كتَّاب إيلاف

املأ الفراغات واربح سيارة ليكسس

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كان (....) حين التقى (....) مسؤول محطة المخابرات في السفارة العراقية في (....) الشقيق، يحلم أن يعيش حياة مثل التي يعيشها عمر الشريف. صديقة شقراء تجلس الى جانبه، تنظر اليه ببلاهة وهو يلعب البريدج وسيجارة مالبورو في فمه، وفي يده كأس من الكونياك.
كان (....) يحلم بالسفر والتنقل من مطار الى مطار، وأن توصي شركات الطيران بمعاملته معاملة خاصة، وعندما يدخل بارات الفنادق الفخمة يجد من ينحني له باحترام، أو يدفع ثمن مشروبه المفضل.
كان (....) حين يسير في شوارع الحي يتخيل ان نظراته ستثير الرعشة في قلوب النساء، وان المعجبات سيغرقنه برسائل الغرام، لكنه تزوج أول عجوز صادفها في الطريق وسرعان ما طلقها لأنها لا تملك الثروة الذي كان يمني بها نفسه عندما وقعت عيناه على قلادتها ولاحظ الأساور الغليظة تطوق رسغ يدها اليمنى الغليظة هي الأخرى. لقد خدع، وخطف بصره بريق الذهب الزائف.
وقتها حمد الله كثيرا لأنه لم ينجب طفلا يضيف الى متاعبه المالية كلفة النفقة التي ستقتطع حتما من راتبه الهزيل كل شهر قبل أن يصارحه الأطباء بعد سنوات انه عقيم، وان آلته لا تصلح إلا للتبول.
كلما كان (...) يذهب للقاء مسؤول المحطة في مكتبه بالسفارة يخرج منه محملا بقناني الويسكي وخراطيش السجائر المستوردة وعلب حلوى الماكنتوش. وفي إحدى المرات فوجئ بالمسؤول وهو يدس في جيبه حزمة من أوراق خضراء قائلا: نريد منك ورقة واحدة فقط، ورقة مكتوبة بخط يدك عن (....). اننا نكاد نجهل أسباب عداءه للرئيس القائد حفظه الله، ورفضه المتكرر لتلبية دعواتنا لحضور مهرجان المربد، وفجأة توقف عن الكلام وراح يحدق بوجهه ليقرأ ردود الفعل. ابتسم (....) وأومأ برأسه علامة الموافقة ثم أدخل يده في جيبه يتلمس نعومة الأوراق الخضراء.
في اليوم التالي وصل (....) مبكرا الى السفارة الأمر الذي اضطره للإنتظار طويلا، فلم يكن يعرف ان الدبلوماسيين من أمثال (....) لا يتقيدون بساعات دوام محددة، أو يخشون محاسبة السفراء لأنهم هم من يراقب ويحاسب، ويجزي ويعاقب.
نهض (....) من مكانه في غرفة الاستعلامات بمجرد رؤيته (....)، وما أن ترجل من سيارته ذات اللوحة الحمراء حتى تقدم اليه بانحناءة تلميذ وناوله الورقة التي ظل يمسك بها بقوة طيلة فترة انتظاره. دعاه (....) لتناول فنجان من القهوة في مكتبه. اعتذر بشدة لأن عليه العودة الى مدرسته وإلا سيجلب عليه غضب المدير لا محالة.
استدعى مسؤول محطة المخابرات (....) وأمره بتشفير المعلومات التي سيمليها عليه وارسالها الى بغداد فورا.
جلس (....) يحول ما يسمعه الى أرقام وحروف:
الاسم: (...)
العمر: 29 عاما
المهنة: مدرس
النشاط الخاص: الصحافة والأدب
اللغات التي يجيدها: العربية و(....)
نقاط الضعف: حب المال والظهور والسهر وحيازة الكماليات
نقاط القوة: عمله الإضافي في الصحافة وعضويته في (....)
الحالة الإجتماعية: مطلق
الملاحظات: صالح للعمل، والرقم المقترح له (....)
ومنذ ذلك اليوم من عام (....) بات (....) يعرف برقمه الذي يرفق مع ما يرفعه من تقارير.
فوجئ زملاء (....) في جريدة (....) وهم يتابعون اهتمامه الجديد بأخبار العراق وحواراته مع الوفود الثقافية العراقية التي كانت تتوالى الواحدة بعد الأخرى، وغياب الأخبار التي تصلهم من الوكالات والمصادر الخاصة عن جرائم النظام العراقي وممارساته القمعية ضد الأقليات والمعارضين، وزادت دهشتهم حين استبدل سيارته القديمة بأخرى جديده وانتقاله من دار العائلة الى شقة أنيقة يقيم فيها بمفرده. ولم يخف البعض دهشته من أناقته المفاجئة وحرصه على ارتداء بدلات تحمل علامات تجارية شهيرة وقمصان موقعة، بينما راح آخرون يتهامسون بخبث: هل عثر هذا المحظوظ أخيرا على العجوز الثرية؟
في هذه الأثناء نشبت الحرب العراقية الإيرانية، وفي معمعانها جاءت تعليمات عاجلة من بغداد بالبحث عن مترجمين موثوقين لمرافقة الوفود العسكرية الى عدد من العواصم الأوربية لعقد صفقات سلاح. أبرق مسؤول المخابرات المتبجح بسرعة: هل نسيتم الرقم (....)؟.
وعلى حين غرة وجد (....) نفسه يركب الطائرة باتجاه (....) وينزل في فندق خمس نجوم من النوع الذي كان يظهر فيه عمر الشريف محاطا بالشقراوات. ترك ترتيب أشياءه وتوجه صوب نافذة الغرفة المطلة على نهر (...) فتحها، باغتته نسمة ممزوجة برذاذ الثلج. وقف لدقائق مشدوها يتأمل حركة السير. شعر بحرقة في حنجرته. أحكم إغلاق النافذة جيدا، وعاد يستمتع بالدفء.
طالت الحرب، وازدادت الحاجة للسلاح، فاقترح مسؤول المحطة على بغداد أن يقيم (....) في (....) عاصمة الدولة الأوربية الكبرى صديقة العراق والعرب على حد وصفه، بدل أن يثير اللغط والشبهات بذهابه وإيابه. وهكذا، حزم (....) حقائبه، ولكن قبل أيام من موعد السفر جاء الى المسؤول يخبره ان زوجته أبلغته انها ليست على استعداد لأن تفقد وظيفتها المرموقة. كان (....) قد تزوج قبل شهور قليلة من خبيرة لها ملامح عجوز هربت من بلدها (....) الذي تشتعل فيه حرب أهليه، وبسرعة عثرت على وظيفة تعادل مرتبه أربع مرات. ظل المسؤول صامتا يفرك يديه بعصبية، وبعد لحظات نطق بالكلمة الذهبية: سنتصرف.
استقر (....) في أحد أرقى أحياء (....) بعدما اطمئن الى حصول زوجته التي لها ملامح عجوز على واحد من المقاعد المخصصة للعراق في منظمة (....) الدولية.. وكادت أخباره تنقطع لولا انعقاد مهرجان المربد كل عام، إذ بات المناسبة الوحيدة التي يظهر فيها محاطا بالمرافقين، فيما ينتظره السائق الخاص عند باب الفندق. وفي كل زيارة لبغداد كان يأتي عبر عاصمة مختلفة حتى أحصيت له 45 عاصمة جابها في زياراته العديدة.
كان أصدقاء (....) حين يدعوهم الى بيته يعودون بحكايات تشبه حكايات ألف ليلة وليلة. موائد باذخة وخمور من أغلى الأنواع ونادل آسيوي يطوف عليهم بالسيجار الهافاني.
منذ عامين تقريبا عاد (....) الى بلده وحيدا، وهو يمضي الآن أيامه الرتيبة بالكتابة عن زهرة لوتس كان زرعها في دارته في (....). يتمشى قليلا كل مساء، وحين يشعر بالملل يجلس في مقهى منزو يحدق في كأس القهوة المرة، ويشتم بصوت مسموع بوش والشيعة والأكراد.

redalaraji@yahoo.ca

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف