هكذا يموت الشعراء..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قديماً، كان الأهل يرفضون تزويج بناتهم من شعراء، ليس لأنهم يكرهون القصائد، أو لا يتلذذون بموسيقى القوافي، بل لأن الشاعر بنظرهم إنسان مفلس، فقير، قرشه يهرب منه، كما يقول المثل الشعبي، وقد عبّر أحد شعراء الزجل اللبنانيين عن هذه الحالة ببيت من الشعر، خاطب به ابنته المغرمة بشاعر مثله:
وين شفتي شاعر ولابس فري
كلنا بحاله مرتّه.. ما عدا؟
أي، هل رأيت، يا ابنتي، شاعراً يرتدي الفرو الثمين، كي تغرمي به، إنه وبأفضل الأحوال سيكون فقيراً كأبيك الشاعر، ناهيك عن المصائب والأهوال التي قد تصيبك بسبب ما سوف يكتب أو يغني على المنبر؟
والظاهر أن فقر الشعراء، لم يعد حكراً على الأقدمين، الذين ابتلوا بقلة العمل، وباضطهاد الحكام لهم، وبتعليق مشانقهم من قبل المستعمر ، كما حصل مع شهداء لبنان، بل بدأ يجتاح شعراء القرن الحادي والعشرين، عصر القرية الكونية الصغيرة، وها هو الشاعر الجزائري أبو بكر زمّال يعرض كليته للبيع، ليس من أجل شراء لقمة عيشه، بل من أجل دفع إيجار منزله، كي لا ترمى عائلته في الشارع.
الدول المتقدمة، كأستراليا مثلاً، توزّع المساكن الشعبية الفخمة على أبنائها، بإيجارات بخسة، كي لا ينام طفل من أطفالها في العراء، كما أنها تدفع راتباً أسبوعياً للعاطلين عن العمل، كي لا يلجأوا إلى السرقة وممارسة الرذيلة من أجل لقمة العيش، ودولنا العربية، كالجزائر مثلاً، يعرض أحد شعرائها كليته للبيع كي لا تتشرد عائلته في الشارع. ومع ذلك ندعي أننا خير أمة أخرجت للناس، دون أن نشعر بأدنى احتقار لتبجحنا الكاذب.
منذ عدة أشهر قرأت خبراً هزني في الصميم، فلقد مات أحد الشعراء العراقيين بعد تسكع في الشوارع دام عدة سنوات، والظاهر أن الموت كان أرحم على هذا الشاعر من بني جنسه، فلقد خلصه من عالم كل ما فيه فاسد، الهواء، المأكل، المشرب، الأدب، الشعر، الحكم، وأخيراً وليس آخراً الدين. فساد يتشاوف على فساد، دون أن نحرّك ساكتاً، لا بل ما زلنا نتبجح ونتبجح إلى أن سئم التبجح من تبجحنا.
والشعراء، أنى وجدوا، مشهورون بسوء طالعهم، حتى وإن جمّل لهم الحب الزواج، وأوقعهم في حبائله، كما حصل للشاعرة الأفغانية ناديا أنجومن، التي أغرمت برجل، أو أرغموها على الزواج به، وما أن حملت اسمه، ودخلت بيته، حتى بدأ يظهر من الوحشية ما لم يظهره الوحش الكاسر، فقام بضربها حتى الموت، وعندما واروها الثرى في مدينة (هرات)، وجدوا على قبرها (زهرة قرمزية)، رمتها فتاة أفغانية، كانت قد قرأت ديوانها الشعري الأخير (زهرة قرمزية).
حياة الشعراء، وإن لبسوا الفرو الثمين، تظل محفوفة بالمخاطر، ومشبعة بالألم، فكم بالحري إذا لم يجدوا عملاً في مسقط رأسهم، أو لم يتمكنوا من الهرب إلى وطن آخر يأويهم، مع العلم أنهم يعيشون الغربة في وطنهم، فلسوف يلجأون إلى بيع كل ما يملكون، وهل يملك الفقير غير جسده، ليبيعه عضواً عضواً.. كي لا يبيع أطفاله.
أمة لم تفكر بعد برفاهية إنسانها، هي أتعس أمة أخرجت للناس.. وكفانا تبجحاً.