كتَّاب إيلاف

الاستفتاء على طريقة أمّا نعيمة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تندر المصريون على رئيسهم الراحل أنور السادات بنكات كثيرة، منها واحدة قالت إن السادات وقف أمام البرلمان عقب أحد الاستفتاءات قائلاً بلهجته المسرحية الشهيرة : "أشكر الذين قالوا نعم، وأشكر الذين قالوا لا"، كان هذا ما حدث بالفعل، أما النكتة فتمثلت في الإضافة الشعبية التي لا يزعم أحد أنه صاحبها، فهي ملك مشاع شأن كل ما تجود به القريحة الشعبية، التي نسبت للسادات ما لم يقله، وهو "وأشكر أمّا نعيمة مرتين، لأنها قالت نعمين"، في إشارة إلى الأغنية الشعبية التي كانت ذائعة الصيت حينئذ، وتقول كلماتها على لسان صبية تتدلل ـ وفي رواية أخرى "تتقصع" ـ مخاطبة أمها "أمّا نعيمة"، فترد الأم بدلالٍ أكثر احترافاً : "نعمين"، فترجوها البنت الدلوعة ـ وبعبارة أدق "المايصة" ـ قائلة : "خللي عليوة يكلمني"، بينما يبدو أن "سي عليوة"، جار عليه الزمان الأغبر، وأنهكه اللهاث وراء لقمة العيش، أو تعلم الأدب على المذاهب الأربعة في منتجع "لاظوغلي ـ لاند"، فلم يعد ينصت للدلال، ولا يولي نعيمة أو أمها أدنى اهتمام، وهي التي تظنه "سايق الدلال"، بينما الرجل منسحق ومهان على مدار الساعة، إذ يضطر إلى نفاق رئيسه في العمل، ومداهنة أمين الشرطة في الشارع، والتحايل على الجزار والبقال وأم العيال والجيران، فضلاً عن أمه شخصياً وحماته بالطبع، ولم يعد يسمع إلا أنصاف الجمل، أو بتعبير أدق، ما يروقه من كلمات، وهنا لا تجدي معه الكبسولات "الزرقاء الساحرة"، أو "الصفراء الساحقة"، فهذه أو تلك، وإن أثبتت نجاعتها في "إحياء العظام وهي رميم"، غير أن أيّاً منهما لم تفلح ـ كما لم يعد بذلك صانعوها ـ بأن تسهم في تدفق المشاعر الرومانسية، أو أن ينساب من فم "سي عليوة" الكلام الذي ترغب "بنت نعيمة" في سماعه .

ويبدو ـ والعهدة على شيطاني قاتله الله ـ أن النظام السياسي المصري في وضعه الراهن، بلغ من الإسفاف والإفلاس والشيخوخة والخرف ـ ويمكن للقارئ أن يضيف ما لم تسعفني به الذاكرة من صفات أسوأ ـ إلى حد أنه راح يفتش في مخازن "القطاع العام"، ودفاتره القديمة، فلم يجد سوى نظرية "أمّا نعيمة"، التي تتدلل و"تتشحتف" من أجل أن يكلمها "سي عليوة"، الذي تطلب منه "نعيمة"، أو الحكومة، أو الحزب الحاكم، أن يقول لها "نعمين"، واحدة للتعديل "التفصيل"، الذي وضع معدوه نصب أعينهم كيانات وأحزاباً وشخصيات بعينها، ونعم ثانية للحزب وللسيد الرئيس صاحب "الضربة الجوية"، مع وعد بأن يكون هذا هو "آخر الاستفتاءات"، وبعدها يدبرها الله، ويلهم قرائح السادة ذوي الحصانات رؤساء اللجان في مجلسنا الموقر "سيد قراره"، لابتكار أفكار جديدة تناسب ظروف المرحلة، شريطة أن تنبع من "الداخل" .

