نعمة الشك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كان "بوسويه" - Bossuet، أكبر أصولي مسيحي في القرن السابع عشر، وهو الذي خلع المشروعية اللاهوتية على سياسة لويس الرابع عشر الهادفة إلى استئصال المذهب البروتستانتي من فرنسا خاصة ومن أوربا بوجه عام.. فما حجته في ذلك؟... "أن الاعتقاد المسيحي على طريقة المذهب الكاثوليكي لا يتغير ولا يتبدل على مدار العصور. وصالح لكل زمان ومكان لأنه إلهي بالكامل. وذلك على عكس الاعتقاد البروتستانتي الذي تغير أكثر من مرة أو تطور وتحول.. ومجرد تطوره أو تغيره دليل على زندقته وهرطقته وأنه من صنع البشر.. وبالتالي كيف يمكن أن نساوى بين تراث بشرى وتراث الهي ؟ وكيف يمكن أن نضع البروتستانت الزنادقة على قدم المساواة مع المؤمنين الحقيقيين (الكاثوليك)؟.
هكذا أصدر فتوى سحقهم وقتلهم وطردهم جماعياً من فرنسا، وهو ما حصل بالفعل، فمن لم يقتل منهم، أو يتراجع عن مذهبه قبل فوات الأوان هرب سراً إلى البلدان الأجنبية، كألمانيا وهولندا وانجلترا.
بيد انه في مؤلفه الشهير : "مقال عن التاريخ العالمي"، قدم أكبر خدمة للفكر الحر علي مر العصور، ودون أن يقصد. فقد حدد المدة التي أنقضت بين خلق العالم وميلاد السيد المسيح بأربعة آلاف سنه، لكن ما نسف حدود هذا التاريخ كان المصريون والصينيون، الذين زعموا ان تاريخهما لا يقف عند أربعة آلاف سنة، فهي حقبة من التفاهة بمكان، إذ يمتد بهما إلى عشرات الآلاف من السنين.
وتولد عن هذا الارتباك والحيرة، ارتباك آخر لا يقل عنه قسوة. إذ قال "بوسويه": لما خلص الله شعبه من ظلم المصريين وقاده إلى الارض التي أرادهم ليعبدوه فيها، عرض عليهم قبل ان يثبت أقدامهم هناك، الشريعة التي ينبغي عليهم أن يتبعوها. فكتب بيده تعالي علي لوحين أعطاهما لموسي علي قمة جبل سيناء أساس هذه الشريعة، أعني الوصايا العشر التي تتضمن المبادئ الاولي للدين وللمجتمع الانساني. وأملي علي موسي قواعد أخرى...".
والفكرة التي ساورت الاذهان علي الفور هي: "إذا كان المصريون يمثلون العراقة الاصيلة والحكمة العميقة، وإذا كان العبريون قد عاشوا زمنا طويلا تحت حكم المصريين، فانه من المنطق بل ومن الضرورة ان هناك مدنية مزدهرة كبيرة قد أثرت في مدنية بسيطة صغيرة، إذن المصريون أثروا في العبريين".
تلك هي النظرية التي دافع عنها أولا "جون مارشام" ثم "جون سبنسر" رئيس المجلس المسيحي بكامبردج عام 1685. وينسب كلاهما للمصريين، الذين يعجب بهم، تأثيرا قاطعا علي القانون والنظم والعادات الدينية : فالختان والعماد والمعابد والرهبنة والقربان والمراسيم الدينية، كلها مأخوذة عن المصريين، وحينما صنع موسى، لانقاذ شعبه من الحيات، حية من النحاس تشفي كل من ينظر اليها، فما كان ذلك معجزة بل كان نقلا عن سحر مصري قديم.
