وضعية المرأة السوسيو- ثقافية بين الثابت والمتحول..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"إن درجة تحرر المرأة تصبح بكل بداهة مقياس التحرر العام" شارل فوريي
* دلت كل المقاربات التي تطرقت لموضوع المرأة إن على المستوى الفقهي كتشريع أو على مستوى الخطاب اللسني المعبر عنه من خلال الإنتاج الأدبي بكل أصنافه التعبيرية عن تعامل حذر اتجاه المرأة، زكاه التعاطي الميتولوجي للمجتمع معها منذ العصور على اعتبار أن الرجل هو الأصل والمرأة هي الفرع.
الثابت الميثي
كان ذلك مع ظهور الدين اليهودي الذي غير النظرة الوديعة للعصر الاميسي إلى المرأة (حواء) التي أصبحت تجسد الخطيئة، وتحدد لنا سن اليأس الأزلية للرجل (آدم ) الذي ولد حواء من ضلعه كأول ولادة وآخرها بعد أن انتقل فعل الولادة كعقاب إلهي إلى حواء" وقال للمرأة تكثير أكثر أتعاب حبلك ، بالوجع تلدين أولادا..." (1).
بينما كانت ولادة آدم الأولى ولادة إلهية من نوع التكاثر الملائكي الروحاني، كان آدم واسطة لولادة حواء حيث جوعلت معه كطرف خارجي عنه ،" فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (2).
وتذكر القصة أن آدم قبل ذلك كان ملاكا خالدا في الجنة لا يموت أبدا، ولم يبق له كعلاج للموت إلا التناسل، فالجسد الأنثوي هو المكان المركزي الذي يبدأ منه إيقاع المحاذير، ينطلق من الأسطورة ليتوالد فيه المعنى داخل الوضوح الاستراتيجي لعناد النص الذي أباح تخلف حواء رغم أنها أول من أكل من شجرة المعرفة، فطَردُ آدم من الجنة يدل على حصول إمكانية حواء للوصول إلى شجرة المعرفة قبل آدم، من تم أقيمت حراسة إلهية حول المعرفة الخالدة مخافة وصول حواء إليها وتذوق اللذة الميتافيزيقية للسر الإلهي في حالة التَّجلي" ولهيب سيف تنقلب لحراسة طريق شجرة الحياة"(3).
ألف ليلة وليلة...حدود الممكن.
في وقت كانت أوربا تعيش تاريخها المظلم ،حركت الملحمة الشعبية(ألف ليلة وليلة) وثنية موضوع المرأة لدى المستشرقين لما اتُّخدت كمرجع لتفسير حياة العربي كمفتاح سحري لشخصيته.
فالظاهرة الشبقية في نص ألف ليلة وليلة هي تمثل لثقافة غربية تمتح من نسقها المبني على استمتاع القارئ" بلبيديته" وقد انساق العديد من الباحثين العرب مع هذا المعطى الانسياقي والخضوع لرؤية غربية ارتكزت على الهامشي بهذا النص يقول د.ابراهيم محمد زين "إن التفسير المقنع لتلك الظاهرة هو غياب الوعي بأهمية توطين هذه المناهج في نسق الثقافة العربية الإسلامية ومحاولة إيجاد قيم نقدية تعيننا على فهم المنطق الداخلي لهذه الثقافة التي نتمثلها وتمثلنا ونسعى أحيانا لتشويهها فتفتح أعيننا على سراب الحضارة الغربية" (4).
" ف(شهرزاد) تروي لكي تحيى ،و(شهريار) يُصغي لكي يتمتع فالإرسال السردي ينتظم في سياق تأجيل الموت فيما ينتظم التلقي في سياق الاستغراق في المتعة" (5).
" لكن شهرزاد تستثمر فعالية السرد الجبارة فبثت فيها ليس المتعة فقط، وإنما العبرة التي تتسلل خفية في تضاعيف السرد بحيث تعمل بعد ألف ليلة وليلة على تغيير قناعات شهريار الذي ما إن تقبل ما روي له في الليلة الأولى، إلا ويبدأ بتقبل كل ما سيُروى له في كل الليالي الألف الباقية." (6).
ففض البكارة بالنسبة للمخيال العربي في ألف ليلة وليلة هو القتل المعنوي للمرأة بعد انفضاض البكارة فشهرزاد بعد ذلك كانت تروي لتعيش بنات جنسها ولتعيد للقيم توازنها المبني على ارتفاع سهم الوفاء الأنثوي مقابل العدل العام للسلطة، فكأنما دورها الاجتماعي الرائد هو إنقاذ العدل من وضعه المختل بالعلاقة مع الأنثى ليتبين بعد ذلك إن الأنثى هي الضامنة للعدل وليس الاستغراق في المتعة الشبقية.
فالاستقرار الأسري مدعاة للعدل ضمن تجليات السلطة الذكورية، أما الوفاء الجنسي للأنثى "الزوجة"هو دعوة لإعادة إنتاج المجال الأبيسي واستمراره وهنا يعود نص الف ليلة وليلة لطرح المُضمر، طرح هيتيرية المجتمع الأميسي" ماتريياركا".
بهذا فالتطهير الأخير لشهريار ما زالت الحبكة الأنثوية تحيكه على شكل "خلافة" "إنجاب" لهذا يتبين أن العمق المأساوي للخيانة الزوجية يقابله العنف البلاغي لاستمرار السلطة الذكورية.
"إذا كانت شهرزاد تنجو من الموت بعد أن تحكي كل ليلة قصة ، فلأن نصها يفتق الهذيان الابيسي ،يصعده إلى وعي روائي.إذ تبين كيف يمكن إنتاج الحكايات، " فالموت ومغادرة الحدود هما، بالفعل، شيء واحد"، كما يقول جورج باطاي. إن عذرية شهرزاد وهي تذوب في جنون السلطان، تفتح إمكانية كتابة مضاعفة، إحداها منشورة في الحرم الأبيسي، حيث الدم، والأطفال، والنظام الطبيعي المتعارف عليه، وثانيتها كتابة تتبع تمددا غريبا للحكاية ينسينا القيم والصور الأبوية. وضمن هذا التكرار للصور ينعقد وينحل الوضع الشبقي، بواسطة شهوة عنيفة ومتقنة، ولكنها مع ذلك تغري بالذوبان فيها" (7).
الطفرة التاريخية نحو المتحول.
عاش المجتمع العربي قوة تغلغل المنظور اليهودي للمرأة وخاصة الجاهلي الذي دأب على وأد البنات الشيء الذي يجعل هذا المجتمع ومن خلال انغلاقه الحضاري يعبر عن هذا التغلغل للإسرائيليات كخلفية ثقافية سائدة جعلت من المرأة حريما مرتبطا بالخيمة وفضاء الاحتشام وقد أجازت اليهودية كديانة انتشار هذا المعطى محملا بقيم محلية جاهلية وقد جاء في سفر التكوين أن اليهودي، "يملك على أولاده حق الموت والحياة، يقتلهم إذا شاء أو يقدمهم قربانا للرب"(8).
إن ولادة البنات كانت دائما وما زالت ترسباتها حاضرة حتى أن الوأد المعاصر اتخذ من التكنولوجيا سبيلا إلى ذلك (جهاز السونار) عبر طرق مختلفة لدى الشعوب، فالعصر الجاهلي المعاصر يتكيف مع نظام الأسرة الذي يسمح مثلا للصيني بولد واحد، حيث تمارس الأم داخل النسق الذكوري عملية الإجهاض مرات متعددة حتى تحصل على ذكر.أما باليابان فوأد المواليد الإناث أصبح شائعا " تأخذ (القابلة) ورقة مبتلة، وتسأل الأب بنظراتها عما تفعل وكانت تخنق المخلوقة الصغيرة غير المرغوب فيها ،إذا ما أومأ الأب برأسه موافقا.وكثيرا ما كان يومئ الآباء برؤوسهم" (9)
أما بالهند فتكاليف تزويج البنت مدعاة لكراهية حصول العائلة على أنثى يقول د. محمد بلتاجي " يقضي النظام الاجتماعي ( حتى اليوم ) بأن الزوجة هي التي تدفع المهر (أو الدّوطَة ) للزوج، مما يحمل أهلها عبئا كثيرا عند تزويجها، لذلك تلجأ كثير من الأسر الفقيرة إلى وأد الأنثى عند ولادتها أو بيعها لمن يحملها بعد ذلك على احتراف الدعارة "(10).
خرجت التعاليم الإسلامية من صدمة رفضها من قبل مجتمع يمتاز بعصبية قوية يلفها التماسك حول الأعراف والتقاليد، فهي وإن لم تذهب إلى التحرير الكامل لصورة المرأة داخل الأسرة العربية الإسلامية فقد قلصت من رحلة معاناتها وبذلك اعتبر حصولها على نصف حصة الذكر من حيث الإرث ﴿للذكر مثل حض الأنثيين﴾ الآية،اعتبرت آنذاك ثورة على المفاهيم التي كانت تخندق الأنثى في مكانة أقل من العبد مرتبط وجودها بالعار والمذلة والهوان ،فهي السِّبية والحريم حيث يرتبط بشخصها جملة المحاذير والآثام المسلطة على وعيها،فكان لمفهوم الأنصاص مجال حكَم الأنثى داخل المنظومة الإسلامية ( نصف شاهد، نصف دين...) ناهيك عن الأفضلية التي يمتاز بها النصف الأيمن من الجسم في مواجهة النصف الأيسر الذي خرجت منه حواء والذي خصته العبادات بطهارة "المستوى الثاني".
فالأوهام والأيديولوجية التي تتهم الخطاب القرآني بمسؤوليته عن تدني وضع المرأة غير ذي حجة إذا علمنا الوضعية الكارثية التي كانت تعيشها المرأة قبل نزول الوحي، وخاصة منذ تلقي عائلتها نبأ ولادتها وقد جاء هذا الوصف بسورة النحل حيث قال تعالى﴿وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون﴾ (11).
إن هذه التلاوين التي تُصبغ بها عواطف الأب الجاهلي من هذه "البُشرى" تعكس وظيفة الأنثى داخل الهرم القبلي الجاهلي وبالتالي تجسيدها لتدهور القيم الخاصة لقبيلتها يقول د.محمد بلتاجي " كان الأب الجاهلي يرى الأنثى تأكل ولا تقتل عن القبيلة، ويراها مصدرا لجلب العار له حين تُؤسر من العدو فيفترشها آسرها عنوة واقتدارا أو طواعية واختيارا، فيعير الأب وقبيلته بها" (12).
لكي ينصف التاريخ هذه النقلة النوعية للديانة الإسلامية في باب حقوق المرأة نحيل البحث على المجتمع الأوربي وخاصة، سنة1805م بالضبط أباح القانون الإنجليزي بيع المرأة من طرف زوجها مع تحديده المُسبق للثمن، بل هناك من باع زوجته أقساطا بإيطاليا. لهذا فالإسلام لاعلاقة له بتدني وضعية المرأة بالمجتمعات الإسلامية.
المرأة المغربية بين السوسيولوجي والسيميولوجي من خلال الوساطة الاستشراقية الاثنولوجية: جاك بيرك.
ينتقل البحث في وضعية المرأة المغربية كجزء من الكل العام بين حقلين معرفيين، من حيث تناولها كموضوع وفاعليتها كذات بالوسط المغربي.فمن خلال الوساطة الاستشراقية الاثنولوجية التي تطرقت لدراسة المجتمع المغربي نجد المستشرق الفرنسي جاك بيرك الذي تنبه من خلال بحثه الاستشراقي إلى أن الموضوعية تقتضي دراسة المجتمع المغربي من خلال مكوناته هو حيث اكتشف ج. بيرك عمق تجدر الأعراف والتقاليد وابتعاد المناطق البربرية عن المفاهيم الشرعية (منطقة الشرع) يقول جاك بيرك "كنا ندرك الإفريقي الشمالي من خلال مقارنته بنا في حين أنه كان يجب إدراكه من خلال مشاكله الخاصة وتعقده الداخلي وفي كلمة واحدة، يجب فهمه كما يفهم نفسه، أي يجب اعتبار تأويلاته الخاصة" (13)
نجد المجتمع المغربي آنذاك، ينقسم من الناحية الشرعية إلى حاضرة تغلغلت فيها الديانة الإسلامية، وإلى بادية بربرية يتجاذب صراع أفرادها مع المخزن السلطاني حيث يسود ضعف الوازع الديني وسيادة الأعراف المحلية التي تنهل من خام تلاقحها بالحضارات التي عـبرت الأرض المغربية عبر العصور، وخاصة النظرة المتعلقة بالمرأة البربرية، هذا بالإضافة إلى تجدر وسيطرة المنظور الفقهي على مكونات العقلية المغربية التي عاشت ومارست السيبة كتجليات لسلطة العرف يقول جاك بيرك في هذا الإطار: " للمغربي عقل فقهي، وأن الفقه أصبح في المغرب منذ زمن بعيد فنا متينا، الفن الذي عبر العرق من خلاله عن نفسه بصدق"(14).
لاشك أن تبعية البحث السوسيولوجي في المغرب للإدارة الاستعمارية يعني حضور الأيديولوجي في صميم البحث العلمي هذا الحضور من جهة مؤطر للبحث ومن جهة أخرى حضور مشوه للواقع.
وقد جسد جاك بيرك النظرة الموضوعية كثاني عمل سوسيولوجي له حول البرابرة في كتابه"البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير" تميزت أبحاثه فيه بأنها لا تقبل الاندماج بسهولة في الايدولوجيا البربرية الكولونيالية فمن أهم الإشكالات التي عالجتها هذه الدراسة العميقة علاقة العرف بالشرع حيث يرى جاك بيرك أن تلك العلاقة لا يمكن أن تخضع للنمذجة والتوحيد أي أنها تتغير بتغير المناطق البربرية حيث لا وجود لقبيلة بربرية ينعدم فيها الشرع.
فبالإضافة إلى حضور المرأة البربرية المتميز بالشعر الأمازيغي "تمديازت"كأنثى وحبيبة يتجسد حضورها الفعلي انطلاقا من بعض المصطلحات التي تصف الرجل بأوصاف تضعه اقل من رتبة المرأة مثل "أمحارس" "أحراث" والتي تضعه على الهامش باعتبارها السيدة المالكة والمتحكمة والمسيرة وانطلاقا من الدور البدائي الذي يحيط بإنتاجيته "الرعي".
فمن خلال الثنائيات (حاضرة/ بادية)، (منطقة الشرع/ منطقة العرف)،(المنطقة السلطانية / منطقة السيبة) حيث تشكل هذه الثنائيات الضدية مجتمعة ثنائية بحدود علاقاتها التناقضية(إيمان/لا إيمان)، لهذا كان الشطر الثاني من الثنائية يقترب كمفاهيم معاشة من الطابع الأميسي لضعف تغلغل الإطار الــديـني بالمنطـقة والـتي كانـت ترفـض الاحتكاك بالـشـطر الأول باعـتـبـاره( الحاضرة، منطقة الشرع، المنطقة السلطانية) جسما ضرائبيا يشكل التعامل مع قوته الرادعة المتجسدة في "المحلًة" التي يرسلها السلطان لتطويع وتطويق " منطقة السيبة" منهجية الأخذ والرد لبناء تطورها داخل كينونتها وتواجدها في الزمان والمكان.
المنتوج الجنساني المغربي لابن عرضون.
أما على المستوى الوثائقي ومن خلال الإنتاج المحلي على المستوى الفقهي نجد الفقيه (أحمد ابن عرضون)1556م- قاضي شفشاون - الدولة السعدية- وتدخلاته لتحديد العلاقات بين الرجل والمرأة على كافة المستويات زواج ، طلاق، تعدد..من حيث مساواتهما، من حيث اختلافهما لتحقيق معادلة إنسانية في اتجاه بناء مجتمع سليم على المستوى الكمي تسوده علاقات تعاقدية تتساوى فيها مصالح الطرفين على مستوى تداخل نصوص الشريعة وتركيبتها فأصبح التساؤل عن المرأة سؤالا مركبا يحيل قطب الاهتمام نحو الفقه الذي وجد صيغته الاجتهادية عند غير المتأخرين من الفقهاء كعقلانية ممكنة ارتبطت بالحاضرة (مكان الشرع)، حيث يتساءل جاك بيرك عن ثنائية جد ممكنة،(فقه/ مدينة)، ليحيل التساؤل لثنائية متخفية ذات العلاقة التناقضية ( لافقه/ بادية)،" هل تعني هذه المقاربة أن الاعتماد على الفقه في بـناء مـوضوع المرأة التقـليدية لـن ينـتج عـنه سـوى خطاب خاص بالمرأة الحضرية ؟ ألا تتحقق قيمة القول الفقهي كشهادة سوسيولوجـية إلا في المديـنة، باعتبارها - مكان الإيـمان، ومـكان الـشرع-" (15).
وقد تم العثور على وثائق بالمرحلة السعدية تنص على أن المرأة قد أثبتت بعقد نكاحها حقها في التمليك والصداق والمؤخر وحقها في تطليق زوجات زوجها في حالة التعدد..حيث أدى الانكباب على الشهوات والانعكاسات الفكرية- الميتافيزيقية والسيكولوجية التي ولدها الشعور بقرب" الساعة"( السنة 1000 الهجرية، آخر الزمان) حيث "تلاشت غيرة الرجال على النساء، ووقع الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة، وشهدت الأعراس مناكر متعددة، من الممكن القول بأن الشعور بقرب الساعة دفع بالمجتمع المغربي آنذاك إلى سباق ضد الموت تمثل في الانكباب على الشهوات" محمد حجي "الحركة الفكرية في المغرب في عهد السعديين".
وقد تطرق احمد بن عرضون إلى فتوى صنفته من ضمن فقهاء البدعة حيث تم تكفيره لفتواه الجريئة التي خالف فيها فقهاء عصره وشذ عن العقل السائد، فقد كان" يرى أن المرأة في البادية يجب أن تقاسم الزوج فيما ينتج بينهما من زرع وضرع"، "مقنع المحتاج في آداب الأزواج". كما يقول ذ.سعيد أعراب " قد وقفت له على فتوى - ولعلها بخط يده- تذكر أن للمراة النصف في مال الزوج، إذا وقع طلاق أو وفاة بشروط شرطها وحدود حددها، وهي خلاف ما جرى به العمل في قبائل غمارة..."(16).
وقد طرح الدكتور عبد الصمد الديالمي عدة تساؤلات حول هذه الفتوى التي أدخلت ابن عرضون في مصاف منتجي الفتوى من أعماق السوسيولوجيا يقول: "هل ترتكز هذه الفتوى على اعتبارات عرفية وتاريخية خاصة تعطي للسوسيولوجيا مكانة بارزة في إنتاج الفتوى؟ وبالتالي، يتحول إصدار الفتوى إلى عمل مشترك بين الفقيه وعالم الاجتماع؟ وعلى كل، لابد من الاعتراف بوجود عالم الاجتماع كامن في شخصية الفقيه ؟ هل تجوز الفتوى بغير المشهور؟ وهل تؤدي الفتوى بالضعيف أو بتقنين العرف إلى البدعة؟ أو إلى الخروج عن المذهب ؟أو إلى الخروج عن الإسلام؟ وفي هذه الحالة، من له الحق في احتكار الحقيقة الإسلامية؟" (17).
مقاربة السيميولوجي داخل السوسيولوجي.
هذه المقاربات"السيميو- سوسيولوجية" وان توفقت في إبراز وتحديد بعض الإشكالات يبقى أن دراسة وضعية المرأة المغربية وخصوصا بالبادية ينبغي أن يخضع للتصورات المنطقية لا للتحديدات الميثولوجية المبنية على تصورات عاطفية، هناك حضور الإشكالات البنيوية بثقافتنا والتي تجعل من المرأة نفسها هي المدافع الرسمي عن وضعيتها المتخلفة..
إذن ما هي حدود تفكيك هذه الرؤية في غياب فضاء نسبي لاستعمال آليات التحليل الاجتماعي؟.
إن الغيابات كثيرة بالبنية التقليدية للوسط المغربي، غياب وعي تام بآفاق الطرح الإشكالي، حضور الأمية المتفشية بشكل واضح بمجتمعنا وخاصة التي تتعلق تتعلق بالمرأة التقليدية بالوسط القروي.
غياب بنيات تحتية لتشجيع تمدرس الفتاة بالوسط القروي، على سبيل المثال لا الحصر تواجد الداخليات التي يرجوها الأب الذي يمثل الذكر العربي سلوكا وعقلية لتكون "الداخليات" الأدرع الممتدة للأسرة خارج البيت، من حيث أن الأب لا يودع لدى المؤسسة الداخلية فتاته ككائن بل يضع بكارة وشرفا، تقول سيمون دي بوفوار في هذا الإطار:"اكتسبت البكارة قيمة أخلاقية دينية غيبية" (18).
أما الانغلاقات فكثيرة حضورها القوي يتجلى في التصورات الشعبية التي يضفيها مجتمعنا على المرأة من حيث حضور المثل الشعبي بكل قوته " للمرأة خرجتان واحدة لبيت زوجها والثانية للقبر، فالحجاب وأد مواز لعملية الدفن يتم تجريدها من عناصرها الموضوعية همت تاريخيا تحديد مواقع شبقية من تاريخ الذكورة العربي.
فنجد بمجتمعنا حضور المصطلح الذي يشكل حضور وعي مثل "باب الدار " " قاع البيت" "اللثام" وهي كلها فضاءات تغلق على جسد المرأة كجسد أنثوي لا يفتح إلا للزوج الذي يستمتع بهذا الفتح جنسيا والمَحرَم الذي يكون صلة وصل بين الخارج كثقافة للمرأة تنهل منها وهي غالبا ثقافة الرجل الذي يرى الوقائع بأُحادية المنظار، حيث يشكل" اللثام" وسيلة غلق أخرى داخل الفضاءات المفتوحة.
إن بعض التعبيرات التي يغلب فيها تجسيد المجال مثل" صدر البيت"،" فم الدار"، و الأعضاء الجسدية المسقطة على المجال الحضري العربي الإسلامي أعضاء مُجنَّسة أو قابلة للتَّجَنْسُن، فبالفعل هناك انتظام سيميائي بين الرأس والفم والصدر وهذا الانتظام هو من المذكر نحو المؤنث.
"راس الدرب" هو مكان المراقبة لمن يدخل الدرب والمراقب هو الذكر ،هو انتظام سيميولوجي مجالي من الخارج نحو الداخل يمر عبر الفم كحد فاصل بين فضاءين، فالفم : نقطة تبادل لسني (الكلام)،تبادل بيولوجي(المضغ) وتبادل جنسي (قُبلة) ، إن" فم الدار" هو المعبر إلى عالم المرأة، مكان عبور في اتجاهين (دار /شارع)"افتح الباب وادخل إلى الشارع" وقد قال العالم النفساني كارل ابرهام "الإنسان لا يكتفي بإحياء الأشياء بل يجَنّسُها" وقد نستخلص من هذه النسقية الجنسانية طرح السؤال على المجال ،أليس للدار فرج كما للمرأة؟
إن المصطلح السيميائي "قاع الدار " يأخذ من جسم المرأة مكان الإثارة الجنسية كما يفيض المصطلح "قاع" على حدود تركيبية اللغة العربية من خلال قوة اللهجة المرتبطة بلذة النص ومتعة الاكتشاف.