ورغم أن الحكومة المصرية تتفوق على نظيراتها في الشرق والغرب بأنها تعرف عن كل مخلوق من رعاياها كل شئ، منذ أن كانوا عشرة ملايين، حتى أصبحوا زهاء ثمانين مليوناً، إلا أنها مع ذلك تصّر على افتراض الغباء بشعب، هي ـ أي الحكومة ـ تدرك جيداً أن الغباء ليس من عيوبه الكثيرة الأخرى، فهو شعب لمّاح و"خلبوص"، يوهم محدثه بأنه غبي وساذج، بينما هو "فاهم كل حاجة"، ولكنه في حالة تعجز الفصحى عن وصفها كالعامية حين تقول "سايق الهبل على الشيطنة"، وحين يخلو المصري لنفسه، أو لشيطانه، يبدأ في ممارسة هواية إطلاق النكات والتعليقات "الحريفة"، فهو يهتف للحكومة وحزبها ورجالها ونسائها بحماس يكاد من لا يعرف الأمر أن يصدقه، لكنه يحمل في أعماقه استخفافاً لا حدود له بهذه الحكومة، ويتندر على غبائها، وإن كان لا يكف عن الاستعاذة بالله من بطشها، ويتغنى في لحظات الصفاء والمكاشفة مع بديع خيري، وسيد درويش بشعار مصري عتيد "حدّ الله ما بيني وبينك، غير حب الوطن يا حكومة" .

الوطني والعربية
تسمرت عيني على شاشة فضائية (العربية) وأنا أشاهد إعلاناً دعائياً للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم منذ تأسيسه وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، يدعو فيه عموم المصريين إلى الثقة بأنفسهم وبرموزهم الوطنية وقضائهم، وألا يخدعوا في ما يروج له الحاقدون ـ أمثالي ـ من لغو عن التغيير والإصلاح، وما أصابني من وجوم ليس سببه أن الحزب "الوطني"، اكتشف بسرعة ودقة حقيقتي، لكن ما أذهلني أن الحزب فاته أن الشعب المصري "الصديق" سيتساءل ببراءة : كيف يدعونا الحزب إلى الثقة بأنفسنا ومؤسساتنا، بينما لا يثق هو بنا ولا بإعلامنا صاحب الريادة و"السماوات المفتوحة"، ويتوجه إلى دبي ليخاطبنا في حارة "السكر والليمون" أو في "نجع البطيخ"، أو "كفر الجاموس" أو حتى "مارينا" ؟
أما من وصلوا إلى مرتبة "الحاقدين" ـ كمحدثكم البائس ومن يلفون لفه ـ فسوف يطرحون مزيداً من الأسئلة الملغومة، كالاستفسار عمن دفع ثمن هذه الإعلانات، ومقابل ماذا؟، مع العلم أن دقيقة إعلان على العربية تساوي قيمتها نحو نصف ساعة من الإعلان على الفضائية المصرية، وبالطبع سيرد "كمسارية الحزب" ممن أطلقهم على خلق الله عبر الصحف والفضائيات لعقر كل من تراوده شياطينه بمثل هذا السؤال، بأن هذه الأموال من موازنة الحزب التي يحصل عليها من تبرعات أعضائه، والتي تخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، وإياك ثم إياك أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فتشكك في أجهزتنا الرقابية ونزاهتها وشفافيتها وخبراتها و.. و..

ولما كان الحقد يقود صاحبه إلى المهالك، فسيذهب الحاقدون والخبثاء أمثالي إلى السؤال عما إذا كان الحزب "الوطني" فقد ثقته بالفعل في الإعلام المصري، وتوجه بقضية محلية وشأن مصري خالص إلى دبي، وإنه اعترف بالفعل في الغرف المغلقة بفشل "المنظومة الإعلامية"، التي طالما تباهى بها صفوت الشريف، ومن هنا، ولإدراكه أن الأمر جلل، ولم يعد يحتمل المكابرة، فقرر أن "يجيب من الآخر"، ويلجأ لمدينة الإعلام في دبي، بدلاً من مدينة الإعلام المصرية، التي كادت أن تتحول إلى "مدينة" أشباح"، مقارنة بشقيقتها في دبي .

لكن ـ وآه من لكن وأخواتها ـ لو كان الأمر هكذا، لتوجه الحزب الحاكم إلى الدوحة، فالجزيرة بصراحة لا مجال للمكابرة فيها لم تزل سيدة الموقف الفضائي الراهن، رغم كل ما يوجه إليها من انتقادات وتحفظات واتهامات، ولا يبدو أن "العربية" حسمت الأمر لصالحها، ليس لأن القائمين عليها أضعف مهنيا، أو أقل ثراء وخبرة، لكن ببساطة لأن هناك ملفاً أو لنقل عدة ملفات لم تزل تصنف تحت لافتة "المسكوت عنها"، التي يجري إما تجاهلها أو معالجتها بحذر ودقة تراعي عدة اعتبارات وتوازنات تشبه السير على خيط دقيق، بينما الشأن القطري ـ الذي أطمئنكم أن "الجزيرة" تراعيه أيضاً ـ فهو من ضآلة الأهمية بمكان لا يشغل بال الكثيرين، من هنا فليس لدى الجزيرة ولا الواقفين على شاشاتها أو خلفها ما يخشون عليه، وليس هناك من خطورة أكثر من معركة مع شخص يعرف مسبقاً أنه ليس لديه ما يخسره، وبالتالي فإنه يدخل المعركة بكل ثقة أنه ليس في الإمكان أهون مما هو كائن .

نعود من قطر ودبي والسعودية إلى همنا الثقيل في مصر المحروسة، وحزبها "الوطني" جداً، الذي نسعى معاً للتفكير بصوت عال حول أسباب لجوئه إلى شاشة العربية، وهو الذي يمتلك عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية، الأرضية منها والفضائية، ناهيك عن الصحف والصحفجية والشوارع والميادين والمقرات والسرادقات والباصات والبوكسات (جمع بوكس)، وهي لمن يعلم سيارة الشرطة، التي تخيف بها الأمهات الأطفال الأشقياء، وغير ذلك مما يصنف تحت بندي "الترغيب والترهيب"، ويبقى الأسئلة تتحدى كل ما لدى الحاقدين من أفكار شريرة :
ـ لماذا يلجأ الحزب الوطني "خالص مالص"، إلى فضائية "العربية" للترويج لحملته الانتخابية المحلية؟
ـ ولماذا يدعونا للثقة بمؤسساتنا بينما يستعين هو بمؤسسات الغير حتى لو كان ذلك بأموال "المتبرعين"؟
ـ ولماذا لا يكتفي الحزب بعشرات الإذاعات والشاشات الفضائية منها والأرضية، والنشرات المسماة بالصحف، القومية منها والحزبية؟، وهل يعني شعار "الفكر الجديد" الذي خرج علينا به مؤخراً حزبنا الوطني "جداً"، وأمانة سياساته ـ سقاها الله ورعى ـ أن نبيع بضاعة للمستهلك المصري، تختلف تماماً عن "بضائع التصدير" التي نسوقها في "العربية" و CNN ?
أيها السيدات والسادة، هناك جائزة لمن يعرف الإجابة عن أي من هذه الأسئلة، قيمتها أسبوع ضيافة (تايم شير) في منتجع "لاظوغلي" ذي النجوم الخمس، وكلما تجيب على أسئلة أكثر .. ستمتد ضيافتك وقتاً أطول، وتنال خدمة أفضل، وشعارنا "الدين لله والوطن للحكومة"، و"الحزب دائماً على حق" .
والعاقبة عندكم في المسرات .. شريطة أن تنبع من الداخل بالطبع .
Nabil@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف