كتَّاب إيلاف

محمود عزمي.. ديمقراطي حتى النخاع!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

1- عذرا إن نسوك..!
تحل ذكرى رحيلك الحادية والخمسين في الرابع من نوفمبر من هذا العام فعذرا إن نسوك ككل عام، أعلم أنه ليس ذنبك أن كنت من هؤلاء المتجردين الذين لم يغازلوا الجماهير فيحصدوا الشعبية والتهليل كما لم يغازلوا السلطة والقوة فتحصد النفوذ والتأييد، أعلم أنه كان اختيارك أن تعيش متوحدا مع قناعاتك، لقضيتك " التنوير " وكنت أول من دشن هذا المفهوم في مصر والعالم العربي منذ تعلمت درس دوركايم جيدا في " أن شرط التقدم هو أن يقود المجتمعات مجموعة من المتنورين حين درس لكم سان سيمون " أليس هؤلاء " المتنورين " الذين استهدفتهم خطابك سوى " المتنورين " كما كتبت أنت في تقديمك لأول أعداد مجلتك " الجديد " في الثلاثينيات وقد برر العقاد عدم شعبيتك واشتهارك رغم تأكيده علمك وفرادتك بأنك لم تكن تكتب إلا للخواص هؤلاء تبثهم الهم والوعي التنويري قبل أن تتجه لحزب أو جماهير أو جدل إبيستمي يثير الزوابع فتشتهر. كنت مستقلا متوحدا لم تستسلم للتحزب أو قوة السلطة
عشت داعية لحقوق الإنسان منذ عرفناك، فقبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعقدين ويزيد أعلنت موقفك أثناء انعقاد اللجان التحضيرية لدستور 23 - الذي رفضت عدم المشاركة فيها مع عدد من صحبك لشبهة تدخل الملك أو توجيهه لها وهو ما لم يتحقق وذكرته فيما بعد – ولكن أكدت واختصرت كل مطالبك حين قلت - في جريدة الاستقلال في السادس عشر من ديسمبر سنة 1922- أننا " نطلب حقوق الإنسان ولا نطلب سواها " لا زلنا يا سيدي نطلب حقوق الإنسان ولا نطلب سواها.. لكنهم – عذرا نسوك – لكن ليتهم لم ينسوها كذلك. أليس أولى بهم وهم في كل يوم يترنمون ويغنون " للديمقراطية " دون أن يمارسوها أن يذكروا أول من أسس حزبا ديمقراطيا في مصر والعالم العربي، حين أسست وصحبك ممن شربوا مبادئ الثورة الفرنسية وروح فلاسفة الأنوار الحزب الديمقراطي في شتاء سنة 1918 الذي استمر حتى منتصف العشرينيات وقصمته وقضت عليه أيدولوجيات اليمين واليسار بين أفراده فضيع ما اختلفوا فيه ما توافقوا عليه، كما ضيعه حب البعض للزعامة التي تحذر منها دائما. والتزمتها أنت طريقا فكتبت عن " ضرورة تعليم المبادئ الديمقراطية وبثها في المناهج التعليمية منذ العشرينيات، كما كتبت عن ضرورة مدنية القوانين وكذلك التعليم الديمقراطي وحقوق المرأة بالقضاء على كل أشكال التمييز ضدها ودعوت لإطلاق الحريات جميعا منذ العشرينيات بدء ا من حرية الرأي والتعبير وحرية تكوين الأحزاب والجمعيات وحرية إصدار الصحف. فما لنا نكرر دعواتك – في عشرينيات القرن - دون أن نذكرك، وما لنا فقط نكررها دون أن نقوى على إنفاذها حقيقة !
كانت جريدتك " الاستقلال " صوت الحزب الديمقراطي ثاني ما أنشأت من جرائد بعد " المحروسة " ولكن لم يكن الاستقلال عندك مجرد دعوة لجلاء المحتل عن الوطن ولكن كان كذلك جلاء الاستبداد والفساد والتعسف عن المواطن، أكدت لنا خطورة الاستعمار الداخلي كما ناضلت في ثورة 1919 وظللت ضد الاستعمار، اتهمك الملك بالعيب في ذاته الملكية حين كتبت سنة 1927 رافضا أي تعد من أي فرد على الدستور فتحسس بطحته وكانت محاكمتك العادلة التي برأتك من السب والعيب وأكدت لك الموقف المدافع عن الديمقراطية والعدل.

