أفكار في الطائفية (2 ـ 2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
علينا ضبط وتحديد المصطلحات، فالطائفية مثلها مثل الدكتاتورية تفهم بذاتها، وهي اليوم ظاهرة ومشكلة وأزمة مجتمعية بعدما شكلت مصدر الحكم وشرعيته طوال 14 قرنا، ولذلك غدت التعبير المباشر عن كل إخفاقاتنا في بناء مشروع حضاري يتفاعل مع محيطه الإنساني.
فالطائفية مشروع مؤسسي مرتبط بمصالح اقتصادية وسياسية قبل أن تكون مسألة دينية، وخطاب الاستبداد مبثوث في ثناياه، كما أنه متغلغل في عمق مجتمعاتنا العربية، ولا يكفي القول أننا شعب واحد حتى نلغي التفكير في مخاطرها ونتوقف عن معالجتها.
فعلى قمة القرن الواحد والعشرين تحدث أشياء غريبة. ليس الجميع، لكن أعدادا كبيرة ملحوظة تختار إبراز خواصها الطائفية، بينما لم يكن الأمر غريبا في القرن العشرين، حيث برزت الاختلافات الطائفية التي اعتبرت من قبل كثيرين توجها مشبوها، إلا أن الإحياء الطائفي الحاصل قد يعمل على تجديد اختلافات القرن المنصرم، ويزيد من الانقسامات القائمة على أساس مذهبي أو عرقي، فتتهدد الأوطان بالحروب الأهلية والخراب.
ويحدث في أكثر من مكان في العالم، أن تتلاعب أحزاب سياسية وتعمل على تعبئة أنصارها كأتباع ملحقين بها وليس كمواطنين مستقلين فرديين، في إعادة توجيه مقصودة يراد منها التأثير على العملية الانتخابية وإفسادها بزج العامل الطائفي وختمها بطابعه. وقد أصبحت اللعبة الطائفية تمرينا طقوسيا يجيز تصفية الحسابات والسيطرة على الحمى الانتخابية وتأسيس آلية التناوب الشرعية على أساس قوة الطائفة.
لقد تنبه لهذا الأمر مبكرا باحثون اجتماعيون مثل ريتشارد نيوهر الذي كتب "هكذا تمثل الطائفية الفشل الأخلاقي للمسيحية"، كما كتب هيرمت لوف عن التعددية المحدودة وأحيانا المغلقة للنظام الانتخابي وما يشكله من عنصر مضاف إلى العناصر التي تتسبب بالنزاعات الاجتماعية، حيث يخضع الناخبون إلى الضغوط والقمع المتطرف والمتمثل بالتعابير الدينية الخالصة وضرب جميع الأساليب الديمقراطية المشروعة في حال مثلت بديلا عن الدين.
***
الأحزاب العربية جميعها دينية حتى وإن ادعت غير ذلك، وقد عبرت دائما عن نفسها كأحزاب طائفية، خصوصا ذات التوجه القومي التي وجدت نفسها مدفوعة بالعامل الديني متحالفة مع الأحزاب الأصولية الظلامية. وفي كل هذا العدد الكبير من الأحزاب والتشكيلات السياسية العربية لا توجد هوية إنسانية، أو تعنى بالمواطن ككائن إنساني وليس "كائنا دينيا".
أين الأحزاب الديمقراطية التي تقبل بالتناوب والقبول بالخسارة في الانتخابات. إنها متعطشة أكثر من الحاكم العربي للسلطة، وهي جميعها بدون استثناء فشلت في التعبير عن نبض الشارع وتجسيد تطلعاته، وقد مارست سياسة النبذ والإقصاء بحق خصومها وتخوينهم، وهذا هو أعلى مراحل الطائفية.
لابد من فصل الدين عن الأحزاب، كما حصل تجارب كثيرة في العالم، فلكي تعود الأحزاب العربية الى موقعها الطبيعي كجزء من منظومة المجتمع المدني، يجب تحريرها من الضغوط الدينية، وإلغاء العامل الطائفي الذي يتحكم في مساراتها.
يرى جين بيير باستيان أستاذ الدراسات الدينية في جامعة ستراسبورغ الثانية أن نهاية الاحتكار الكاثوليكي في أمريكا اللاتينية كان الشرط الضروري للحداثة.
ويقول:"عشرات المجموعات الدينية المختلفة تظهر في كل دولة من دول أمريكا اللاتينية، في تطور لم يسبق له مثيل بعد خمسة قرون من الاحتكار الكاثوليكي للحقل الديني في القارة اللاتينية، والشعوب أصبحت حرة في اختيار رمزها للإنقاذ، ونظرا لهذا التغيير يجري الصراع على السلطة وتعبئة الأتباع الدينيين لتحدي هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على الأقل على المستوى المحلي، وأحيانا على المستوى الإقليمي. ويضيف "لوقت طويل ظل الدارسون قانعين بشجب النشاط الهادف إلى عزل الطوائف والحركات الدينية الجديدة، لكن الدراسات الجادة أخذت تركز على ظاهرة الـ "بينتيكوستال" وأشكال أخرى مختلفة من البروتستانتية وعلى التغييرات الواسعة الانتشار في الانتساب الديني والاجتماعي والآثار السياسية لهذا التطور"
ويؤكد باستيان "يجب علينا أن نحاول فهم هذا التنويع الديني، فهذا التوسع يتم في منطقتين معينتين، الأولى في المجتمعات الريفية وبين السكان الأصليين والعمال المهاجرين، والثانية، على محيط المدن الكبيرة الضخمة حيث يتجمع المهاجرون من الريف، وفي هاتين المنطقتين تتنوع أديان الفقراء كما تتنوع تطلعاتها لكنها تسعى جميعا إلى جذب قسم من الطبقة المتوسطة الجديدة إلى صفوفها"
ويوضح "ليس غريبا إيجاد جمهور قابل للحركات الدينية الجديدة في بيئة سكانها من ذوي الخلفيات المتواضعة والتي وضعت البعض من أبنائها في صنف جديد بعد دخولهم الجامعة، وحتى بين أعضاء المهن الحرة الذين يشعرون أن أوضاعهم في خطر، ورغم أن اختراق أديان الأرياف والضواحي للطبقة المتوسطة، إلا أن الكثير منها نجح في ممارسة شعائره في العالم الكاثوليكي والإفصاح عن معتقداتها الدينية، وأن تعطي بعدا جديدا للتعابير الدينية في أجهزة الإعلام".
***
الوحدة الوطنية تصنعها وحدة المواطنين وليس الأنظمة، وهي بالنسبة للحاكم غيرها بالنسبة للمحكوم، ولا وحدة وطنية بدون مناخ ديمقراطي يوفر حرية التعبير، ويمنع الحجر على آراء الآخرين طالما ظلت هذه الآراء في نطاق الحوار ولم تتحول إلى أعمال يحاسب عليها القانون.
ولكن، ماذا تعني الوحدة الوطنية بدون عدالة أو حقوق وواجبات متساوية بين الجميع.
والديمقراطية نظام حكم يقوم على قاعدة من الديمقراطيين الذين تشبعوا بالقيم الإنسانية التي تتسامى على الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي، وللأسف فأن أعداد هؤلاء قليلة في عالمنا العربي.
ومع ذلك، فأن الديمقراطية وحدها لا تلغي الطائفية، وهي ليست حلا ميكانيكيا لمشكلة الطائفية، وهل ألغت ديمقراطية الهند وعلمانيتها الحروب الطائفية بين الأقليات هناك؟
بانتهاء الحقبة الاستعمارية البريطانية، كانت الهند على موعد مع الديمقراطية، لكنها وبعد نحو 60 عاما ماتزال تحفل بألوان فاقعة من الفقر والخرافة والجهل، وتعاني من انخفاض مستوى التعليم، بينما تفرض التقاليد والعادات نفسها على المجتمع وتبقي ملايين النساء مكبوتات.
أراد بانديت نهرو أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال إقامة نظام ديمقراطي علماني يمزج بين الاشتراكية والليبرالية، ويساهم في التراث الثقافي الإنساني، لكن على سطح الواقع، كانت الصورة مختلفة جدا، فأغلب الحكومات الهندية المتعاقبة كانت حكومات هندوسية منعزلة، أي طائفية دينية، ولم تتمتع الأقليات بالحرية التي أرادها أبو الهنود، فالنموذج الهندي اليوم نموذج مريض يشكو من كل أعراض الطائفية، وقد أغتيل غاندي من قبل متعصب هندوسي لأنه أراد كبح جماح الأحزاب الهندوسية وأجبر الهندوس المنضوين في حزب المؤتمر العلماني على التقليل من مطالبهم الطائفية، كما أنه ساعد على خلق الكيان الباكستاني وفصله عن الهند.
تجذرت الديمقراطية في الهند كنظام سياسي إلا أنها فشلت كحل للمشاكل الاجتماعية، وتبدد بذلك الكثير من تفاؤل نهرو، فوجدت أنديرا غاندي نفسها مرة مضطرة لفرض حالة الطوارئ لتلقى بعد وقت قصير حتفها على أيدي أفراد من السيخ المتعصبين.
وفي السنوات العشرين الماضية، كانت الهند مسرحا لأحداث طائفية عمت البلاد كافة، وذهب ضحيتها الآلاف، كما نهبت المحال التجارية أو أحرقت، لكن الضرر الأكبر تمثل بضعف النزعة الديمقراطية والقدرة على التعايش المجتمعي، وفي انتخابات 1996 ظهر حزب "بهاراتيا جاناتا" ذو الميول الطائفية كأكبر حزب هندي وأكثرها مقاعد في البرلمان لتعرف الهند مرحلة صعبة، حيث استبدل المواطن العادي التعايش السلمي بعدم الأمان.
هذا التغيير المفاجئ في المزاج السياسي لم يحدث خلال عملية تطور تلقائية، بل استلزم من يمد له اليد، والحقيقة، أن أيادي الكثير من السياسيين المتعلقين بطائفيتهم والجائعين للسلطة امتدت لتشعل الحريق في كومة القش.
خارج هذه الصورة كانت ولاية البنجاب على الحدود الشمالية الغربية، ففي 1980 قد عرفت تجربة ناجحة وسلمية، وتعافت على نحو رائع من الانقسام الطائفي، وعاد الهندوس والسيخ ليتعايشوا في ظل تراثهم المشترك، واستطاعت حكومتها المنتخبة التي سيطر عليها حزب سيخي معتدل هو أكالي دال، من جعل قضية حاسمة كالزراعة تتصدر جدول أعمال الجميع.
***
لا القمع ولا التجاهل يلغيان الطائفية، إن ما يلغيها ثقافة جديدة تحل محل "الثقافة الوطنية" القديمة التي تنفي المواطنة وتقسم المواطنين إلى درجات.