العلاقة ما بين الفأر وصانع القرار العربيّ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الفأر هو ذلك الحيوان الذي لم يستطع أن ينجو من المصيدة منذ عشرات الملايين من السّنين وحتّى اليوم. وصانع القرار العربيّ هو المخلوق الآخر الذي لم يقدر على تجنّب الوقوع في الفخاخ التي تنصب له طوال مسيرته التّاريخيّة، ومن هنا يكون الفأر أقرب الفصائل الحيوانيّة جينيّا إلى صنّاع القرار في الوطن العربيّ، أي أنّهم أبناء عمومته إن لم يكونوا بفضل اللّه إخوانا له من حيث التّفكير والتّدبير ومن حيث المصير أيضا.
يقول هربرت سبنسر إنّ الإنسان البدائيّ كان يرى شبيهه يدخل إلى كهف فتفترسه الحيوانات، لذلك تعلّم من التّجربة أن لا يدخل كهفا إلاّ وفي يده سلاح حجريّ يدافع به عن نفسه حتّى لا تتكرّر المأساة. أمّا الفأر، فإنّه يرى على الدّوام فئرانا أخرى تدخل الجحور وتفترس، ولكنّه يلج هذه المغارات بنفس الطّريقة ويلقى نفس المصير.
هذا هو الفرق بين الإنسان والفأر. الفأر غير قادر استخلاص الدّرس المستفاد من التّجربة المتكرّرة، والإنسان قادر على استثمار التّجارب والوعي بنتائجها المنطقيّة.
وتبعا لذلك، فلماذا يكون صانع القرار معاقا دماغيّا إلى هذه الدّرجة الفأريّة؟
للإجابة عن هذا السّؤال يجب أن نلجأ إلى علمي البيولوجيا والتّحليل النّفسيّ. فالمعروف في الأركيولوجيا الدّماغيّة أنّ هناك دماغين يشترك فيهما الإنسان مع بقيّة أعضاء المملكة الحيوانيّة، هما الدّماغ الغريزيّ والدّماغ الانفعاليّ. أمّا الدّماغ المعرفيّ، فهو دماغ يستأثر به الإنسان، وعمر هذا الدّماغ لا يتجاوز 150000 سنة، وهذا الدّماغ هو الذي يجعل الإنسان سيّدا على الأرض، قادرا على اكتشاف قوانين الطّبيعة وتوظيفها لمصلحته، قادرا على تدجين بقيّة الكائنات، أو على وضع قواعد محدّدة لتجنّب شرورها، بما في ذلك الكائنات التي لا ترى بالعين المجرّدة مثل البكتيريا والفيروسات.
والأهمّ من ذلك أنّ استعمال الإنسان لهذا الدّماغ وتغذيته بالعلم والتّجربة تجعلانه أقدر على تحصبل المنافع في خصوماته البشريّة مع أبناء جلدته، من أجل الهيمنة والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المواد الطّبيعيّة.
أمّا الإنسان الذي لا يجيد اسنعمال هذا العقل، فيكبت على نفسه الدّونيّة، ويعيش دوما على هامش الحضارات والمكتسبات العلميّة، ويكون فعله همجيّا وتكون ردود فعله بربريّة إزاء الإنسان المتحضّر، فينقلب سلوكه وبالا ينزل عليه أكثر مّا ينزل على خصمه.
ولنضرب على ذلك مثلا صارخا لا يزال ماثلا أمام العيون، وهو الطّريقة التي قامت وتمّت بها الانتفاضة الفلسطينيّة الثّانية. كان سبب هذه الانتفاضة المباشر هو زيارة شارون للمسجد الأقصى، فتنادت فصائل المقاومة الإسلاميّة للثّأر من شارون. وعندما نقول "الثّأر" نعني اشتغال الدّماغ الانفعاليّ بقصد "شفاء الغليل"، وهذا هو مجال الدّماغ الغريزيّ.
اشتعلت هذه الانتفاضة بدون النّظر إلى موازين القوى، وبدون إدراك النّتائج السّياسيّة التي ستترتّب عن ذلك، سواء على المستوى المعيشيّ الفلسطينيّ أو على المستوى الدّوليّ المتعلّق بالمناصرة والتّعاطف، وهو ما يعني استبعادا للدّماغ المعرفيّ.
وما هي النّتيجة بعد سقوط 5000 ضحيّة من الجانب الفلسطينيّ، وتدمير البنية التّحتيّة للأراضي المحرّرة، وفقدان السّلطة للأراضي التي استردّتها من فلسطين، وعودة الاحتلال المباشر على كافّة التّراب الإسرائيليّ، وتردّي الأوضاع المعيشيّة للشّعب الفلسطينيّ، وإقامة الجدار العازل؟
النّتيجة بعد كلّ هذا هي تراجع السّلطة الفلسطينيّة والفصائل الإسلاميّة لتستجدي من شارون نفسه حماية المسجد الأقصى من المتطرّفين اليهود، ولتستجدي الانسحاب من الأراضي التي أعيد احتلالها بفعل الانتفاضة الثّانية، ولتستدرّ عطف العالم حتّى يضغط على إسرائيل لوقف بناء الجدار.
