جذور الكراهية المسيحيّة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
هل الكراهية عقيدة توحيديّة؟ (3)
الكتاب المقدّس المسيحي ليس هو الإنجيل فحسب كما شاع بين العامّة من العرب، وإنّما هو التّوراة والإنجيل مجموعين في مجلّد واحد، وهو المجلّد المسمّى بالـ"بايبل". وذلك لأنّ اليهوديّة هي الجذور الرّوحيّة للمسيحيّة، علمًا أنّ يسوع المسيح الّمولود في السّنة الخامسة قبل الميلاد، قد ولد لأمّ يهوديّة هي مريم العذراء الّتي تنتسب إلى سلالة الملك داود. لذلك، وحسب الشّرع اليهودي الّذي يرى في الأم أساس الإنتماء، يُعتبر يسوع المسيح يهوديًّا أصلاً. بكلمات أخرى، فإنّ المسيحيّة هذه الّتي تأسّست حول شخصيّة يسوع هي حركة دينيّة قد تكون ذهبت بعيدًا في تصوّراتها، إلاّ أنّها تبقى ضمن الإطار العام لليهوديّة كخلفيّة تاريخيّة وعقائديّة لها. ولهذا السّبب فقد نظر الرّومان إلى يسوع بوصفه "ملك اليهود"، كما ورد في الإنجيل: "وكتب بيلاطس عنوانًا ووضعه على الصّليب وكان مكتوبًا: يسوع النّاصري ملك اليهود. فقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود لأنّ المكان الّذي صلب فيه يسوع كان قريبًا من المدينة. وكان مكتوبًا بالعبرانيّة واليونانيّة واللاتينيّة. فقال كهنة اليهود لبيلاطس: لا تكتب ملك اليهود، بل إنّ ذاك قال أنا ملك اليهود" (البشير يوحنا، إصحاح ١٩).
***
أي أنّه ومنذ البداية تنبني المسيحيّة على شخصيّة يسوع النّاصري، اليهودي المولد، بوصفه ملك اليهود كما رآه الآخرون وكما رأى هو نفسه، أي المسيح الّذي تبشّر به التّوراة: " وقال لهم هذا هو الكلام الّذي كلّمتكم به وأنا بعد معكم أنّه لا بدّ أن يتمّ جميع ما هو مكتوب عنّي في ناموس موسى والأنبياء والمزامير"، (لوقا: ٢٤: ٤٤). كما يُشار في هذا الصّدد إلى أنّ المسيحيّين الأوائل الّذين قبلوا بيسوع مسيحًا كانوا يهودًا في الأصل، بينما رفضت جمهرة اليهود والكهنة هذه الدّعوى الّتي شكّلت الأساس الّذي انبنت عليه المسيحيّة، كما يظهر من أقوال كهنة اليهود لبيلاطس. حتّى أنّ أوّل "شهيد مسيحي" هو استيفانوس اليهودي الّذي آمن بيسوع، وكذلك ليس بولس الرّسول سوى الرّابي شاؤول اليهودي هو الآخر. أي أنّ العقيدة المسيحيّة خرجت من رحم اليهوديّة، ولذلك فقد وصف البابا الرّاحل يوحنا بولس الثّاني الشّعب اليهودي بأنّه "الشّقيق الأكبر". أي أنّ الشّرخ الأوّلي الّذي حصل بين المسيحيّة واليهوديّة هو انقسام في صفوف العقيدة اليهوديّة ذاتها، حيث آمن البعض من اليهود بيسوع مسيحًا توراتيًّا قد جاء فعلاً يملأ الأرض عدلاً، بينما رفضت عامّة اليهود هذا القول، فكان العداء العقائدي بين الفريقين على مرّ التّاريخ.
مثال على ذلك ما كتبه القدّيس أوغسطينوس، وهو أحد آباء الكنيسة في القرن الخامس الميلادي. لقد ولد أوغسطينوس في هيپو (عنّابة الجزائريّة في هذه الأيّام) في شمال إفريقيا الخاضعة للإمبراطوريّة الرّومانيّة، لأمّ نصرانيّة وأب وثني، وتحكي الرّواية أنّ والده قد تنصّر قبل وفاته. من بين مؤلفّاته كتاب "مدينة الرّبّ" وفيه يعرض للصّراع بين مدينة الرّبّ، أي مدينة النّصرانيّة، ومدينة الشّيطان أي مدينة الوثنيّة. وبين ما يتعرّض إليه في كتابه، يتعرّض إلى العلاقة باليهود. لقد ذكر أوغسطينوس أنّ تشتّت اليهود في أنحاء الإمبراطوريّة هو خير شاهد على صدق العقيدة والنّبوءات النّصرانيّة. لم يدعُ أوغسطينوس إلى قتل اليهود، بل إلى إبقائهم محتقرين ومشتّتين لكي، يشكّل ذلك برهانًا على صحّة العقيدة النّصرانيّة.
***
لقد كان هذا العداء خلفيّة لكثير من الملاحقات وأعمال البطش الّتي كانت من نصيب اليهود في العالم المسيحي على مرّ العصور. من أشهر تلك الأحداث ما جرى للمسلمين واليهود في إسبانيا إبّان محاكم التّفتيش ثمّ طردهم جميعًا من الأندلس. لقد جرى ذلك لأسباب دينيّة بحتة، كما يظهر من المرسوم الملكي الصّادر بهذا الشّأن في العام ١٤٩٢: "إعلموا، وحقّ عليكم العلم، ولأنّه وصل إلى أسماعنا أنّ ثمّة في ممالكنا هنالك بعض النّصارى السّيّئين الّذين هادوا وخانوا عقيدتنا الكاثوليكيّة المقدّسة، وأنّ السّبب من وراء ذلك كان العلاقة القائمة بين اليهود والنّصارى...... وهكذا يتّضح على الملأ ذلك الضّرر العظيم الّذي يصيب النّصارى بمشاركتهم، اتّصالهم وحديثهم مع اليهود. إذ يتّضح أنهم يحاولون بشتّى الطّرق والوسائل هدم عقيدتنا المقدّسة وإبعاد المؤمنين من النّصارى عنها... وكلّ هذا قد جلب علينا وعلى معتقداتنا الكاثوليكيّة المقدّسة ضررًا كبيرًا... ولذلك، وبعد الاستشارة وأخذ رأي عدد من رجال الكنيسة، والنّبلاء والعامّة في مملكتنا، ورجال العلم وأهل الرأي السّديد في مجلسنا، وبعد أن فكّرنا في ذلك مليًّا، أجمعنا على استصدار أمر بطرد كلّ اليهود رجالاً ونساء من ممالكنا. لا يعود إليها أحد منهم أبدًا.... وإذا تجرّأ أحد منهم بالعودة إلى هذه الدّيار فسيواجه حكم الموت، دون محاكمة..."، (توقيع فرديناند وإيزابيل، غرناطة، في ٣١ مارس ١٤٩٢). أي أنّ العداء العقائدي الدّيني هو جوهر هذا المرسوم الّذي صدر ابتغاء الحفاظ على المعتقد المسيحي من تأثير ذلك "الشّقيق الأكبر" عليه.
***
وحتّى عندما تطرأ أحداث ليس لها خلفيّة دينيّة، كما يحدث عادة إبّان أزمات اقتصاديّة وغيرها، فسرعان ما تتحوّل هذه الأحداث إلى البحث عن كبش فداء متمثّلاً في الآخر المختلف دينيًّا. فعلى سبيل المثال، في منتصف القرن السّابع عشر في أوكرانيا الّتي كانت تحت حكم المملكة البولونيّة، وبعد التمرُّد ضدّ المملكة البولونيّة، تحوّلت أعمال الشّغب ووُجّهت ضدّ اليهود. وهذا هو وصف لما جرى من أعمال بطش باليهود، كما رواها أحد الكتّاب اليهود، ناتان بن موشي:"سلخوا جلود البعض وألقوا اللّحم للكلاب، وقطعوا أرجل البعض وأيديهم وألقوهم على الطّرقات لتدوسهم العربات والجياد...وقبروا الكثيرين وهم على قيد الحياة، وذبحوا الأولاد في أحضان أمهاتهم. بقروا بطون بعض النّساء الحوامل وأخرجوا الأجنّة من بطونهنّ وألقوها أرضًا، ومن البعض أخرجوا الأجنّة من بطون الحوامل ووضعوا في بطونهنّ قططًا حيّة، ثمّ خاطوا البطون وقطعوا أيدي النّساء لكي لا يستطعن إخراج القطط الحيّة من البطون..."، إلى آخر هذه الأوصاف.