وأراد الاب الطيب "هويه" – حسب وصف بول هازار – أسقف أفرانش، الذي يروي عنه انه ملأ بيته بالكتب حتي أنهدم علي رأسه ذات يوم. أراد ان يرد لموسي اعتباره أو قل " مكان الصدارة "، وأخذ علي عاتقه تبيان أن ديانة الوثنيين هي التي صدرت عن أفعال موسي وكتبه، وأن آلهة الفينيقيين والفرس والمصريين والجرمان والرومان والغال والبريتال، مصدرها كلها موسي، وهي في النهاية ليست سوي تحويرات أو هوامش علي كتبه. ذلك هو ما ذكره في كتابه Demonstratio Evangelica عام 1672، وفي كتابه Quaestiones Alnetanae de Concordia Rationis et Fidei وترجمته (مسائل تخص الاتصال بين العقل والدين).
ولم يدر بخلده لحظة واحدة ان الحجة يمكن ان تنقلب ضده من أيسر طريق : فإذا كان هناك أوجه شبه بين العقيدتين الموسوية والوثنية، فهل موسي هو الذي أوحي بها الي الشعوب الاخري، أم ان الشعوب الاقدم قد أورثت موسي عاداتها ؟..... وجره نجاح كتابه هذا الي زمرة مشاهير الملحدين!!
قال عنه "لويس راسين": "لم يوفق أبي علي ما كان يريده، من استخدام علمه اللاديني الواسع في صالح الدين". أما "أنطون أرتو" فقال عنه بقسوة: "انه لمن الصعوبة بمكان ان يؤلف الانسان كتابا أحفل بالالحاد من ذلك الكتاب، كتابا يستطيع ان يقنع شباب المتحررين بانه لا غني عن الدين وان الاديان كلها صالحة، حتي الوثنية منها يمكن أن تكون موضع مقارنة بالمسيحية".
لكن ما شجع علي استمرار هذه المعركة الفكرية الفاصلة في تاريخ أوروبا الحديث، الانباء المذهلة للكشوف الجغرافية والروايات العجيبة التي بدأت تتواتر وتنتشر،عن العوالم الجديدة البكر خارج أوروبا، وحسب "كامبانيللا": "فانه لما كان كشف العالم قد ناقض بعض المعارف التي كانت تستند عليها الفلسفة القديمة، فلابد أن ينجم عنه نظرة جديدة نحو الاشياء".... وقد كان.
أهم درس أستخلصه الاوربيون من هذه الكشوف، أو قل، هذا "الامتداد" هو درس: "النسبية"، فالمبادئ التي كانت تترائي سامية فيما مضي، لم تعد قيمتها تتوقف الا علي أختلاف الزمان والمكان، والعادات التي كانت تبدو مستندة الي العقل أتضح أنها تقوم في الواقع علي التقليد.....
وعلي العكس، فإن عادات كانت تبدو خرافية أصبحت منطقية، بعد ان تناولها الناس بالتفسير علي أساس المصدر والبيئة... وبالتالي طرح السؤال : من المصيب ومن المخطئ؟..." فاذا نظر أهل الصين إلى أخلاقنا علي ضوء أفكارهم الخاصة التي تكونت منذ آلاف السنين فإنهم سوف يعتبروننا برابرة جهالا، وإذا نظرنا نحن الي الأخلاق الصينية نجدها شاذة". هذا ما قاله الأب "لي كونت" عضو ارسالية اليسوعيين... ليصل الي هذا الاستنتاج الفلسفي: "اننا نخطئ جميعا، لان الآراء التي ورثناها منذ طفولتنا، تمنعنا من النظر الي أفعال الانسان بعين الحقيقة، فنتوهم ان هذه الافعال ليس لها في ذاتها قيمة، بل ان الشعوب هي التي حددت معانيها في بداية تأسيسها ".
ومثل هذه الاقوال تؤدي الي نتائج بعيدة، تؤدي الي النسبية العالمية مباشرة. يقول "تيار دي شاردان": "ان اقليم كل شعب – هو فيما أري – السبب الاساسي لميول الانسان وعاداته علي الدوام"... ويستطرد: "ان الشك بداية العلم، فالذي لايشك في شئ لا يفحص شيئا، ومن لايفحص شيئا لا يدرك شيئا، ومن لايدرك شيئا فهو أعمى، وسيظل أعمى".
كاتب المقالأستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس