كتَّاب إيلاف

الكلب والأسد: في بذاءة النظام السوري

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يقول المثل الإنجليزي: A living dog is better than a dead lion ، أي "كلب حيّ أفضل من أسد ميّت". والنظام السوري يصف غريمه الشهيد "جبران تويني" الذي أغتيل الاثنين الماضي بتفجير سيارة مفخخة، بـ "الكلب". الشتيمة جاءت على لسان مندوب سوريا الدائم في المنظمة الدولية فيصل المقداد، الذي ينوي الأب غسان تويني مقاضاته على بذاءته تلك.
تويني الأب دعا الى المغفرة بعد استشهاد إبنه وهو بذلك ينطلق من جوهر الروح المسيحانية الراقية.
النظام السوري الذي يحكمه الأسد وصف ضحيته بـ"الكلب" على لسان ممثله الدائم في الأمم المتحدة كردّ فعل غريزي يلخص مفهوم الدولة ـ الغابة التي يسودها الأسد...
ولكن دعونا نر من هو الكلب ومن هو الأسد فعلاً.

*
عام 1984 وصلتُ الى دمشق في العيد وكانت حمّى عرض مسرحية عادل إمام "شاهد ما شافش حاجة" على أوجها في العراق والشام وبقية البلدان العربية التي رأت شعوبها في شخص "سرحان عبد البصير"، بطل المسرحية، نموذجاً للإنسان العربي المستلَب والوديع، المسالم. سرحان عبد البصير هذا له صديق واحد لا يقلّ وداعة عنه، وهو يقوم بزيارته كل إسبوع في " جنينة الحيوانات"، إذ لم يكن هذا الصديق سوى أرنب صغير من أرانب الحديقة. تشكل الزيارة المشهد الأول من هذه المسرحية الكبيرة التي كتبها لينين الرملي، وهو مشهد في غاية الظرف والعذوبة خصوصاً حين يحاور سرحان أرنبه الأثير ويبثه همومه اليومية ومنها خوفه وعدم إرتياحه للأسُود وكيف أنه يفضّل الأرانب الوديعة عليها التي يستضعفها الناس ويأكلونها مع الملوخية لقدرتهم عليها.
"إنتَ عمرك شفت ملوخية بالأسُود؟" يسأل سرحان عبد البصير صديقه الأرنب. وفي غمرة هذا الحوار الحميم ينسى حارس الحديقة باب قفص أحد الأسُود مفتوحاً فيخرج منه ذلك الأسد الذي ستصعق رؤيته سرحاننا المسكين وتجمد الدم في عروقه فيهتف مذعوراً "أنا اللي باخاف من الكلب يطلعلي أسد!!؟". ينتهي المشهد هنا ولا تنتهي القصة، فقد وجدتُ أن المسرحية التي أعاد التلفزيون السوري بثها يومياً على مدار أيام العيد تنقص هذا المشهد! فقد عرضت المسرحية من دون هذا الفصل تحديداً. وبصراحة "لم ألقفها عالطاير" كما يقال، فبرأيي أن هذا الفصل كان باهتاً يكاد يخلو من التلميحات السياسية والاجتماعية التي تعج بها المشاهد الأخرى، ثم كيف أن العراق الذي كان يمتلك أشد رقابة ثقافية في الشرق الاوسط، يسمح بعرض هذا الفصل ولا تسمح بها سوريا "قلعة الصمود والتصدي" وقبلة المناضلين آنذاك!؟ هذا سرّ كان لا بد لي من إجلائه.
ولما كنت قد شاهدت المسرحية مرات عدة في العراق حتى انطبعت في ذهني، رحت أساءل أصدقائي من المثقفين السوريين عن السرّ في حذف هذا الفصل البسيط فيما كان دريد لحام، وبإذن خاص من الأسد الأب، يقول على لسان "غوار الطوشي" ما لا يستطيع أي وزير سوري قوله في مسرحياته الشهيرة التي يقال أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان يحضرها شخصياً ... ويضحك.
إلاّ أنّ كل محاولتي لإقناعهم بوجود مثل هذا الفصل باءت بالفشل فقد حذف المشهد برمته من المسرحية وتمّ التمويه على ذلك أثناء عرضها الى درجة صرت فيها أعتقد أن لا أحد في الشام يعرف بوجوده غيري، فصرفت النظر عن الموضوع حتى وقع بيدي قبل عامين كتاب شاكر النابلسيّ "صعود المجتمع العسكري العربي في مصر وبلاد الشام" لأكتشف ظاهر السرّ وباطن العقدة.

