فضيلة الشيخ جان جيرسن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كلما قرأت سيرة هذا العلامة الفذ ، وجدت نفسي أردد مع الكواكبي مقولته الشهيرة : "مابال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس ويرفعون الالتباس ويفكرون بحزم ويعملون بعزم ولاينفكون حتي ينالوا مايقصدون". وكم تمنيت ، ولو في الخيال، أن يقرأ علماء الدين والفقهاء عندنا طرفا من سيرته، من باب المعرفة، ليس أكثر ، بأشهر الشخصيات الدينية ، التي غيرت مسار التاريخ الانساني في أحلك اللحظات، وحولت خبرتها الشخصية والدينية ومواقفها الحاسمة، الي خبرة انسانية عامة يستفيد منها رجال الدين والمتدينون علي السواء ، باختلاف مللهم ونحلهم ومدارسهم.
فقد سيطرت في نهاية العصور الوسطي المسيحية، فكرتان رئيسيتان، أدتا الى أسر العقل وتغييب الفكر. الفكرة الاولى هي "الموت" والعذاب الأبدي، الذي استخدم في الترهيب والتخويف والترويع لنفوس البسطاء، إذ حولت المؤسسة الدينية "أنصاف الاعتقادات" - حسب شيلر - الى اعتقادات تامة. والفكرة الثانية هي التصوير والتجسيد من خلال "فن لايقونات". أومايعرف، باتجاه الفكر الى التجسيد في شكل صور - Image، والميل الى إضفاء شكل محسوس على كل تصور. فكل فكرة تبحث لنفسها عن تعبير في صورة، لكنها في هذه الصورة تتجمد وتصبح صلبة. وأدى هذا الميل الى التجسيد في أشكال مرئية، إلى تعرض جميع المفاهيم الدينية على الدوام لخطر التيبس والتحول الى مجرد مظاهر خارجية.وبقدر ما تعلق الأمر حين ذاك بالتقوي، فان هذا الميل الى تطبيق التصورات الدينية على كل الاشياء وفي جميع الاوقات، أصبح مصدراً عميقاً لحياة الطهر والقداسة، وعلامة لاتخطئها العين علي الورع والايمان.
على أن هذا الميل نفسه، بصفته ظاهرة ثقافية، أنطوي على أخطار شديدة ، نظراً لان الدين ينفذ في داخل كل ما في الحياة من علاقات، ما يعني مزجاً متواصلاً لمضماري الفكر المقدس والمدنس، السماوي والأرضي ، الألهي والانساني ، وعندئذ تصبح الاشياء المقدسة أكثر انتشاراً من أن تدرك وتحس بعمق.
ويدل النمو الذي لا حد له للمرعيات والمقدسات والتابوهات والصور والتفسيرات الدينية المتعددة على زيادة في "الكم" أزعجت رجال الدين المستنيرين، خشية ان يتلف "الكيف" بالنسبة نفسها، وهو ما حدث بالفعل، فالدين في العصور الوسطى اصبح مثقلاً أكثر مما ينبغي، على حد تعبير يوهان هويزنغا في كتابه العمدة "اضمحلال العصور الوسطى".
وسط هذا المناخ المشبع بالحساسية الدينية، أو قل "اللوثة الدينية" ظهر جان جيرسن ، وكان كاهن اعتراف فذ ، علي دراية واسعة بالطبيعة السيكولوجية للمتدينين علي أختلاف أطيافهم ودرجات تدينهم. شغل منصب مدير "كلية اللاهوت" في العصور الوسطي ، وأصبح رقيباً على الاخلاق في عصره، وكان عقله المدقق الاكاديمي، أكثر العقول لياقة - بحسب هويزنغا - للتمييز بين التقوى الحقة والمظاهر الدينية التزيدية، إذ كان عالماً سيكولوجياً بفطرته، ذا حاسة مرهفة بالاسلوب، شغوفاً بسلامة العقيدة.
ومن أقواله المأثورة، في تلك الفترة : "إن العالم يقترب من نهايته، وهو كعجوز خرف معرّض لجميع أنواع الخيالات والأحلام والأوهام التي تقتاد كثيراً من الناس إلى أن يضلوا الطريق". "ليس ثمة شيء أخطر من التبتل الديني المقترن بالجهل". "ما من فضيلة تلقى إهمالاً في أيام الانقسام التعسة، هذه ، أكثر مما يلقاه التعقل والتدبر" (كأنه يستبق التنوير في القرن الثامن عشر، ويحلم بـ"كانط" ذروة التنوير وقمته).
كانت المؤسسة الدينية في العصور الوسطى (تتسامح) ازاء تزيدات دينية كثيرة، شريطة ألا تؤدي الى ظهور البدع سواء في الاخلاق او المذاهب الدينية، وكان الانفعال المفرط لا يعد عندها مصدر خطر طالما يبدد نفسه في الخيالات المقترنة بالغلو أو النشوات.
على أن هذه العاطفة الملتهبة المتأججة ، سرعان ما أصبحت شديدة الخطورة، بمجرد ان أراد أصحابها - غير قانعين بحبس أنفسهم في دائرة تدينهم الخاص - تطبيق مبادئهم على الحياة الكنسية والاجتماعية......... هنا فقط ، أضطرت الكنيسة للتبرؤ من "هؤلاء المتعصبين المرضى". كانت الحاجة ماسة لشخص مثل جيرسن، لادراك انه (هنا) وبالتحديد كانت العقيدة مهددة بخطر خلقي وعقائدي، لقد سبق اسبينوزا وهوبز ووليم جيمس وفرويد ويونغ ولاكان، إذ كتب رسالة حمل فيها على الخرافات عموماً، وكان على بينة من الأساس السيكولوجي الذي تقوم عليه العقيدة، وفي رأيه أن المعتقدات التزيدية تنجم عن اضطراب عقلي "إنها اضطراب في التخيل ناتج عن اصابة في المخ ترجع بدورها الى أوهام شيطانية".
كانت الحياة كلها مشبعة بالدين الى درجة جعلت الناس في خطر دائم من أنعدام القدرة على التمييز بين الاشياء الروحية والاشياء الزمنية، فإن أمكن رفع جميع تفاصيل الحياة اليومية "العادية" الى مستوى "مقدس"، فإن كل ما هو "مقدس"، وبالقدر نفسه - يغوص منحدراً الى مستوى الاشياء العادية، بحكم اختلاطه بالحياة اليومية. وكأن الخط الفاصل بين الاشياء الروحية والزمنية يكاد أن ينعدم، فكثيراً ما حدث ان ظهرت صكوك الغفران بين جوائز اليانصيب! والاخطرمن ذلك، أن الناس كانت لديهم قابلية شديدة للهيجان والثوران فجأة الى درجة لا مثيل لها من الانفعال الديني، تلبية لكلمة متحمسة تصدر عن واعظ هنا أو خطيب هناك، وهو ما حدث بالفعل في نهاية العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة الاوروبية مع الراهب الرهيب " سافونارولا" (1452-1498). ويذكرنا نموذج "سافونارولا"، دائماً ، بأن العصور الوسطى ليست مرحلة تاريخية فحسب وإنما هي حالة عقلية وبنية ذهنية أيضاً، وهذه الحالة العقلية قد تتكرر في أي زمان ومكان طالما توافرت الشروط لنموها وظهورها.
لذا فهي تظل أحد أهم النماذج الفكرية التي حفظها لنا التاريخ لمن يريد أن يستخلص الدروس والعبر.
كان "سافونا رولا" حينما يخطب ، يكهرب جمهوره بعاطفته الجياشة الصادقة وبتنبوءاته. وكان الناس يتجمعون منذ الفجر ليحظوا بمكان قريب من المنبر في دير سان مارك، في فلورنسا في ايطاليا، أما العقلاء فكانوا يرون فيه مجرد دجال وخطيب رعاع وشحاذ عواطف.
أستمع اليه مكيافيللي الشاب (1469 - 1527) في استخفاف وسماه "قربة من الكلام"، ومع ذلك كان كلما خطب يجعل الناس يتحسرون وينشجون ندماً على ذنوبهم وخطاياهم ويرتعدون خوفاً من يوم القيامة.
ثم دخل منطقة المحظورات، فكان يندد باستمرار في مواعظه بطغيان الحكام وبفساد الطبقة الحاكمة وبالاستبداد السياسي وبالمظالم الواقعة على الفقراء، فتحول من واعظ أخلاقي الى مهيج سياسي ديماغوجي يؤلب الرعاع على النظام القائم في فلورنسا باسم الديموقراطية.
كانت فلورنسا اعتادت لقرون خلت أن تقيم كرنفالاً سنوياً حافظ على كثير من العادات الوثنية الصارخة، وبتوجيه منه تحول الى موكب مسيحي، فتوقف الرقص في الشوارع والألعاب البهلوانية والملابس المزخرفة والأقنعة، واستغل سافونارولا حيوية صبية المدينة وشبابها وحوّلهم الى قوة أخلاقية ضاربة وسلطة مخيفة، لا سيما بعد أن رخصت لهم الحكومة مزاولة هذا الارهاب المقدس.
فسافونارولا كان من أسبق من اكتشفوا ما في الصبية والمراهقين والشباب من حيوية مدمرة وعدوانية يمكن تسخيرها في الدين والسياسة، وكان يقول إنه يبدأ بهم لأنهم "الجيل الجديد الذي لم يفسده بعد ضلال الآباء والأمهات".
وعلم "غلمان الفرير" كما كانوا يسمونهم في فلورنسا، أن كل مظهر من مظاهر الترف خروج على الدين، فكانوا يغزون بيوت المواطنين دورياً ويجردونها من التحف وأدوات الترف والشعر المستعار وغالي الثياب وأدوات التجميل واللوحات الفنية والمؤلفات الأدبية والفلسفية التي لم تستلهم الدين موضوعاً لها، وكانوا يجمعونها في أكوام في ميادين فلورنسا ويضرمون فيها النار.
كما كانوا يجلدون النساء المتبرجات. وبعد أن كانت نساء فلورنسا حاضرات في الحياة العامة مشاركات في الاجتماعات السياسية وفي المواكب، أمرهن سافونارولا بأن يقعدن في بيوتهن ولا يشاركن في اهتمامات الرجال لا سيما في السياسة.
وتطبيقاً لمبادئ الشريعة المسيحية حرم الربا الذي كان يرادف عنده الإقراض والإيداع بالفائدة، فقضى على النظام المصرفي، وأحل محله "بنك التقوى" الذي كان يقرض على الرهون بسعر 6 في المئة سنوياً، وكان الأصل في "بنك التقوى" ان التسليف فيه على أساس الإحسان أو القرض الحسن، بلا فوائد، والنسبة الصغيرة المذكورة للمصروفات.
وأصدر (أو صدر بوحيه)، عدداً من القوانين الأخلاقية مثل تعليق الزاني للمرة الأولى في الميادين وإحراق الزاني إذا تكررت جريمته، والأمر نفسه بالنسبة الى الشذوذ الجنسي. كذلك صدر قانون بإغلاق الحانات وتحريم الرق، وهذه القوانين كانت أقرب الى نصوص التوراة منها الى نصوص الانجيل، وربما كانت من دواعي تلقيبه بـ"اليهودي".
كانت مشكلات فلورنسا تتفاقم، أما هو فكان يفسر للناس هذه الشدائد كعادته بأنها القصاص الإلهي، لأن أهل فلورنسا لم يغيروا ما بأنفسهم وأنه لا سبيل للنجاة إلا بالتوبة. فكان ينظم التظاهرات الدينية ويفرض الفضيلة بالارهاب. لكن كل هـذا لم يحـل مشكلات فلورنسا.
حرك سافونارولا في نفوس البسطاء النزوع الى الخرافات، واختلطت لديهم شهوة الاستشهاد بشهوة سفك الدماء، ووصل الهوس الى حد الانتحار الجماعي، وكادت أن تحدث المأساة.
وتقدم راهب فرنسيسكاني اسمه فرانشسكـو دا بوليا ، من مريدين " جان جيرسن " وتلاميذه النابهين ، يتحـدى سافونارولا أن يجـرب معه امتحان النار لإثبات صحة دعواه ومبادئه، وذلك بأن يدخل الرجلان معاً محرقة من النيران، فمن كان منهما صحيح العقيدة خرج من النار سليماً.
وكان هذا الراهب على استعداد فعلاً لأن يضحي بحياته ليخلص الناس من سافونارولا وفتاويه الجهنمية ، وأستولت الهستيريا على المدينة وتطوع المئات من رهبان سافونارولا لخوض هذا التحدي مع الرهبان الفرنسيسكان، وأدركت الحكومة ان ما بدأ "لعبة" يوشك ان يفضي الى "مأساة"، فأمرت الحرس الفرسان باقتحام دير سان مارك، وبدأ اشتباك مسلح مع رهبان الدير الذين كانوا يكدسون الأسلحة، واستسلم سافونارولا بعد سبع ساعات من القتال، ووجد المحققـين في انتظـاره، حيث استمرت محاكمته أربعين يوماً استخدمت فيها أنواع التعذيب، فانهار واعترف بأنه كان كذاباً، وصدر الحكم عليه بالإعدام شنقاً في الميدان الكبير مع اثنين من اتباعه، وإن كانت الشكوك تحوم - الى الآن - حول موته بالفعل .