تضامنا مع سعيد الكحل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لا لفقه الولاء والبراء
نعم لفقه السلام وحوار الأديان
" إن تكلمت قتلوك، وإن سكت قتلوك؛ فقل كلمتك ومت"
الشاعر الجزائري الطاهر جالووت، الذي قتله الإسلاميون
التضامن مع ضحايا فتاوى فقهاء الإرهاب، وآخرهم المفكر الإسلامي المستنير سعيد لكحل، حتى يكون فعالاً، لا ينبغي له أن يقتصر على الشجب لأن فقهاء فتاوى الموت، انطوائيون فاقدون لكل صلة بالواقع ولكل ضمير أخلاقي، بل يجب أن يقوم أيضاً وخصوصاً على توضيح رهانات وشعارات فقه الولاء والبراء الذي يقتلوننا به وأفكارنا الحداثية العقلانية التي يقتلونا أو يحرضون على قتلنا من أجلها.
يقول فقيه القاعدة الشيخ د. أيمن الظواهري في كتابه "فرسان تحت راية النبي" :"يجب علينا الاستمرار في دعوة الناس إلى عقيدة التوحيد الخالص بأركانها الأساسية! الحاكمية والولاء والبراء". حيثيات فتوى أبي جهاد المغربي بقتل سعيد الكحل مستمدة من هذا الفقه: فالضحية موال لـ"المشركين وقوانينهم الوضعية...". وبريء من "المؤمنين" بأن الجهاد باق إلى قيام الساعة، وقتال اليهود والنصارى ومن والاهم من المسلمين فريضة على كل مسلم ومسلمة....
ما هو فقه الولاء والبراء؟ هو الاعتراف قولاً وعملاً بجهاد غير المسلمين واضمار العداء لهم، ليس لما يفعلون بل بما هم غير مسلمين، ووجوب القطيعة الناجزة والشاملة معهم ومع معبوداتهم ومؤسساتهم وقوانينهم وقيمهم وعلومهم، خاصة الإنسانية، والبراء من كل مسلم يحالفهم أو يصادقهم أو يتعاون معهم أو يحتمي بهم أو يطبق قوانينهم، بدلاً من الشريعة، أو حتى يواسيهم في مصائبهم... مثل هذا المسلم مستوجب لحد الردة بإجماع فقهاء الولاء والبراء!.
"جريمة" التيار الفكري الحداثي العقلاني، الذي ينتمي إليه المفكر الإسلامي سعيد الكحل وكذلك كاتب هذه السطورهي توعية نخب العالم العربي بخطر فقه الولاء والبراء الانطوائي AUTISTE على مستقبل العالم العربي والإسلامي، وبضرورة القطيعة معه في الإعلام والتعليم والخطاب الديني،بتطهيرهم من فقه النرجسية الدينية، من الجهاد والاستشهاد،ومن العداء العنصري لليهود والمسيحيين وغير المسلمين، وتعويضه بفقه بديل يفتح الوعي الإسلامي لحوار الأديان وتبني الاقتصاد والمؤسسات والعلوم والقيم الحديثة التي تمثل الطريق الوحيد لخروج العالم العربي والإسلامي من تأخره التاريخي.
فقهاء الولاء والبراء الإرهابي مهووسون بالحاكمية، أي بعبادة الأسلاف الذين أعطوهم حق حكم الأحياء من وراء قبورهم. وهكذا حرّموا وجرّموا كل جديد في الفكر والحياة وكل تجديد لسنة الأسلاف. على غرار القبائل البدائية التي تعتبر كل تجديد لتقاليد أسلافها أمارة على اقتراب نهاية العالم، وتحكم على المجددين بالموت. مقاربة التيار الحداثي العقلاني لتراث أسلافنا بالعقل حتى بمفهوم الحد الأدنى بما هو ذوق سليم، وحكم قويم وتمييز للصواب من الخطأ في الدين، وللواقعي من الهاذي في السياسة،وللحقيقة من الأسطورة في التراث كما يفعل سعيد الكحل يعتبر "رده" تستوجب دق عنقه! أما مقاربة تراثنا الديني بتاريخ الأديان المقارن وسسيولوجيا الأديان والانثروبولوجيا الدينية وعلم النفس واللسانيات والسيمائيه والفيلولوجيا والفلسفة،مختبر الفكر النقدي الذي مازال يفتقده تراثنا رغم حاجته الماسة إليه، لفهمه فهماً نقدياً يحرر الوعي الإسلامي المعاصر من الرق النفسي لأسلافه، فهو إحدى أمارات قيام الساعة! لماذا؟ لأن فقهاء الإرهاب، فقهاء الولاء والبراء مهووسون بصفاء الهوية المهدد بمؤسسات وعلوم وقيم الحداثة. الهوس بالصفاء اكتسى اليوم بعداً هاذياً: المطالبة في الإعلام الديني وحتى في رسائل جامعية، نالت درجة مشرف في جامعتي القاهرة والحسن الثاني، بتطهير تفاسير القرآن الكلاسيكية وفي مقدمتها تفسير الطبري من "الإسرائيليات"؛ وأيضاً بتطهير صحيحي البخاري ومسلم من أحاديث أبي هريرة وغيره من المحدثين الذين "تتلمذوا على أهل الكتاب" كما يقولون. بالتأكيد تأثر التفسير والحديث والنص المؤسس نفسه باليهودية والمسيحية وبعض الديانات القديمة كالمصرية واقعة تاريخية، ودليل لمن مازال في حاجة إلى دليل على كونية قانون التلاقح بين الديانات والثقافات في كل مكان وعلى مر العصور. وهو يقوض من أساسه فقه الولاء والبراء الانغلاقي ويحدونا اليوم إلى تحويله عبر الإعلام والتعليم والخطاب الديني إلى تلاقح واع يحصن الوعي الإسلامي المعاصر من عدوى فقه الولاء والبراء، سليل القراءة الحرفية للنص التي تقود إلى التزمت، التعصب والإرهاب. شرحنا مراراً في "إيلاف" ضرورة استبدال هذه القراءة السلفية الحرفية بقراءة تعددية تشمل القراءة المقاصدية السنية، القراءة التأويلية الاعتزالية، والقراءة الرمزية الصوفية وأخيراً القراءة التاريخية القرآنية. القراءة المقاصدية أحياها في النصف الأول من القرن العشرين كل من الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي، وهي تقوم عند بن عاشور على مبادئ منها "السماحة" أي "العدل والاعتدال والتوسط" و"الرخصة" أي حاجة الأمة أو طائفة منها إلى "إباحة الفعل لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمة وبناء قوتها[مما] يقتضي تغيير الأحكام الشرعية" كما يقول بن عاشور، التي تعتبرها القراءة الحرفية صالحة لكل زمان ومكان ؛ القراءة التأويلية تؤول النص لتكييفه مع قوانين العقل لأن النص الديني - كأي نص آخر- متعدد المعاني. إذن قابل للتأويل بحثاً عن معانيه المستترة التي يحددها العقل والمصلحة العامة حسب متطلبات الأزمنة والأمكنة؛ القراءة الرمزية الروحية لا تكتفي بظاهر النص بل تذهب إلى باطن النص الذي هو حقيقة النص الروحية التي يسقطها عليه القارئ حسب حالاته النفسية والاجتماعية وميوله الدينية. لذلك قال المتصوفة عن الفقهاء - وخاصة فقهاء الولاء والبراء - بأنهم " فقهاء الظاهر" ظاهر النص وظاهر الشريعة! الجهاد عند الصوفية هو "جهاد النفس الأمارة بالسوء" أو بلغة علم النفس التحكم في العدوانية الملازمة للنفسية البشرية؛ القراءة التاريخية للنص دشنها القرآن بالنسخ لتكييف النص مع حاجات المسلمين ومستجداتهم. واصل هذه القراءة الصحابة: أبو بكر وعمر ومعاذ وبعض الفقهاء مثل الونشريسي.
بإمكان هذه القراءة التعددية، التي تجد اليوم في علوم الحداثة سنداً نفيساً، أن تشكيل منطلقاً لفقه جديد على طرفي نقيض مع فقه الولاء والبراء. هذا الفقه الجديد ولد على يد المستشار سعيد العشماوي وجمال البنا وسعيد الكحل وآخرين. في منظور هذا الفقه الإسلام ليس "قرآناً وسيفا" كما زعم حسن البنا بل قرآن فقط، "والنساء شقائق الرجال" أي متساوون في الحقوق والواجبات كافة، والمواطنون سواسية كأسنان المشط بقطع النظر عن دينهم ولونهم وعرقهم وليس للإسلام فيتو على جميع العلوم والمؤسسات والقيم الكونية بل أقصى مناه أن يقتبسها حيث يجدها.
نجح التيار الحداثي العقلاني، على تباين مشاربه، في هيكله النقاش الفكري - السياسي في العالم العربي وتوجيهه إلى ضرورة القطيعة مع فقه الولاء والبراء، أي مع عبادة الأسلاف التي تتجلي لا في القراءة الحرفية الجهادية وحسب بل وأيضاً في وسواس صفاء الهوية المغلقة في وجه التلاقح الثقافي الضروري. لا ضرورة لانتظار تبني هذا الفقه الجديد في الإعلام والتعليم والخطاب الديني، بل علينا منذ الآن أن نشرع في نشره في الإعلام الذي هو مدرسة بلا جدران. يجب أن لا يبقى الانترنت وقفاً على فقه الولاء والبراء وبث فتاوى الموت كتلك التي كان ضحيتها المفكر الإسلامي سعيد الكحل أو تلك التي كنت شخصياً ضحيتها، بل لابد أن تغدو وسيلة أساسية لنقل فقه وثقافة السلام، وحوار الأديان، والتآخي بين جميع البشر والحوار بين جميع الملل والنحل والفلسفات والآراء والمعتقدات للتصدي للتحدي الأول الذي تواجهه الإنسانية: خطر الكارثة الأيكولوجية الوشيكة.
تنبيه من المؤلف: ممنوع إعادة نشر المقال من دون ذكر المصدر إيلاف