*
يشير النابلسي في معرض حديثه عن تمكين الطائفة العلوية من السيطرة على زمام القوات المسلحة السورية ودعم تواجدها المميز في مراتب الجيش ليصبح كبار الضباط فيه من العلويين فقط ومن عشيرة الأسد تحديداً، والتي هي "عشيرة الكلبيّة". وتنقسم هذه العشيرة بدورها الى أربع عشائر علوية رئيسية في محافظة اللاذقية وهي: عشيرة الخياطين، وعشيرة الحدادين، وعشيرة المتاورة، وعشيرة الكلبية، التي تنحدر منها عائلة الأسد. و"الكلبية" جزء من العلويين الذين يسكنون اللاذقية، ويتميز أفرادها بطول القامة واتساع الصدر ومتانة العضلات، كما تميزوا بالعصبية لطائفتهم. وقد ولد حافظ الأسد ـ وهو منهم ـ في قرية القرداحة الواقعة في قضاء جبلة جنوب اللاذقية، وفيها دفن. [النابلسي ـ ص 40]

أمّا كيف تحول الكلب الى أسد فلتلك حكاية أخرى رواها لي سياسيّ مخضرم كنت قد أعرته الكتاب، تتلخص في أن حافظ الأسد كان أيام الإنقلاب الأولى يستعمل لقب عشيرته الأصليّ "الكلبيّ" الى أن إلتقى بجمال عبد الناصر الذي دعاه الى تغيير اللقب من "حافظ الكلب" الى "حافظ الأسد" لأنه لا يليق بقائد أن يُنسب الى الكلاب، خصوصاً في بلد عروبيّ مثل سوريا.
ورغم أن الأمر كان في غاية العادية، إذْ الطبيعي أن ينسب المرء نفسه لقبيلته مهما كان إسمها، لا سيما وأن أغلب القبائل العربية كانت تنسب نفسها الى الحيوانات كعشيرة العقابيّ، والكلبيّ، والأسديّ، والقرشيّ، والثعلبيّ، والقرداحيّ (نسبة الى القرداح وهو: القرد الضخم). وتلك مسميات تعود الى مرحلة الطوطمية التي مرّ بها العرب قبل الإسلام، حينما كان لكل قبيلة حيوانها المقدّس. إلاّ أنّ الفكرة كما يبدو دخلت "مُخيخ" الرئيس الذي تحول بيوم وليلة من ضابط عادي يحمل الشهادة الثانوية الى رئيس دولة، ومن كلب الى أسد ليحوّل سوريا بأسرها الى غابة سياسية لا يُسمع فيها صوت غير زئيره.

*
المثل الإنجليزي يقول: كلب حيّ أفضل من أسد ميّت.
وهذا المثل يفلسف لنا حكمة الجبن والبقاء أحياء بأي ثمن حتى ولو اضطرّ فيه الأسد أن يتحول الى كلب. والحكمة مأخوذة من التوراة، من سفر الجامعة تحديداً. ولو طبقناه على الحالة السورية، وألقينا من خلاله نظرة فاحصة على المسرح الثقافي اللبنانيّ ـ السوريّ لنرى من الذي مات ومن الذي بقي حيّا يعتاش على مائدة هذا النظام الشموليّ من لبنانيين وسوريين وعراقيين أيضاً، لعرفنا من هو الكلب ومن هو الأسد.

*
جبران تويني لم يكن أسداً بل كان قدّيس كلمة، ولد حرّاً ومات حرّاً، وهو بشهادته هذه لا يمكن مقارنته سوى بالقديس جورجيس، قاهر التنين.

http://www.jamaljuma.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف