بين ظاهرتي التطـيّر السياسي وتخويف الطوائف!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحملات الانتخابية
تكاد ظاهرة التطيـر السياسي أن تكون قاسماً مشتركاً بين الفرقاء العراقيين. والمقصود بالتطير السياسي هنا، هو إحلال الريبة والتوجس من الآخر المختلف محل الحوار الموضوعي والتواصل الوطني!! وكما يحدث عادة، فعندما إنهار النظام الديكتاتوري إنهارت معه مؤسسات الدولة حيث لعبت اجراءات سلطة الاحتلال وقتها دوراً سلبياً بهذا الصدد، خاصة وإنها لم تكن تملك أي بديل عملي للانهيار المتوقع لمؤسسات الدولة ما زاد الأمور تعقيداً حيث شعر الجميع بأنهم في مهب الريح... وكما هو معروف أدت هذه الحالة إلى تجمع كل فريق حول نفسه مناطقياً أو طائفياً أو قومياً، ومع استمرار حالة تفكك الدولة وحتى بعد تشكيل (مجلس الحكم) على أساس (المحاصصة) بدأت الريبة تتسرب إلى الجميع من الجميع، وعلى خلفية الجروح العميقة التي تركها النظام السابق في نفوس العراقيين فقد تحولت الريبة والشكوك إلى نوع من التطير السياسي اتضح باستمرار مع صعود ظاهرة العنف المسلح والارهاب على هيئة تبادل للتهم بين الأطراف المختلفة!! ويمكن وصف الحالة بالشكل التالي : يتطير (السنة) من (الشيعة) لإعتقادهم بأن الأحزاب الإسلامية الشيعية سوف تستحوذ على مؤسسات الدولة ولن يتركوا لهم شيئاً!! وصار (السنة) يعتقدون بأن كل ما يلحقهم من أضرار جراء الفوضى القائمة هو من (تدبير) تلك الأحزاب وفعلها!!
أما بالنسبة ل (الشيعة) أحزاباً وجمهوراً فهم وجراء ما لحق بهم من حيف وجور ومجازر جماعية طول العقود السود الماضية، فهم لن يحتاجوا لمزيد من الأسباب لكي يشعروا بالتطير من إحتمال عودة (السنة) إلى الحكم ليعودوا هم إلى ما لا يطاق من المعاناة ثانية!!
التركمان هم أيضاً (سنة) و(شيعة) لكن مشكلتهم القومية غلبت على الفارق الطائفي، وما يدفعهم للتطـير من الأكراد هو النـزاع على مدينةكركوك التي يعتبرونها معقلهم الأساسي أو مدينتهم التي لا يمكنهم التنازل عنها للأكراد الذين يعتبرون المدينة بدورهم جزءاً من كردستان العراق!! لكن للأكراد أسباب أخرى تدعوهم للتطير من (العرب) أيضاً أصحاب السلطة المركزية تاريخياً في بغداد، خوفاً من أن تعود الأمور، بحكم الفوضى، إلى ما كانت عليه سابقاً فيخسرون شبه الأستقلال الذي كانوا يعيشون في ظله منذ 1991، لكن (العرب) بدورهم بدأوا يتطيرون من الأكراد بحكم انتقالهم السريع إلى بغداد وتشكيلهم حضوراً سياسياً محمياً بالسلاح هو أقوى وأكثر تأثيراً من سواه!!
هذه الهواجس وغيرها هو ما يفسر في الواقع الظاهرة الأخرى التي طفت على السطح وصار النطق بها صريحاً في الحملات الانتخابية الراهنة من قبل الأحزاب المعنية أي ادعاء تمثيل هذه الطائفة أو تلك، هذه القومية أو تلك. وهي ظاهرة تخويف الأحزاب المعنية طائفتها أو قوميتها من الطوائف والقوميات الأخرى!! واعتبار تصعيد هذا الهاجس على ما سواه كافياً لكسب المزيد من الناخبين، وهو ما يفسر أيضاً عدم اهتمام تلك الأحزاب أو القوائم الانتخابية بطرح برامج محددة لمواجهت الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تواجه العراقيين عموماً في هذه المرحلة، ودون أهتمام بالألتزام بالأعراف والمباديء الديمقراطية!! وهذا ما سيؤدي إلى تشويه بنية النظام الديمقراطي منذ البداية في حالة استمراره. ولكن من حسن الحظ أن هناك قوائم إنتخابية تشكلت من أحزاب مختلفة التواجهات السياسية دون إلتزام ببعد قومي أو طائفي مثل (القائمة الوطنية العراقية) المعروفة بالرقم (731) والتي أذكرها هنا ليس من باب الدعاية لأحد فهو أمر لا يعنيني قطعاً، ولكن من باب إيضاح بعض المفارقات وضمنها مفارقة قد يذهب ضحيتها جمهور الناخبين في المحافظات السنية : فالمعروف أن السيد عدنان الباججي وزير الخارجية العراقي الأسبق وهو أحد أقطاب (القائمة الوطنية العراقية) المذكورة كان قد خاض الانتخابات السابقة من خلال قائمة التنظيم الذي يتزعمه (تجمع الديمقراطيين المستقلين) المتكون من تجمع ليبرالي عموماً، وكان خلال حملته الانتخابية السابقة قد ساهم، إلى جانب جهات عراقية عديدة، في نصيحة جمهور المحافظات السنية للمشاركة في الانتخابات لضمان وجود ممثلين لهم في (الجمعية الوطنية)، لكنهم لم يكتفوا بعدم سماع نصيحته بل لم يشاركوا حتى في إنتخابه هو رغم علمهم بحرصه الضمني على مصالحهم ما أدى إلى خسارته عضوية (الجمعية الوطنية) التي أحتلها بعضُُ ممن لا يملكون جدارة كافية، في حين كان الباججي أكثر جدارة سياسية وفائدة لعموم العملية السياسية إلى جانب الشخصيات المهمة في الجمعية الوطنية الأولى في العراق الجديد. والمفارقة لا تكمن هنا فقط بل في استمرار، كما تشير بعض المعلومات، جمهور المحافظات السنية بالانصراف عن الشخصيات المعتدلة والليبرالية من الطائفة وإلتفافه حول تلك الشخصيات التي أوقعته في خطأ مقاطعة الانتخابات السابقة وخسارته ممثليه في الجمعية الوطنية!! هذه واحدة من نتائج سياسة (تخويف الطوائف) التي تصعّد النـزعة الطائفية عند العراقيين على حساب الحاسة السياسية التي تجعل ((المواطن)) يميز الصواب من الخطأ!!
لا نستطيع أن نجزم بأن جمهور المحافظات السنية سيتخلى هذه المرة أيضاً عن الباججي وسواه من الشخصيات السياسية الديمقراطية والقوائم التي يتصدرونها، وربما حدث العكس، لكن من المفيد هنا تسليط بعض الضوء على أزمة (المجتمع السياسي السني) إذا صح التعبير لمعرفة خلفيات أزمته.
أن نظام صدام حسين المخابراتي نظام الحزب الواحد والرجل الواحد هو المسؤول الأساسي عن هذه الأزمة، لأعتقاده بأن السياسيين السنة البارزين والمؤثرين هم الأكثر خطورة على سلطته من سواهم. فهو الذي برمج ونفذ عملية قتل التعددية والتواشج السياسي مع بقية المناطق التي كانت سائدة في العراق، من خلال التصفيات الجسدية للعديد من القيادات السنية القومية أو الليبرالية، وتهميش أو دمج آخرين في صفوف الحزب والأجهزة، وما نتج عن ذلك من تسليط لأسافل القوم على أسيادهم، وأيضاً ما أدى إلى تشريد الكثير من السياسيين السنة خارج العراق وملاحقتهم بعمليات الأغتيال أسوة ببقية القوى حيث كان آخر ضحاياه من السياسيين السنة هو المرحوم طالب السهيل الذي كان يخطط لإسقاط النظام فعاجله جلاوزة المخابرات في بيروت. لكن الأخطر من ذلك هو دفعه مئات الألاف من الأجيال الجديدة في المحافظات الغربية للأنخراط في صفوف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، هذا ما جعلهم في مواجهة مع العراقيين في المناطق الأخرى كما ألغى إمكانية التفكير بأية بدائل سياسية أخرى لأعتقاد بأن النظام باقٍ إلى ألأبد!!
لكن تحرير العراق من كابوس الديكتاتورية وتسارع الأحداث وطرح البديل الديمقراطي، فرض على العراقيين أن يتحرروا من أوهام العبودية ليحددوا خياراتهم السياسية، لذلك وجد البعض الفرصة سانحة لفرض الوصاية على الجمهور السني وادعاء تمثيله من قبل هذا الحزب أو ذاك بذريعة الخوف من سطوة الشيعة!! لكن فرض الوصاية السياسية على محافظات عديدة يسكنها عدة ملايين من المواطنيين ومن قبل بدائل طائفية صريحة أو مقنعة سيكون أكثر قسوة ومغبة من تجربة الديكتاتورية لأنه سيحد من حركتهم السياسية وتأثيرهم في المحيط العراقي، بل وسيجعلهم أمام استحقاقات هم في غنى عنها كأنخراط بعضهم في أعمال مسلحة أو سماح بعض آخر للأرهابيين الوافدين للتحرك بحرية في مناطقهم ما ألحق بمدنهم المزيد من الخراب، وأبعدهم عن أستحقاقات واقعية هم بأمس الحاجة إليها في العراق الديمقراطي!! هذا المنحى السياسي أي الأستقطاب الطائفي نفسه يعاني من خطورته العراقيون في المحافظات الشيعية أيضاً ولكن بخلفيات مغايرة، وعليه سيكون مقالنا القادم هو (تخويف الشيعة من حريتهم أو العيش تحت هاجس الهزيمة!!)