***
وهكذا أيضًا، فإنّ الكراهية الأوروبيّة لليهود الّتي قد تجلّت في أبشع صورها، وبعد حوالي ألفي عام من ميلاد المسيح، مع صعود هتلر والنّازيّة إلى سدّة الحكم في ألمانيا، لم تأت وبهذه الصّورة الغرائزيّة البرّيّة الّتي أوصلت الحزب النّازي إلى الحكم إلاّ لكونها قد رضعت بلا شكّ من ذلك الموروث الدّيني الّذي شكّل أرضيّة خصبة لذهنيّتها طوال قرون. ومن أجل أن نفهم هذا التّحوُّل الّذي حصل في ألمانيا النّازيّة، يجب أن نفهم الأسس الدّينيّة الّتي تأسّست عليها هذه الكراهيّة. لقد كان هتلر قد عبّر أكثر من مرّة وفي عدّة مناسبات عن إعجابه الشّديد بالعالم اللاّهوتي مارتن لوثر، معتبرًا ايّاه أحد المُصلحين الكبار. فمن هو مارتن لوثر هذا الّذي أثار إعجاب هتلر؟ مارتن لوثر هذا هو عالم اللاهوت االألماني الّذي كان له تأثير كبير على حركة الإصلاح البروتستانتيّة الّتي خرجت عن طوق الكنيسة الكاثوليكيّة وبابا روما، وكان له تأثير كبير على كثير من التّقاليد المسيحيّة في أوروبا.
***
لقد نشأ لوثر وتأثّر عميقًا من تعاليم أوغسطينوس، حيث كان راهبًا أوغسطينيًّا. في البداية كانت نظرة لوثر لليهود نظرة تسامح أخويّة، أي نظرة إلى أبناء عائلة واحدة، لكون المسيح تسري في عروقه دماء يهوديّة. لقد حمل لوثر هذه النظرة التسامحيّة تجاه اليهود، لاعتقاده أنّ السّبب في عدم اعتناقهم النّصرانيّة هو التّفرقة الّتي مُورست ضدّهم على مرّ العصور، أو لأنّ رسالة يسوع المسيح لم تصل إلى أسماعهم بعد. غير أنّه، وبعد أن رأى أنّ اليهود لم يتنصّروا، سرعان ما تغيّرت نظرته تجاههم، فانقلبت وتحوّلت إلى رسالة وضعها في كتيّب سمّاه "عن اليهود وأكاذيبهم"، وهو كتاب تنضح منه سموم الحقد والكراهية تجاه اليهود، حيث أغدق عليهم في كتابه هذا أبشع الأوصاف، معيدًا إلى الأذهان كلّ تلك المعتقدات المسيحيّة بالعداء اليهودي ليسوع المسيح ورفضهم لرسالته، بل وبصلبهم ايّاه وقتلهم للرّبّ، ومكرّرًا على أسماع المؤمنين كلّ تلك الاقتباسات المنسوبة إلى يسوع في العهد الجديد، مثل: "يا أولاد الأفاعي" (إنجيل متّى، ٣:٧)، أو "أنتم من أبٍ هو إبليس" (إنجيل يوحنّا، ٨:٤٤)، إلخ.