2- المثقف حياة ونضال
هل تصدق سيدي أن معايير الزيف وصلت للكتابة والثقافة في زماننا ؟ فقد صار هناك السرقة المقننة لكتاب يدعون كبارا من باحثين يدعون صغارا ! واعتذر الكاتب الكويتي الكبير عن نقل نص كاتب مصري لأن الباحث نقله له نصا كأنه من تأليفه دون أن يخبره بالمصدر ؟ وهل تعلم دكتور عزمي أن الصحفي الوحيد الذي كان مرشحا العام الماضي لكبرى الجوائز الثقافية من أكبر هيئة ثقافية في مصر " المحروسة " أشهر متهم الآن بالفساد والتخريب في مؤسسته العريقة ! وهل تصدق أن ما حذرتنا منه وهو آفة التحزب كعائق للتحول الديمقراطي لا زالت تسيطر على مجالاتنا السياسية وتمنعنا من أي توافق يحقق أي إنجاز ؟ بينما يكتفي الكثيرون من لعاب أقلامهم يظنون أنها تحقق كل شيء وأولها لقب المثقف والمفكر وربما الكاتب الكبير ولكن مثلك – يحق لنا أن نذكره – علمنا أن المثقف موقف وحياة ونضال وربما تشرد وضياع ولكن إن لم يكرمه أهلة كما ينبغي فقد يذكره العالم كله، نعم أنت هذا الثاني، فحين ضربت الحياة الدستورية وعطلت الحياة النيابية على يد محمد محمود باشا رئيس الوزراء ورئيس حزب الأحرار الدستوريين حين كنت تحرر جريدته رفضت واعترضت ثم استقلت، وبينما مارس صديقك هيكل وغيره التبرير لهذا الإجراء الديكتاتوري وقفت أنت ضده مضحيا بلقمة عيشك وعملك رافضا المساومة والتبرير لأي تعد على الديمقراطية مؤكدا – كما كتبت – أن ثمة من يكتبون " في سبيل الرأي كما أن هناك من يكتبون في سبيل الجيب " أعلنتها مرارا وتكرارا أن حضور الأحكام الاستثنائية وتعطيل الدستور لا يمكن أن ينسجم مع أي دعوى ديمقراطية أو شرعية ما زالت كلماتك تصح في زماننا كثيرا. كنت " الموقف وليس فقط الفكرة " منذ رأيت رسالتك أوسع من جدران الجامعة التي اخترتك للتدريس بها بعد عودتك من بعثتك بكلية التجارة " مدرسة التجارة حينئذ " سنة 1918 ولكنك آثرت العمل بالصحافة التي كنت أول من دعاها " السلطة الرابعة " مؤكدا على دورها وسلطتها في الوعي والتجاوز و الدفاع عن الحقوق وحماية الحرية لا تقييدها أوالتبرير لها. لذا كنت تلح في تكوين الصحافي وحسن إعداده وتأهله لهذه المهنة بكل الأدوات لهذه المهنة التي حددت مبادئها حين أسست لها معهد الصحافة في الثلاثينيات كما وضعت أول قانون لنقابتها، ولم تطق منصبا كبيرا للرقابة عليها وقت الحرب رغم أنك كنت تجيز الرقابة فقط في هذه الحالة. وكانت رسالتك وقاطرتك في مواجهة الحكم الاستبدادي لصدقي باشا ودستوره الديكتاتوري في الثلاثينيات حين هاجرت لباريس واتخذتها مقرا تناوئ به هذا الحكم مؤسسا أول جمعية ومنظمة لحقوق الإنسان عرفها العالم العربي ومصر " الشعبة المصرية لحقوق الإنسان " مع ثمانية من صحبك في باريس ونلت لها عضوية الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان وأصدرت جريدة معبرة عن هذه المراقبة والمعارضة هي جريدة " العالم العربي " بالإنجليزية في لندن حتى قرر بعض الزبانية نزع الجنسية عنك وعن صحبك فقلت لهم " إن الجنسية ليست قميصا ينتزع " ولكن أصاب بعض قرنائك الخوف والتردد مما نشرته وكالات الأنباء فكتبت مبكرا عن " فعل الديكتاتورية في النفوس " وظللت على الطريقة تمارس تعليم " المتنورين " غير مبال بتقلب الحياة والأوضاع وغضب المخالفين، فقد كنت مؤمنا " بالعلم وحده " في تسيير ما هو خارج القلب وأن العقل هو المعيار لكل شيء بينما الإيمان بالله هو راحة الضمير وراحة النفس بعدم خداعها بمخالفة ظاهرها لباطنها. وظللت على الطريقة حتى كان توطد علاقاتك الدولية وشهرتك في مجال حقوق الإنسان والصحافة الدوليين منذ النصف الثاني من الثلاثينيات وهو ما بدأ به دور أوسع لك في فضاء أوسع كذلك، فصرت رائد في مسألة " العلاقات الدولية " فعرف أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل ما ذكراه عنك منك مفاهيم حول التدويل والتحالفات وعدم الانحياز والأفروأسيوية من تعبيرات ومفاهيم كنت أول من صكها وعبر عنها في الكاتب وفي الأهرام وغيرهما.

حتى كان اعتراف حكومة الثورة بالصين الشعبية عن طريقك بعد مخالفتك لها في مقال بالأهرام كادوا فيه يقذفون بك في غياهب غضبهم حتى فهموا وعرفوا وجهة نظرك فأولوك ما تستحقه من إكرام وتقدير قبل غلبة العسكر كلية عليها. فقد شارك عزمي في لجنة الخمسين المشكلة سنة 1953م من أجل وضع دستور بديل عن دستور سنة 1923م وتحقيق حياة ديمقراطية مصرية سليمة كما أعلنت الثورة في مبادئها ليلة قيامها.. وكان عزمي عضواً في لجنة "الحريات والحقوق والواجبات" التي ترأسها محمد علوبة باشا وضمت ممن ضمت:
1-د. طه حسين.
2-د. عبد الرحمن بدوي.
3-محمد عبد الله لملوم
4-محمد السيد ياسين "صاحب مصنع زجاج".
5-يواقيم غبريال.
في الجلسات التي حضرها عزمي كان داعياً هادئاً لحقوق الإنسان ومصوباً لكثير من صياغاتها وفق المبادئ الحقوقية، رافضاً لأي تقييد للحريات وقد أعلن في حوار معه بالأهرام أن الدستور يستلهم إعلان حقوق الإنسان ويقر حقوق المرأة، كما اتخذ من منابره وصلاته المختلفة في مصر منبراً لهذه الدعوة من قبيل مقالاته في الأهرام أو المصري أو المنتديات العامة الأخرى.
4- دور كبير لرجل كبير " في أروقة الأمم المتحدة " :
اتصل محمود عزمي بالهيئات الدولية مبكراً منذ عمله مديراً للتشريع في مصلحة الضرائب حيث مثل مصر في لجنة الضرائب الدولية التابعة لعصبة الأمم في يونية سنة 1939م وقد استمرت هذه اللجنة بعد إنشاء الأمم المتحدة. وقد اختارته وزارة الخارجية المصرية ليمثل مصر بصفته الشخصية في لجنة الأنباء الفرعية التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي عام 1949م وقد اختير لهذه اللجنة في مارس سنة 1954م. كما اختير في سنة 1950م من بين أعضاء الوفد المصري في لجنة الشئون الاجتماعية والثقافية وهي إحدى اللجان الفرعية للجمعية العامة. وفي عام 1951م يُختار محمود عزمي ليمثل مصر في لجنة حقوق الإنسان، وقد انتحب رئيساً لهذه اللجنة في مارس سنة 1953م كما أُعيد انتخابه كذلك في مارس سنة 1954م، وفي مايو سنة 1954 صدر مرسوم بتعيينه رئيساً لوفد مصر الدائم في الأمم المتحدة. ومن المواقف المذكورة لعزمي في لجان الأمم المتحدة :
1-كان عزمي أحد أبرز المدافعين عن حرية الصحافة في الأمم المتحدة، وقد تقدم سنة 1950م بمشروع عهد الشرف الدولي للصحفيين.
2-وقف أمام مناورات الدول الكبرى لمحاولة إضافة فقرة جديدة إلى ميثاق حقوق الإنسان، تجعلها غير مُلزمة بتطبيق أحكام الميثاق في المستعمرات في البلاد غير المتمتعة بالحكم الذاتي، ورفض عزمي ذلك وأكد أنه استعادة لنظرية هتلر عن الاحتلال.
3-شارك في صياغة مشروع العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وقد دعى عزمي إلى أن تتلقى الأمم المتحدة شكاوى المواطنين المنتهكة حقوقهم بمشروع اتفاقية عن حق المواطن في شكوى حكومته إلى الأمم المتحدة فيما يصيبه من مظالم وانتهاكات حقوق الإنسان. وتذكر د. نجوى كامل أن هذه الفكرة التي وضعها عزمي قد أثمرت اتفاقية دولية أقرتها الجمعية العامة في سنة 1966م وهي المعروفة باسم بروتوكول اختياري ملحق بالميثاق الخاص بالحقوق المدنية.
وكما دافع عزمي دفاعاً مستميتاً عن حقوق المرأة في محاضر دستور سنة 1954م وفي اللجنة الاجتماعية للأمم المتحدة، كما كانت له مواقفه المشهودة في الدفاع عن القضايا المصرية والعربية في مختلف المحافل الدولية ساعد على حضوره القوي به عمق ثقافته وطول مراسه في المحافل والهيئات الدولية وإتقانه للإنجليزية والفرنسية ونزوع فطري نحو احترام قيمة الإنسان".. الأنسنة. الذي جعله يؤمن بالعلم وحده، ويجعل اعتبار حقوق الإنسان أول الاعتبارات التي ينبغي أن تكون سائدة في مصر إن أرادت نهوضا. وكان لهذا المثقف الذي عاش أفكاره أكثر مما كتبها أن يموت وهو يدافع عن القضية الفلسطينية تحت قبة الأمم المتحدة فجأة وبلا موعد من مرض أو عحز فقد كان فوران وعيه حيا ولازال. فهل آن لنا أن نذكره.

هاني نسيره كاتب وباحث مصري

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف