابق. وبما أن العراقيين منفيون بالتاريخ دائما، فأصبح المنفى جزء من وجودهم. في تلك الأزمنة جئت الجزائر للبحث عن منفاي والذي استمر ثلاثين عاما حتى هذه اللحظة، و ها إنني أكرر البحث الآن لكن مرفوقا بالبحث عن الوجوه وتلك الأزقة التي شممت فيها رائحة الصباح والليل وهوادج النهار. البحث عن وجوه الأصدقاء الذين تركتهم هنا منذ منفاي الأول إذن أي حنين إلى المكان وأي لهفة ستكون هي مرشدي.كان البحر صديقنا، نسمعه همسنا كانوا مثل أمواج البحر دفئا و نقاءاً. ولا أعلم أي الدروب سلكوا؟ وأي الليالي منحتهم أقمارها الفضية. كانت جامعات الجزائر كريمة بإستقبال الأساتذة من المدرسين العراقيين الذين هم خلاصة الفكر والعقل العراقي والذين تشتتوا بسبب الحروب آنذاك، ولهذا فإن العراقيين بالتأكيد لا يمكن أن ينسوا هذا الكرم الجزائري.
** هل للشاعر وللمسرحي فيك أن يقدم وردته / كلمته بعيدا عن أي خراب؟
** فاضل سوداني أن أستيقظ في يوم ما لأجد العقل العربي قد تخلص من إزدواجيته وسلبيته و سلفيته. ورفضه للظلامية، وإعتبار الماضي ليس سكون وثبات وإنما ديناميكية مستقبلية تتغير لتخضع للمستقبل ( وليس للظلامية ). وعلينا أن نفهم بأننا لا يمكن أن نبني حياتنا وعالمنا وثقافتنا بعيدا عن فكر وحضارة الآخر هذه التكاملية هي الهدف من العيش في قريتنا العالمية الصغيرة. و شكرا لهذه الأسئلة المهمة جدا والديناميكية.
nouarala2@hotmail.com