ولم يكتف مارتن لوثر بذلك، بل دعا المؤمنين، في كتابه المشار إليه، إلى الحذر من هؤلاء العميان واللّصوص والمتعجرفين، كما دعا إلى حرق كتبهم بيوتهم وبيوت عباداتهم، وسلبهم ممتلكاتهم. وهكذا أيضًا، لم يكن صدفة أنّه وبعد عدّة قرون من وفاة مارتن لوثر، وفي العام ٣٣٩١ وفي ألمانيا بالذّات قد تمّ عرض كتاب مارتن لوثر الأصلي "عن اليهود وأكاذيبهم" ضمن احتفالات كبيرة بمرور ٠٥٤ عامًا على ميلاده. وكما يبدو أيضًا فإنّ دعوات لوثر هذه قد لقيت بعد مرور هذه القرون على كتابتها، آذانًا صاغية لدى العوام المحُرَّضين من الهتلريّة بدءًا بـ "ليل البلّور" وانتهاءً بالمحرقة النّازيّة.
***
من هنا، فإنّ العداء الدّيني المتأصّل في المسيحيّة تجاه اليهود يتأسّس تاريخيًّا وعقائديًّا على رفض اليهود بقبول يسوع مسيحًا منتظرًا قد جاء فعلاً لإنقاذ البشريّة ولإشاعة العدل الإلهي على الأرض كما ورد في التّوراة اليهوديّة. أي أنّ الرّفض اليهودي بقبول المسيح الخارج من اليهوديّة واعتناق النّصرانيّة الّتي تأسّست عليه هو الأساس الّذي تنبني عليه الكراهيّة المسيحيّة العمياء لليهود، والّتي تشكّلت في صور مختلفة عبر قرون طويلة. صحيح أنّ هذه الكراهية، وفي فترات مختلفة، قد تخبو أحيانًا غير أنّ هذه الحالة تبقى ظاهريًّا فقط، إذ أنّ جمر الكراهيّة العقائدي المستعر يبقى ملتهبًا تحت الرّماد، يتحيّن ظرفًا تاريخيًّا مأزومًا ليشبّ من جديد حريقًا يأكل الأخضر واليابس، كما حدث غير مرّة على مرّ التّاريخ. ولهذا فإنّ حساب النّفس في المسيحيّة لم ينته بعد، فقبل سنوات، وفي العام ٨٩٩١، أصدر مجمع الكنائس الإنجيليّة اللّوثريّة في باڤاريا في ألمانيا بيانًا بشأن التّعاليم اللّوثريّة جاء فيه: "يعترف مجمع الكنائس اللّوثريّة في باڤاريا والكنيسة الألمانيّة بأنّه شريك في تُهمة المحرقة. إنّه يتبرّأ من كتابات مارتن لوثر اللاّساميّة، ومن الملاحظات المعادية لليهوديّة في اللاهوت اللّوثراني"، وبهذا الصدد يقترح المجمع بأن تتكاثف الدّراسات للبحث عن العداء لليهوديّة في تاريخ الثيولوجيا من أجل توضيح صمت وشراكة الكنيسة في إبادة اليهود في فترة الرّايخ الثّالث". أو كما ندّد البابا الرّاحل يوحنا بولس الثّاني باللاّساميّة، وأكّد على التزام الكنيسة، والتزام الإنسانيّة جمعاء بصيانة وجود ومستقبل الشّقيق الأكبر.
***
إذن يعترف المجمع الكنسي بأنّ المحرقة اليهوديّة في أوروبا هي من مخلّفات الفكر المسيحي المعادي لليهوديّة. غير أنّ ثمّة حقيقة أخرى تكمن في هذا الاعتراف، وهي تتمثّل في أنّ ما قام به المجمع الكنسي الألماني من بيان الاعتراف بالإثم والتّبرُّؤ من هذه التّعاليم، هو إيضًا خطوة من جوهر المسيحيّة ذاتها. إذ أنّ المسيحيّة ذاتها تحتوي على مبدأ الاعتراف وحساب النّفس. ولو لم يكن هذا المبدأ من جوهر المسيحيّة لما كان بالإمكان أصلاً، أن يعترف هؤلاء بالآثام والتّبرُّؤ منها.