لذلك يجب أن نتساءل : لماذا أهرقت كلّ هذه الدّماء وأزهقت كلّ هذه الأرواح؟ ولماذا كلّ هذا الخراب؟ أليس فقط من أجل شفاء الغليل القبليّ البدائيّ بواسطة الثّأر، عن طريق تفجير الحافلات والمطاعم، أي بتضافر الدّماغين الغريزيّ والانفعاليّ؟ هل نجد أيّ أثر للدّماغ المعرفيّ في هذا كلّه؟ وبعيارة أخرى : لماذا سقطنا في مصيدة شارون للمرّة الألف؟
وعندما نحاول أن لا نتشبّه بالفئران، ونحاول تقليد الإنسان في عقلانيّته، هل تعلمون ما الذي يحصل؟ إنّنا نسقط في العصاب البليغ. يقول فرويد إنّ العصابيّ والبدائيّ والطّفل يفكّرون عن طريق الإسقاط، يسقطون ما في أنفسهم من غرائز وانفعالات على الآخر. أي أنّ هذه الفئات الثّلاث تتصوّر أنّ ما في داخلها من أفكار وانفعالات وردود فعل هو عين ما في داخل الغير، أي أنّها لا تستطيع أن ترى الغير إلاّ من خلال ذاتها، لذلك فهي تتوقّع ردود فعل الآخر ميكانيكيّا وأوتوماتيكيّا كما لو كانت هي التي ستتّخذ ردّ الفعل, ولهذا السّبب فهي تخطئ دائما في استقراء الأحداث وفي ردّ الفعل لدى الآخر بناء على أفعالها.
وهذا ما حصل في حرب يونيو 1967، نتيجة لاتّهام حزب البعث جمال عبد النّاصر بالجبن في مواجهة إسرائيل. فقد حاول عبد النّاصر أن يثبت أنّه بطل وفارس لا يشقّ له غبار، فقام بإغلاق المضائق، وأجرى تظاهرة عسكريّة في سيناء، اعتقادا منه أنّ ردّ فعل دولة إسرائيل سيكون كما لو كان هو المستفزّ، أي سيعتبر تهويشا لا خطوة له. ولكنّ الحال أنّ إسرائيل اعتبرته إعلانا عن الحرب، وقامت بضربة استباقيّة حطّمت الجيش المصريّ في السّاعات الأولى من المعركة. وهذا يعني أنّ صانع القرار العربيّ إذا أراد أن يثبت أنّه أصبح أرقى من الفأر، وأنّ بإمكانه النّجاة من المصيدة، وقع في فخّ العصاب والبدائيّة، فيكون المصير واحدا وهو عدم استعمال الدّماغ المعرفيّ.
ولنضرب مثلا آخر نستقيه من مغامرات النّظام السّودانيّ في جنوبيّ وشرقيّ وغربيّ البلاد. هذا النّظام حاول رشوة الإسلامويّين نتيجة لفشله في التّنمية، باستمالتهم إلى جانبه كقوّة سياسيّة مهمّة، فأراد تطبيق الشّريعة الإسلاميّة على كافّة مواطنيه، بمن فيهم من المسيحيّين والإحيائيّين، فخسر الوطن كاملا لأنّ عجزه عن إقامة دولة عصريّة متسامحة وديمقراطيّة أجبره على محاولة تكرار دولة الرّسول في المدينة بمبعوث العناية الإلهيّة حسن التّرابيّ، الذي كان يعقد قران قتلى ميليشياته على حوريّات الجنّة كلّ يوم. وجرّ الدّولة السّودانيّة إلى إعلان الجهاد المقدّس على مواطنيها من غير المسلمين، وكانت النّتيجة الكارثيّة التي نراها اليوم وأصبح السّودان دولة لا سيادة لها على ترابها الوطنيّ ووطنا تحوّل إلى أشلاء متناثرة تستدرّ شفقة العالم من أجل الغذاء والكساء. وأصبح السّودان محكوما يقرارات مجلس الأمن وتحت رقابة الأمم المتّحدة، وما عاد لصانع القرار في السّودان من سيادة غير أن يقسم باللّه لشعبه المسكين أنّه ما زال قادرا على تحدّي العالم، وليس هذا القسم سوى قسم الولاء لسنّة الفئران، وقسم السّقوط في المصيدة.
والمثل الآخر هو عصابيّة وبدائيّة قرارات صدّام حسين السّياسيّة. فعندما غزا دولة الكويت، كان يعتقد بفعل الإسقاط أنّه سيكون رجل الخليج القويّ، وأنّ العالم سيأتي إلى خوانه طائعا وطامعا في النّفط الذي أصبح أكبر منتج له ، وأكبر مالك لاحتياطيّه في العالم، وأنّ أمريكا نتيجة لحربها الكارثيّة في الفيتنام لن تجازف بإعلان الحرب عليه لإخراجه من الكويت. أي أنّه حاول تقمّص شخصيّة صانع القرار الأمريكيّ، فأسقط عليه ما كان يمكن أن يفعل في نفس الوقت وفي عين الظّروف، واستنتج عقله المريض نتيجة لا منطق لها. وكانت المحصّلة أنّ أمريكا حشدت كلّ العالم ضدّه ودحرته بعد هزيمة الجيش الذي استخدمه بقرار انفعاليّ. ذلك اليوم كان إعلانا عن موت نظام صدّام حتّى وإن تأخّر دفنه إلى يوم 9 أبريل 2003. والعجيب أنّ صدّام حسين لم يكن فأرا في صنع القرار فقط، بل وفي مصيره أيضا، حيث تمّ القبض عليه في جحر كان يتقاسمه مع أبناء ذهنيّته من الجرذان البائسة.
ويمكن أن نسترسل في هذه الأمثلة العربيّة إلى ما لا نهاية له، وحتّى لا يملّ القارئ العزيز نتوقّف لنتساءل : هل عرفت جماجم صنّاع القرار العربيّ دماغا معرفيّا؟