خرافة مفهوم الوطن المقدس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"من لا يعيد قراءة مفاهيمه وتجاربه نقديا لا يتقدم ولا يتطور" جون سيمونس
الإنسان في مسيرته يبتدع منظومات ومفاهيما كثيرة لينظم حياته وتتنوع تلك المفاهيم لتغطي مجمل ما يتعلق بالإنسان ووجوده بأوسع معانيه بيد أنه بمرور الوقت وتلاحق الأجيال ينسى تماما الغايات التي ابتدع منظوماته ومفاهيمه من أجلها ويصبح عبدا لها تسيره وهو مشلول الإرادة بل وتصبح في أحيان كثيرة نقمة وبلاء وسببا للحروب والويلات التي رافقت مسيرة الإنسان على طول الخط كما يذكر ول ديورانت بإن السلام تأريخيا كان يمثل الحالة النادرة . من تلك المفاهيم التعاملات الأقتصادية والبنكية والأسواق المفتوحة والتي اصبحت إلها يعبد خصوصا في ظل دين العولمة "المادية المتوحشة" وشريعتها حسب تعبير نصر حامد أبو زيد ويندرج مفهوم الوطن والسيادة تحت نفس السياق فالإنسان عندما أختلق وابتدع مفهوم الوطن والمواطن فمن أجل تنظيم مسيرته ومشاكله وترتيب حياته بشكل افضل ولكنه بمرور الوقت اصبح يقدس ما أختلقه كوسيلة ليصبح غاية بنفسه بل ويعيش اسوء أنواع العبودية لهذا المفهوم الذي نشأ تأريخيا ليحقق غاية ما - خدمة الإنسان وتنظيم حياته - . عندما ظهرت مفاهيم الدول القومية ومفاهيم السيادة بعد معاهدة ويستفاليا عام 1648 والتي كانت قد طُرحت كحل وعلاج للخلاص من ويلات الحروب المدمرة التي عاشتها أوربا بسبب الإنقسامات والحروب الدينية - بين الكاثوليك والبروتستانت - فيما يعرف بحرب الثلاثين عاما والتي سبقتها حروب كثيرة أيضا فكانت تلك المعاهدة تريد أن تنظم حالة السلام وتعيد الأمن إلى المجموعات المتصارعة دينيا من خلال مفاهيم الدولة والسيادة فلا يحق لأي دولة أن تتدخل بشؤون دولة آخرى بعد ذلك ويمثل ذلك أساس ما يعرف بالعلاقات الدولية ومنظماتها التي بلغت أوجها في مشروعات كبيرة تجسدت بتأسيس عصبة الأمم كمنظمة دولية تحاول الحد من التوترات قبل أن تستفحل وتصبح حروبا مدمرة - بعد الحرب العالمية الأولى - ولما فشلت في تأدية ذلك بنشوب الحرب العالمية الثانية تم تأسيس هيئة الأمم المتحدة على أنقاضها ولكن وبعد التطورات الكبيرة التي قاربت بين جميع سكان الكرة الأرضية لم تعد تلك المفاهيم والقوانين صالحة وكافية فبدأت النقاشات الواسعة تدور حول مفهوم الوطن ومفهوم السيادة مجددا ومتى يمكن للأسرة الدولية أن تتدخل بشكل واضح في الشؤون الداخلية لبلدان آخرى؟ وهل هناك مشروعية أخلاقية لأستعمال القوة العسكرية لتحقيق الشفاء ومعالجة أوجاع الناس بإستئصال الأجزاء الفاسدة في دول لها سيادة ؟؟خصوصا وأن مفاهيم الدول القومية القوية وأنظمتها المركزية تعيش حالة الضعف أمام التطور نحو اللامركزية وتوسع هوامش الحرية لقطاعات المجتمع المختلفة ومفاهيم الأمة الواحدة تزداد ضعفا بشكل مستمر! وعندما قامت ثورة الطلبة عام 1968 في فرنسا اثيرت نقاشات كبيرة ليس على مستوى فرنسا وفقط بل على مستوى أوربا والعالم فهل الوطن بخدمة الإنسان أم الإنسان بخدمة الوطن؟ وهل حقوق الإنسان مقدمة على مفهوم السيادة أم العكس؟ إذاً لم تعد حتى مفاهيم حقوق الإنسان هي نفسها فلم تعد شأنا خاصا بنطاق حدود واسوار الدول فانتهاك كرامة اي فرد وفي أي بلد يعد هدرا للكرامة البشرية جميعا وقبل ذلك ينبغي توضيح أن الثقافة الأوربية أحدثت قطيعة مع ثقافة المجتمعات القديمة ونظرتها للإنسان فمن المعروف أن المجتمعات القديمة لم تعرف للإنسان حرمة إلا إذا كان ضمن نطاق خاص من الإنتماء القبلي أو الديني أو الطائفي وما شاكل ذلك وهذا ما نقدته العقلية الحديثة لتبدأ مسيرة الحديث عن حقوق للإنسان بما هو إنسان مع غض النظر عن دينه ولونه وعرقه وحسبه ونسبه وما إلى ذلك فنفس هذا الكائن الإنساني له حقوق ينبغي صونها وهذا يعد أحد الملامح المميزة للعقل الحديث عن القديم والذي لم يكتف بذلك في وقتنا الحالي فبدأت النقاشات الفكرية والسياسية حول مسألة حق تدخل القوى الدولية في شؤون محلية لبلدان أنظمتها قمعية دموية لشعوبها أو لبعض قطاعات شعوبها ومثال ذلك الابرز ألان الإطاحة بنظام صدام حسين ووجود القوات الأمريكية والبريطانية في العراق وهي المسألة التي أختلف في توصيفها عربيا بين من يسمونها أحتلال ومن يسمونها إحلال *وتحرير. (ويمكن مراجعة الأرضية الفكرية والنقاشات حول ذلك في كتاب human right..human wrongs الصادر من جامعة أكسفورد). فلم يعد ممكنا أن يفعل الحكام ما يحلو لهم بحجة حرية التصرف داخل الحدود الخاصة طبقا للمعاهدات الدولية القديمة عن الأوطان والسيادات وهنا يصبح مفهوم الوطن ومفهوم السيادة محلا للأخذ والرد ويحتاج إلى تطويره مستقبلا خصوصا مع الحلم الذي سيتحقق يوما ما - رغم بعده الكبير عن عصرنا الحالي وإمكانياته وواقعه - بحكومة واحدة للعالم أجمع حينما تصبح الكرة الأرضيا وطنا للإنسان بكل خصوصياته وتنوعاته الثقافية والدينية والعرقية واللغوية وفي ظل أخلاق كونية مشتركة " إن كنا على هذا الجانب او على الجانب الآخر من الخط الفاصل الذي كان يقسم كوكبنا الى اثنين في السابق فهناك قيم عالمية لها معناها بالنسبة لكل فرد" كما يقول الكاتب الروسي سيرجي كوستن بدلا من مفاهيم الوطن البالية والقديمة في ظل العولمة "الإنسانية الرحيمة" التي يحلم بها الطيبون في العالم فقد يربطني كإنسان "عربي مسلم" بإنسان "أوربي كاثوليكي" أو بإنسان "هندي سيخي" يحترمني ويصون كرامتي وينظر إليَ كإنسان ما لايربطني بعربي مسلم آخر يذلني وينتهك كرامتي ويتعامل معي كعبد لا قيمة له ، هذا الأمر الذي يتطلب - كما يطالب الفلاسفة والساسة المعاصرين - من الولايات المتحدة الأمريكية أن تتواضع قليلا لُتشرك العالم معها ولا تنفرد وتستبد بالقرارات الدولية غرورا بجبروتها العسكري والاقتصادي ونموذجها الحضاري الاقوى فدوام الحال من المحال وتلك هي سنة الله الذي يهلك ملوكا ويستخلف آخرين فلا بد من ظهور قوى جديدة في المستقبل والذي لن يكون بعيدا جدا فلم ولن ينته التأريخ على يديها واصرارها على التفرد قد يؤدي إلى نتائج وخيمة في المستقبل القريب كما يحذرنا الكثير من الساسة والمفكرين !! وليحذر الطغاة في كل مكان ففي مؤتمر نيويورك عام (2000) وافقت الكثير من دول العالم على سن قانون حق التدخل الإنساني ولو بالقوة لكبح جماح الحكام والمستبدين الذين يقمعون وينتهكون حقوق الإنسان في أي مكان من العالم بل وجرهم إلى المحاكم الدولية وجعلهم عبرة لكل من ينتهك حقوق الكائن الإنساني ومن المؤلم إننا في المجتمعات العربية والإسلامية لا زلنا عبيدا لمقولات الجود بالنفس اقصى غاية الجود في سبيل الوطن وسيادته حتى لو دمر هذا الوطن الإنسان واذله وأهانه !! والمؤلم أكثر إننا لا نعرف معنى ومفهوم الوطن بمعناه القديم - ليس متجذرا لدينا - فضلا عن أن نلاحق تطوراته الجديدة فالإنتماءات العشائرية والطائفية والعرقية - تأكيد الهويات الذاتية الضيقة بشكل متطرف وإقصائي - لا زالت لدينا قوية ومتحكمة بشكل مذهل في قطاعات شعبية كبيرة والتي تؤكد ذاتها كلما قمعت بمحاولة فرض هوية واحدة للجميع وإذا وجدت قطاعات تعيش حالة الوطنية فنراها تعيشه بشكل عشائري ، تقديسي وعبودي غريب يود فرض هوية واحدة على الجميع بشكل ساذج فلا ضير من الهويات الذاتية إذا سمح لها بالظهور والتعايش وإنما الضير من محاولة فرض أحدها على الجميع كالهوية العربية على الأكراد والأمازيغ وغيرهم أو فرض الهوية الإسلامية على المسيحيين والصابئة وغيرهم ويمكن أن نذكر مثالا على ذلك بالنقاشات التي جرت حول الهوية العربية والإسلامية للعراق الجديد مع أن البلدان كشخصيات معنوية لا إنتماء عرقي أو ديني لها! وعندما يتابع الإنسان الفروقات بين طبيعة المشاكل والقضايا المطروحة في البلدان المتقدمة وبين طبيعة ومشاكل بلداننا يجد أن أمامنا الكثير من القضايا العالقة وغير المحلولة وأرث ضخم من المشاكل التي لم نصف حسابنا معها خصوصا مع فشل المشاريع الثقافية العربية وأخفاقها في زرع النزعة الإنسانية والديمقراطيات والقيم العقلانية النقدية والفردانية في وجدان مجتمعاتنا ووعيها والتي لم تتخلص من هذيانات الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية وهي لا تملك اصلا معنى وتجربة سليمة للوحدة الوطنية وتجربة الأتحاد الأوربي لا يمكن القياس عليها لأن الدول الأوربية تخلصت من مشاكلها القديمة قبل أن تنخرط بهذا المشروع الضخم وإما نحن فربما نقبل على تمزقات وتفككات قبل أن نستطيع أن نرمم بيتنا أو أن نحلم بمشروعات وحدوية واسعة و من يدري فربما التفككات تكون ضرورية للخروج من النفق المظلم ليكون هناك معنى للأحاديث عن أحلام وحدوية سليمة وصحية في المستقبل .
*يبدو لي أن أول من أستعمل مصطلح إحلال في العربية هو الدكتور شاكر النابلسي وقد سمعتُ بوجود بعض الأعتراضات حول دقة المصطلح من قبل الشاعر العراقي شعلان شريف ونتمنى أن يكتب وجهة نظره حول هذا الموضوع