إن فضاء اللغة الجنسية فضاء عائلي يستعمل فيه المذكر إسقاط الجسد على المجال ليصبح المجال بدوره حرمة وجب تحصينه كي لا يمس، فالمنطق الباتريركي هذا استعمل الحجاب لتحصين الملكية العائلية كما استعمل زواج الأقارب (ابن العم) في السابق كتحصين متناغم مع دلالة انغلاقه. هذه مواضيع للبحث لازالت حاضرة إن على مستوى المدينة بالأحياء القديمة كما على مستوى البادية.
فجل الأمثال الشعبية تعيد إنتاج علاقة الرجل بالمرأة خاصة ما يتحدد من توجيه وتلقين التجربة الباتريركية للجيل اللاحق، هذه القوة حاضرة بالمثل، "ظل راجل ولا ظل حيطة".
فالمثل الشعبي قد رسم تقاسيم صورة المرأة ضمن ثنائيات ضدية يتمازج ضمنها السلب والإيجاب كتعبير عن مزاجية العواطف التي تحكم المثل الشعبي من حيث القبول بالمرأة كجسد للاشتهاء وبالتالي فهي "خير"، حيث جاء في المثال التالي:"المرأة عمارة ولو كانت حمارة ".
أما تحديد مكانتها كسلب فهو دلالة على مدى انتهاء الرجل من جسد الأنثى بالإشباع الجنسي وبالتالي النبذ النفسي لكينونتها الإنسانية كما جاء في المثل الشعبي التالي: "مسمار في الحيط ولا امرأة في البيت" وقد ذكر الأستاذ علي أفرفار الأسباب النفسية والاجتماعية التي شكلت الوعي برفض المرأة والرغبة في التخلص منها حيث قال "لاشك أن أساس هذه الرغبة يكمن في العلاقة التي أقامتها الثقافة الشعبية بين كرامة الرجل والبكارة، حيث تمثل المرأة موضوعا مخيفا يتوجب على الرجل التخلص منه بسرعة إذا هو رغب في صيانة مركزه ومكانته الاجتماعية" (19).
أما الثنائية ( إنجاب / لا إنجاب) فيمكن تصنيفها ضمن الثنائيات التناقضية حيث نجد أن العقم يمكن أن يكون الرجل سببا في حصوله وهو خاصية مشتركة بين الجنسين، كما أن الإنجاب الذي يأتي بالأنثى فهو داخل المخيال العربي بمثابة (لا إنجاب) أي عقم على مستوى انتفاء استمرارية وجود حامل لاسم الأسرة من الذكور.
أما الثنائية ( بكر/ ثيب) فيمكن التطرق إليها من خلال الثنائية التناقضية التالية(بكر/ لا بكر)،( ثيب /لا ثيب) وقد تشترك كل من الزوجة والأرملة والمطلقة في انتفاء البكارة عنهن تصبح فيه البكارة رمزا لقيم العفة والطهارة وعدم حصول الجسد الأنثوي على تجربة جنسية تجعل ميدان الفحولة قابلا للصولة في تضاريس الكشكول السيكولوجي للحضارة الذكورية.
فالتراتبية الاجتماعية تجعل البكر في الهرم القيمي تليها المتزوجة والأرملة والمطلقة التي يعتبر رفضها من طرف (ذكر ما ) عافها "هجالة" ينعكس تشردُم وضعيتها على قيمة منتوجها "الحضائني" كما جاء في المثل الشعبي الذي يقول "الهجالة ربات عجل ما فلح ، ربات كلب ما نبح"، هذه الوضعية السُبة لن تفارق(الثيب- مطلقة)إلا بانتقالها إلى عصمة رجل.
هكذا نجد أن مصطلح"ثيب" لا يحقق الثنائية التي وضعها الباحث من ضمن مؤشرات اختيار المرأة المناسبة، كما لم تتحقق كينونة المرأة إلا من خلال المذكر الذي عبرت عنه الوثائق الأولى للنص العدلي الذي كان يعقد "عقد النكاح" بصيغة المذكر هكذا "لقد نكح فلان فلانا"كناية عن قيمة التنشئة التي تربت عليها الفتاة من حيث المرجع:المحمول الذكوري الذي تشبعت به في تربيتها يقول المثل "بنت الرجال ولو بارت"، وقد حدد هشام شرابي انطلاق هذا المعطى لدى الوعي العربي بحضور قوة القالب الحضاري للمجتمع يقول "وهدف كل مجتمع تجاه كل طفل أن يصهره نفسيا وذهنيا ليطابق القالب الحضاري لذلك المجتمع"(20).
إن أزمة المرأة هي أزمة فكر وثقافة قبل أن تكون أزمة واقع عاشته المرأة خلال معاناتها كإشكال تاريخي عصف بمكوناتها الذاتية نحو التحرر وانفتاح امكانياتها على أرض الواقع، كما أن قضية تحرر المرأة هي دعوتـهـا أن تغـزوَ الجانـب المُعـتم مـن انغـلاق الرجـل على تحرره تـقــول د. سلوى الخماش في هذا الإطار، "ما زال على المرأة دور كبير في تغيير مفهوم الرجل عنها، وفي تصحيح أفكاره" (21).
هوامش
1-انظر التوراة، سفر التكوين، الإصحاح الثالث
2- المرجع السابق.
3- التوراة،التكوين،الإصحاح الثالث،الآية22-24.
4- مجلة العلوم الإنسانية العدد4-صيف 2001م جامعة البحرين، ص:359.
5- مجلة العلوم الإنسانية ،جامعة البحرين، العدد 3، شتاء 2000، ص:79.
6- نفس المرجع السابق ص:79/80.
7- د.عبد الكبير الخطيبي "الاسم العربي الجريح" دار العودة بيروت الطبعة الأولى 1980،ص:120.
8- سفر التكوين الإصحاح 42 الآية 37.
9-" مكانة المراة في القرآن الكريم والسنة"- حقوق السياسية والاجتماعية والشخصية للمراة في المجتمع الإسلامي- ، د.محمد بلتاجي ،دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة مصر،الطبعة الأولى 2000.ص:84
10- القرآن الكريم سورة النحل الآية 58-59.
11- نفس المرجع السابق (10) ص:81.
12 - Problegrave;mes initiaux de la sociologie juridique en Afrique du nord
1953p144-studia islamiquE -13- Essai sur la meacute;thode juridique Magribine" p113 1944 rabat
14- نقلا عن الدكتورعبد الصمد الديالمي "المعرفة والجنس"-من الحداثة إلى الجنس- الناشر عيون المقالات دار قرطبة للطباعة والنشر الدارالبيضاء 1987 ص:56.-57.
15- سعيد أعراب :"ابو العباس أحمد بن عرضون" ، جريدة الميثاق السنة الثالثة عدد49 فبراير 1964.نقلا عن الدكتور عبد الصمد الديالمي ،"المعرفة والجنس" ص:106.
16- المعرفة والجنس، نفس المرجع السابق ص:106.
17- سيمون دي بوفوار ،"الجنس الآخر" ترجمة :محمد علي شرف الدين، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر ، بيروت 1979، ص:629.
18- مائة عام على تحرير المراة ،سلسلة أبحاث المؤتمرات/1 الجزء الأول ، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 23/28 أكتوبر 1999 إشراف د. جابر عصفور " صورة المرأة في الثقافة الشعبية...." علي أفرفار، الصفحة:629.
19- د.هشام شرابي ،مقدمة لدراسة المجتمع العربي ،دار الطليعة ،بيروت الطبعة الرابعة،1991،ص:73.
20- د. سلوى الخماش، المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف ، دار الحقيقة بيروت الطبعة الثالثة 1981،ص: 109.
* قاص وباحث من المغرب
22/12/