كتَّاب إيلاف

الشخصية المشوشة والمثقف المشوه!!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الإنسان لا يتذكر في الغالب، بل يخضع لسطوة الذكريات. لا يتذكر أشياء الماضي وحوادثه بل هي التي تلح عليه بين وقت وآخر ليفكّر بـها. وكأن هذا الإلحاح ينطوي على رغبة أو حاجة لم تُشبع بالتفكير أو الممارسة حول أشياء أو أحداث معينة، لذلك فهي تتراكم في الدماغ والحواس لتشكل بالتدريج ما يسمى عادة ب ( الذاكرة )، فتظل الأحداث والأفكار والوجوه قابعة هناك بانتظار اللحظة المناسبة لتظهر على شاشة الدماغ.

لذلك يمكن القول بأن الشخصية المشوشة هي التي تحتفظ بتراكمات في الدماغ أكبر من قدرته على ترتيبها كي تظهر بالتدريج وفي الأوقات المناسبة. وهذه الشخصية تكون عادة كثيرة النسيان. يـمكننا هنا أن نفسر النسيان بأنه يحدث عندما تظهر على شاشة الدماغ عدة أشياء في وقت واحد، لكن ظهورها سويةً يجعل من الصعب على المرء أن يفكر بأيٍّ منها على انفراد ( هذا النوع من النسيان يختلف عن ذاك الناتج عن ضعف فزيولوجي في الدماغ كعارض مرضي أو وراثي )، وعندما يحدث كل ذلك في الداخل، يصبح من الصعب التفكير بطريقة هادئة بأحداث أو أشياء الواقع التي تواجه الإنسان المعني في اللحظة ذاتـها، ومن هنا يبدأ التشوش ويبدأ الانفعال لتتشكل بالتدريج هيئة الشخصية المشوشة وصفتها الانفعالية الملازمة.

على الصعيد الفردي يأتي هذا النوع من التشوش لأسباب مختلفة، فعدم القدرة على إشباع الرغبات أو التواصل مع الآخرين أو الأحدث في وقتها، ربما يعود لظروف الحرمان أو الانكفاء الحضاري أو قلة الثقافة التي لا تسمح للإنسان أن يكون أكثر مرونة في التعامل مع الأشياء والآخرين. وربما يكون سبب تأجيل التفكير أو الهروب منه، هو الشعور بالذنب من أفعال أو تصرفات تتناقض مع القيم التي تربى عليها الشخص المعني، أو أنه يقوم بعمل يعرف بأنه خطأ لكنه يستمر فيه، لاعتقاده بأنه يلحق الأذى بشخص آخر يناصبه العداء أو ينافسه على أمر ما، أو أن سوء التربية جعله يدمن على ارتكاب حماقات يعرف هو بأنـها تؤدي إلى فضائح، لكنه يعتقد بأنـها بعيدة عن عيون الآخرين، لذلك يستمر فيها متستراً بأقنعة وادعاءات تلائم حالته. أو أن المرء يجد نفسه في دائرة علاقات نفعية أو وظيفية يقتضي المحافظة عليها، أن يغض النظر عن بعض الحقائق أو المظالم أو التقصير، فلا يجد من المجدي أو الممكن التفكير بمواجهتها، فيحاول أن يتلافاها بالنسيان أو التبريرات، دون أن يعرف بأنـها تتراكم داخل دماغه لتلاحقه بين وقت وآخر على هيئة شعور بالذنب أو ما شابه ذلك. وهذه الحالات هي قاسم مشترك بين أكثرية الناس ولكن بدرجات متفاوتة، ترتفع وتيرتـها وتنخفض استناداً إلى طبيعة الحالة الاجتماعية السائدة.
وإذا كانت مثل هذه الشخصيات نادرة في المجتمعات المستقرة حيث تصبح موضوعاً للتهكم أو الطرافة، فهي تكثر أو تصبح أحياناً شائعة حين تطغي الحالة الانفعالية والتشوش على السلوك العام في المجتمعات القلقة، سواء بسبب الفقر والتدهور الاقتصادي أم خلال ظروف الحرب أو عند المجتمعات الخارجة تواً من حالة حرب داخلية أو خارجية، أو هي معلقة بين حالتي الحرب والسلام، حيث يصبح الخوف إلى جانب الحقد والتوتر هو المسيطر على المشاعر التي كثيراً ما تُكبح وتتعثر، وحتى عندما تجد مجالاً للتنفيس، فالتنفيس هنا كثيراً ما يقترن بـممارسة العنف أو التشجيع عليه. ولأن العنف بحد ذاته هو فعل إنساني سلبي لا بد من أن يرتد ضد الإنسان نفسه سواء أكان ( منتصراً ) أم مهزوماً. فالعنف أو الرغبة المكبوتة في ممارسته، يضاعف من حالة التشوش ويجعل الانفعال ذا صفة سلبية على طول الخط. وفي جميع هذه الأحوال غالباً ما تكون وظيفة العقل الإيجابية معطلة وسط هذا المعمعة لصالح الغريزة المضطربة والحواس المشوشة.

وإذا كان تعطيل العقل نـهائياً هو أمر مستحيل، فإن العودة إلى العقل ومنطق الأشياء لن تأتي اعتباطاً، بل معها تعود الذاكرة المحتشدة بالجروح والأحداث والالتباسات المؤجلة، لذلك عندما تنتهي الحرب مع ( الآخر )، شخصية كانت أم عامة، يبدأ السلام الصعب مع الذات!! وفي غمرة هذه الأجواء نشأت الدراما السيكولوجية المعاصرة التي أصبحت معروفة في السينما والمسرح وفي النصوص الأدبية على خلفية تطورات علم النفس وعلم التحليل النفسي. وإذا كان السلام مع الذات أمراً أساسياً للإنسان كي يشعر بالاطمئنان والتوازن مع العالم الخارجي، فإن المفارقة الفادحة التي نعيشها وخاصة في الأوساط الثقافية والإعلامية، تكمن في تلك الفكرة المشوهة لدى البعض، التي تبيح لهم تحويل أجواء الحروب والمظالم إلى مادة للارتزاق وتصدّر الواجهة باسم القضية القومية!! وهذا ما يقتضي إيضاحه إضاءة بعض الجوانب : ثمة حالة من التهدم الصحي تظهر على وجوه أو هيئات أولئك الذين يثقلهم الشعور بالذنب، وهو ما نراه عند نوعين من البشر، أولئك الذين اضطروا إلى امتهان أعمال هم غير مقتنعين بـها، كبائعات الهوى. إذ نجد بعضهن منسجمات مع ما هن فيه، بينما بعض آخر تظهر عليه علامات التهدم والارتباك جراء الشعور بالذنب أو الاشمئزاز من مهنة لا تنسجم مع تربيتهن أو طبيعتهن الإنسانية، لكنهن اضطررن إليها بحكم الحاجة وقسوة الظروف. وسنجد حالة موازية أخرى في البلدان التي يشيع فيها الاستبداد والمظالم السياسية، نجدها عند بعض منتسبي الأجهزة الأمنية السرية التي تؤدي أعمالها إلى الدفع بالمعارضين إلى أقبية التعذيب والموت. ففي العراق مثلاً، هذه الحالات ليست نادرة، فبعض ضباط ومفوضي ( الأجهزة الأمنية ) في النظام السابق يصابون بتهدم بدني قاتل كالشلل النصفي أو الانـهيار التام أو الأضطراب السلوكي، جراء إجبارهم على الاشتراك في (حفلات تعذيب ) جماعية تؤدي بالمعتقلين إلى الموت أو الجنون ليتم تصفية الضحايا لاحقاً. بل أن الحزب الحاكم في الفترات الأخيرة لم يكن يمنح درجة ( عضو عامل ) في صفوفه إلا لمن ساهم في عمليات تصفية جسدية ل ( أعداء الثورة ) أي المعارضين السياسيين. وقد قرأت قبل سقوط الديكتاتورية على صفحات ( أخبار الأدب ) المصرية، اتـهاماً صريحاً من قبل أحد الأدباء العراقيين للشاعر البعثي حميد سعيد بأن الأخير شارك في عمليات تصفية جسدية مباشرة لبعض المعارضين، وكما هو متوقع، لم ينف حميد سعيد ذلك في حينها، لأن من المعروف في العراق أن التمرن على قتل البشر هو أحد مستلزمات البعثي الأصيل لكي يكون مؤهلاً لتحمل المسؤوليات لتنفيذ هدفهم المنشود ( أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة )!! لاسيما وأن صدام حسين نفسه بدأ حياته قاتلاً ليستمر على هذا المنوال، فهو ( فتى البعث ) كما يسميه ميشيل عفلق. وصدام نفسه يفتخر بـهذه المناقب البعثية، فهو يعتبر اشتراكه بمحاولة اغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم 1961 البداية الحقيقية لنضاله في صفوف الحزب، وهذا ما نجده في العديد من الكتب والروايات المكتوبة عن سيرة حياته بأمر منه. وقد شهد هذا المنحى تطوراً نوعياً في 1979 عندما قام صدام باستدعاء جميع كوادر الحزب من كافة محافظات العراق، للمشاركة المباشرة بإطلاق النار لإعدام أكثر من نصف قادة حزب البعث الحاكم، بعد أن اتـهمهم بالضلوع في مؤامرة مزعومة ضده، ودون محاكمة طبعاً.

وبموازاة هذا السياق السياسي الخطير لسلوك الشخصية المضطربة بسبب الحرمان أو الثقافة المشوهة، نشأ سياق ثقافي - اجتماعي لا يقل خطورة من حيث الجوهر، عن السياق الأول. فقد أصبحنا أمام ظاهرة جديدة في الثقافة العربية، أصبحت مألوفة ويا للغرابة، ونقصد بذلك تدافع العديد من الكتاب العرب المعروفين وغير المعروفين، خلال العقدين الأخيرين، على تأليف كتب سيرة وروايات ودواوين شعرية وبحوث، هدفها تقديم حاكم غارق في جرائمه، بصفته ( بطلاً قومياً )!! بل وصل الأمر ببعض هؤلاء، إلى المساهم في إدانة وتشويه سمعة مثقفين وسياسيين عراقيين معارضين لجرائم نظام بغداد السابق!! علماً بأن غالبية أولئك المؤلفين والصحفيين ينتمون لتيارات يسارية وقومية وإسلامية!! مستعملين شعاراتـهم الثورية المختلفة لتبرير جرائم نظام بغداد بحجة معاداة الإمبريالية!!

حتى أصبحنا أمام من يعتبر المتاجرة بجثث العراقيين نوعاً من الشطارة والموهبة!! دون أن يرف له جفن أو يبدو عليهم أي تشوش بل يزداد ابتذالاً ووقاحة!!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف