اللهم اكفنا شر أصدقائنا الليبراليين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لا أذكر بالطبع متى وأين أو ماذا كانت الظروف المحيطة بي حين قرأت لأول مرة مصطلح "الليبرالية"، وأعترف أنني لم أقع في غرامه، بل لم أتصور أن أجد نفسي يوماً ضمن المتهمين به، لكن ما أذكره جيداً أنني منذ تلك اللحظة حتى الآن لم أفهم حقيقة هذا المصطلح، ويبدو ـ ورحم الله امرؤ عرف قدر نفسه ـ أنني لست مؤهلاً لاستيعاب دلالة هذا المصطلح، بل على العكس صرت أتحسس رأسي ـ ولن أقول مؤخرتي ـ كلما سمعته أو قرأته، ليس لعيب فيه أو اعتراض عليه، بل لأن معظم من يمتطونه من ذلك الصنف الذي يستدعي على الفور الدعاء الشهير "اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم"، ذلك لأنهم يتسمون في الغالب الأعم بالغدر والخسة، وبالطبع أقصد أصدقائي، وليس الليبراليين الأفاضل .
شاع هذا المصطلح خلال الأعوام الأخيرة، حتى أنه أمسى أحد ملامح حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وراق لرهط من الرفاق الحمر القدامى، بل لم يجد الإخوة المسلمون والمتأسلمون غضاضة في وصم أنفسهم به، ربما من باب التقية تارة، أو مجاراة الموضة تارة ثانية، أو في سبيل تحسين صورة الإسلام والمسلمين دولياً تارات أخرى .
ولعله ليس من المفيد بالمرة، لكنه فقط من باب التسلية أن أسوق حكايتي مع بعض الأصدقاء الليبراليين، وسيتفهم القارئ الطيب دوافعي في عدم التطرق إلى الأسماء صراحة، ليس فقط لأنني "رجل في حالي"، بل لأنني أيضاً لا قبل لي بمعارك مع هؤلاء، فهم يستخدمون سلاح العقوبات وقرارات مجلس الأمن، وربما طالبوا بتشكيل لجنة تحقيق دولية للوقوف على حقيقة تورطي بالخوض في ذواتهم المصونة، وهي الجريمة التي لا تغتفر، إذ أنهم مستعدون للصفح عن أية تجاوزات إلا التعرض لذواتهم المتورمة بفعل الإفراط في تقديرها، والرهان على ما قد يتخذه المجتمع الدولي من قرارات إزاء أي مساس بها .
.....
التقيت أحدهم مصادفة في أحد المقاهي المتواضعة التي كنت أتردد عليها أيام الصعلكة والجري وراء المثقفات، وكان يقدم نفسه للحابل والنابل والنادل بصفته ثورياً نورياً يجيد كل فنون الكلام والسباب والأدب وقلته، ويشتم جميع الشعراء بما فيهم مثله الأعلى "تأبط شرا"، وحتى أمل دنقل، الذي طالما وصفه بأنه "شاعر باب وشباك"، ويستهجن الاهتمام الواسع به قائلاً إنه مجرد "طبال"، كما طالت شتائمه الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، قائلاً إنه "حرامي ومنجد بلدي" كما يصر على وصفه صاحبنا رفيق المقهى، والحق أنني شخصياً كنت حينئذ مشغولاً بالفتيات عن مناقشته، فكنت أؤثر السلامة، وأومئ برأسي موافقاً على كل ما يقول، وهو ما كان يشجعه على الذهاب إلى أبعد حد ممكن، كما كان يرفع عقيرته بطلب المزيد من "الترمس والخيار"، وأضطر لدفع الفاتورة خوفاً من الفضائح وأن ينتهي بنا الحال في قسم الشرطة .
بعد سنوات لم أعد أتذكر عددها، التقيت صاحبنا رفيق الحانة وقد داهمته أعراض "اللبرلة"، فصار يحدثني بنفس الحماس عن الأوطان الحدائق التي تتسع للجميع، بما في ذلك الإخوان المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود، وكان بالطبع يشرح لي كيف تغير العالم، وأنا كعادتي معه مستسلم لقدري، استمع بكل جوارحي، وأبدي انبهاري بمعلوماته، مؤكداً له كذباً وبهتاناً أنني أعرفها منه لأول مرة، رغم أنني كنت أسمعها منه شخصياً للمرة الألف، ولم يكن يخلصني من هذا الصديق سوى ظهور مسؤول كبير، أو مذيع شهير في إحدى الفضائيات، فينصرف عني الصديق ـ بلا استئذان طبعاً ـ إلى ضحيته التي يقدم نفسه لها بوصفه راعي الليبرالية وعرّابها الأول في عموم المنطقة .
ولعل القارئ يتساءل عن أسباب احتمالي هذا العبث، وكما أسلفت فالأمر لا يخرج عن سبب وحيد هو اتقاء شر صديقنا الليبرالي، لأنني أدرك جيداً أنه سيتحول إلى طاقة شر لا قبل لي بها لو سمحت لنفسي مرة واحدة بالاختلاف معه، ولم يكن ليكتفي بمقاطعتي فحسب، بل سيتحول إلى ماكينة إطلاق شائعات ضدي، تبدأ باتهامي بالعمالة لكافة أجهزة الاستخبارات في العالم، ولا تنتهي بوصمي بالتفاهة والادعاء، وقد يصل الأمر إلى حد وصمي بالشذوذ، رغم أنني لست هكذا، ولا يشجع مظهري على ذلك أبداً .
.....
صديق آخر جمعتني به مصادفة إليكترونية، بعد أن انسحبت من عالم المقاهي إلى تلك الساحرة شبكة الشبكات، حيث بادرني برسالة إليكترونية يشيد فيها بما أكتبه، ويطريني بعبارات مجاملة لا طاقة لي بها، مما اضطرني إلى الرد عليه شاكراً كما تقتضي اللياقة، ومن ساعتها اعتبرني الصديق الافتراضي أخاً لم تلده أمه، وراح يمطرني بعشرات المقالات التي يجد غيري ناشراً لها، خاصة وأنه ـ كليبرالي ـ يؤمن بأن الإنترنت ستقضي لا محالة على ما سواها من وسائل الاتصال والتعبير، ومضت الأمور على ما يرام حتى جاء يوم أبديت فيه ملحوظة على أحد مقالات الصديق الليبرالي، الذي كان مفككاً وعدوانياً يسب فيه نصف سكان الكرة الأرضية، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنه كتب تحت تأثير حالة من النشوة لم أجربها شخصيا بعد، ولما أبديت له ملحوظتي على استحياء متعللاً بأن الصحيفة التي أعمل لصالحها ربما تعترض على المقال، لما قد يسببه لها من ملاحقات قضائية، وحينها كشر صديقي الليبرالي عن أنيابه واتهمني بالارتزاق، رغم أنني لم أتربح منه ولا من غيره فلساً واحداً، بل على العكس كثيراً ما انتزعت له مكافأة لا بأس بها من ميزانية صحيفتي المتواضعة، ومع ذلك فقد اتهمها واتهمني صاحبنا الليبرالي بأنني بوق للتخلف والرجعية، ورغم هذا فقد حمدت الله كثيراً أنه لم يتهمني بدعم تنظيم "القاعدة"، وإلا كانت عاقبتي إلى جوانتنامو وبئس المصير .
.....
صديق ثالث يعيش في "أم الدنيا" ولا أقصد بها مصر بالطبع لأنها لم تعد هكذا، بل الولايات المتحدة، وقد أعرب لي ذات مرة عن امتنانه لاهتمامي بقضايا الأقليات، خاصة الأقلية التي ينتمي إليها، وبالطبع شكرته مؤكداً أن أجندة الصحيفة التي أعمل لصالحها تتسق تماماً مع قناعاتي الشخصية بضرورة الاهتمام بأحوال المرأة والأقليات وحقوق الإنسان وغيرها من أيقونات العالم الجديد، ومن ساعتها اعتبرني صديقاً، والتقينا مراراً كلما كان يزور مصر، وفي كل مرة لم يكن يتوقف عن القيام بدور المُبشّر بعالم أفضل ومستقبل أجمل لبلدنا، مؤكداً بيقين المطلعين على بواطن الأمور، عزم "الأصدقاء في واشنطن" على تغيير هذه الأنظمة الفاشية القميئة التي تشجع التعصب، وتتحالف مع الشيطان للبقاء في السلطة، وبالطبع كنت أطرب لهذه البشرى، حتى وقعت الواقعة دون قصد مني، حين نشرت تقريراً عن نشاط إحدى المنظمات الناشطة في حقوق طائفته، وإذا بالصديق الليبرالي يثور ويفور، ويبربر عاصفاً كأنه الإعصار "كاترينا"، معترضاً على ما أسماه "تلميع" ذلك النكرة، ويتوجه بسهامه لي مباشرة متهماً إياي بأنني لست موضوعياً ولا محايداً، ولما أبديت دهشتي حيال مسألة الحياد، وكيف يكون بين نشطاء الطائفة الواحدة، إذ يفترض أن يكون الحياد بين طائفتين وليس بين أبناء البيت الواحد، لكنه لم يجبني عن هذا، بل انقلب إلى "مجاهد رعديد"، ينذرني بالويل والثبور وعظائم الأمور، مؤكداً أن لي "رؤساءً" سيردعونني حين يشكوني إليهم ليعلمونني الصحافة والحياد، وأصول مخاطبة الليبراليين.
.....
وتبقى الأسئلة : كيف يكون المرء ليبرالياً وهو لا يحتمل مجرد الاختلاف في الرأي؟
وكيف يكون ليبرالياً وهو لا يرى في الكون غير ذاته المتورمة، ويعتبر ما دونها سقط المتاع؟
وما الفرق بين هكذا ليبراليين وأبناء لادن في اللجوء لكل وسائل القمع الإرهابية ضد مخالفيهم؟
والحاصل ببساطة بعد هذه التجارب المريرة أن أصدقاءنا الليبراليين ـ وربما ترتبط بسوء حظي فقط ـ الذين التقيتهم، يجعل المرء يتحسس رأسه ـ وربما مؤخرته أيضاً ـ كلما سمع من أحدهم كلمة "ليبرالية"، لأنها كانت ـ وأرجو أن أكون مخطئاً أو سئ الحظ ـ مجرد مفتاح لدهاليز الانتهازية وتورم الذات والإفراط في تقدير النفس، والافتقاد إلى فضيلة التواضع والسيكوباتية و"عد واغلط"، مما يدفع الذين على باب الله أمثالي إلى التوجه للسماء داعين الله تعالى أن يكفينا شر أصدقائنا الليبراليين، أما أعداؤنا من الإخوانجية والقومجية والبعثجية فنحن بإذن الله كفيلون بهم، ولا أراكم الله مكروهاً في ليبرالية لديكم.
Nabil@elaph.com