هكذا تحدث تشومسكي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أشرت في مقالي السابق "الوطن يسعنا جميعا" إلى أن وطننا، المملكة العربية السعودي، ينتظمها طيف متنوع من المذاهب الإسلامية. وأشرت إلى أن هيمنة تيار معين على هذا الطيف تمثل سببا رئيسا في ما نعيشه الآن من تنافر ربما ينشأ عنه تهديد خطير لوحدتنا الوطنية ـ لا سمح الله ـ إن لم نتدارك الأمر. ومما يوحي بالطريق الذي ربما تكون الأمثل لمعالجة الحشد الطائفي والعرقي والمناطقي، الذي تعاني منه المملكة وغيرها من الدول العربية، ما بينه نعوم تشومسكي، المفكر والناقد السياسي واللساني الأمريكي المشهور، في مقابلة أجراها معه صحفي ألماني عرض فيها لهذه المشكلة وبيَّن أن البنية السياسية التي ربما تلائم الدول الحديثة أن تعود إلى ما كانت عليه الحال قبل نشوء "الدولة الوطنية" التي نشأت في أوروبا وتسببت طوال تاريخها في كثير من الحروب والنزاعات هناك. وقد نشرت هذه المقابلة في مجلة z المعروفة بتاريخ 19/5/2005م، وقد وجدت من الأوفق أن أترجم جزء المقابلة الذي يتعلق برأي تشومسكي في توصيف هذه المشكلة واقتراحه لعلاجها:
"س: نريد أن نتحدث عن بنيتين مهيمنتين للقوة في العصر الحاضر، أي: "الدولة الوطنية" والشركات متعددة الجنسيات. والسؤال الأول هو: هل يمكنك التفضل بالحديث عن نشوء هذا المفهوم للدولة الوطنية، أي ما السبب الذي دعا إلى إيجادها، وما النتائج التي ترتبت على ذلك؟
تشومسكي: الدولة الوطنية اختراع أوروبي إلى حد بعيد، أي أنه كان هناك أشياء مشابهة لها، لكن "الدولة الوطنية" بشكلها المعاصر كانت إلى حد بعيد اختراعا أوروبيا عبر عدد من القرون. وهي تبلغ حد بعيدا من عدم الطبيعية والاصطناع حتى إن فرضها [على المجتمعات الأوروبية] استوجب استخدام العنف المتطرف. والحق أنها كانت السببَ الرئيس في أن أوروبا كانت أكثر أجزاء العالم دموية لقرون عديدة. وكان السبب في وجودها محاولةَ فرض نظام لـ"الدولة الوطنية" على ثقافات ومجتمعات متنوعة، وإذا ما نظرتَ إلى [هذه الثقافات والمجتمعات] فإنك لن تجد علاقة بينها وبين هذه البنية المصطنعة.
وقد كانت النتائج الثانوية لها أيضا السببَ الرئيس في انتشار هذا المفهوم إلى خارج أوروبا. فقد طورت أوروبا، في مسارها لإيجاد الدول الوطنية المعاصرة، ثقافةً للفظائع الدموية وتقنية للعنف مكَّنتها من الهيمنة على العالم، وفي مسارها من أجل الهيمنة على العالم حاولت فرضَ أنظمة الدولة الوطنية حيثما ذهبت، وكانت هذه الدول مصطنعة وعنيفة كذلك. وإذا ما تأملتَ في الصراعات الرئيسة اليوم حول العالم فإن أغلبها نتيجة لآثار الجهود الأوروبية لفرض أنظمة الدولة الوطنية حيث لا مسوغ لوجودها أبدا، وهو ما يعني في العالم أجمع. والاستثناءات القليلة لهذا هو المناطق التي احتلها الأوروبيون وأفنوا ببساطة السكان المحليين، كما في الولايات المتحدة وأستراليا. وهذا هو السبب في أنك تجد في هذه المناطق مجتمعات متجانسة. ومن ناحية أخرى فالسبب الرئيس الذي أدى إلى انتهاء الصراعات الدموية في أوروبا في عام 1945م أن الأوروبيين تحققوا من أنه إذا ما استمروا في هذه اللعبة إلى مدى أبعد فإنهم سوف يُفنون أنفسَهم حقيقة. وهذا ما جعل السلام يسود، منذ 1945م، داخل أوروبا. فقد وجد الألمان والفرنسيون أنه لم يعد من الممكن لهم أن يجعلوا هدفا أعلى لهم في الحياة أن يذبح بعضهم بعضا.
وفي مسار تطور نظام الدولة الوطنية تطور إلى جانبه عدد من التنظيمات الاقتصادية المتنوعة وهي التي تحولت منذ قرن مضى إلى ما أصبح رأسمالية الشركات الكبرى المعاصرة، وهي التي فُرضت في غالب الأمر عن طريق التنظيمات القضائية، لا التشريعية، وهي التي ضُمَّت بشكل قوي إلى الدول القوية جدا ورُبطت بها. لذلك لا يمكنك اليوم أن تفك الارتباط بين الدول القوية، أي مجموعة الثمانية، التي تَعقد اجتماعها الآن في أدنبره، وهي في الحقيقة مجموعة من دولة واحدة أو من ثلاث أو ما يشبه ذلك مع إسهام لا يكاد يذكر من الآخرين، وبين هذا التاريخ. إذ من المستحيل أن تميِّز بين الدول المهيمنة المعاصرة ونظامِ الشركات متعددة الجنسيات، وهي المجموعات الكبرى التي تعتمد عليها، وتتميز علاقتها بها بأنها علاقة اعتماد وهي تهيمن عليها.
والواقع أن جيمس ماديسون [السياسي الأمريكي] قد وصف منذ قرنين، في فترة مبكرة جدا من تاريخ الرأسمالية، علاقةَ قطاع رجال الأعمال بالحكومة بأنها علاقة "أدوات وطغاة". إذ قال إن قطاع الأعمال هو "أدوات وطغاة" للحكومة. أما الآن فقد وصل الحال إلى أن يصبح ذلك تعريفا واقعيا للعالم. ذلك أن الشركات متعددة الجنسيات هي أدوات للدول القوية وطغاة لها، وهذا ما يجعل التمييز بينهما صعبا إلى درجة كبيرة.
س: ما القوى الاجتماعية، في بداية الدولة الوطنية، التي كانت وراء مثل هذه الدولة وما السبب الذي أدى عمل هذه القوى في إيجادها؟
تشومسكي: لقد بدأتْ في فترة الإقطاع مع زعماء الإقطاع والمعارك من أجل النفوذ بين زعماء الإقطاع والملوك والبابا والمراكز الأخرى للنفوذ وهو ما تطور بصورة تدريجية ليصبح أنظمة من الدول الوطنية التي تلاقت فيها مجموعة من القوى السياسية والمطامع الاقتصادية إلى درجة مكَّنتها من محاولة فرض أنظمة شمولية على مجتمعات متنوعة. وأعني بذلك أن نشوء نظام الدولة الوطنية وتعزيزها حدثا في وقت ليس ببعيد جدا، أي أنه كان في زمن متأخر جدا يمكننا أن نتذكره.
والواقع أن هناك كثيرا من الناس في أوروبا لا يستطيعون التحدث مع جَدَّاتهم لأنهن يتحدثن لغات مختلفة. فالدولة الوطنية إنما هي اندماج حديث جدا للقوى السياسية والثقافية والاقتصادية وهي التي بدأت الآن في طريقها إلى الانحلال. لذلك فإن إحدى التطورات الصِّحية في أوروبا الآن تتمثل، في رأيي، في مسار من نوع التطور المعاكس الذي يعمل الآن بسرعات متفاوتة في أجزاء مختلفة من أوروبا. ففي أسبانيا، مثلا، بدأ إقليم كاتالونيا وإقليم الباسك وبعض الأقاليم الأخرى إلى حد ما في تطوير درجة مهمة من الاستقلال الذاتي.
ولقد عدت توا من إنجلترا قبل أن آتي إلى هنا [ألمانيا]، بل إنني لم أكن في إنجلترا حقيقة، إنما كنت في سكوتلاندا، وهي التي أَنجزت إلى الآن درجة من الاستقلال الذاتي، كما حققت مقاطعة ويلز درجة من الاستقلال الذاتي وأظن أن هذه تطورات طبيعية عكسية نحو أشكال من التنظيم الاجتماعي يتصل بقدر أكبر بالمصالح والاحتياجات الإنسانية. والواقع أنني كنت، وربما لا أزال، عرضة للتحقيق من قبل المحاكم الأمنية التابعة للدولة التركية بسبب ما يسمونه الدعوة إلى الانفصال. وتحديدا بسبب محاضرة ألقيتها في مدينة ديار بكر، في الجنوب الشرقي لتركيا، حيث قلت بعض الأشياء الموجبة عن الإمبراطورية العثمانية. وليس القصد من ذلك أن أحدا يريد إحياء الإمبراطورية العثمانية، لكن ذلك يعود إلى أنه كان لديها بعض الأفكار الجيدة عن أمور كثيرة. ومن تلك الأفكار أنها [أي الدولة العثمانية] لم تكن تتدخل في شؤون الناس، وكان ذلك جزئيا بسبب الفساد والضعف [اللذين كانت تعاني منهما]، لكنه يعود في جزء منه إلى أسباب مبدئية. فلم يكن في الأقطار التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية أي نظام يشبه نظام الدولة. لذلك تجد في أية مدينة معينة أن اليونانيين يُعنَون بشؤونهم الخاصة، وكذلك الأرمن كما يمكن للآخرين أن يديروا شؤونهم الخاصة في جزء آخر من المدينة. وكان هناك ما يشبه الوحدة. إذ كان يإمكانك أن تذهب من القاهرة إلى بغداد أو إلى اسطنبول من غير أن تَعبر أيَّ حد أو مركز أو أيَّ شيء مما يشبه ذلك. وربما يكون ذلك الشكلَ الأوفق من التنظيم في ذلك الجزء من العالم وربما كان ذلك هو الأوفق في العالم كله. وهذه التوجهات واضحة جدا في أوروبا، وأكثر ما تكون على المستوى الثقافي لكنها موجودة إلى حد بعيد على المستوى السياسي كذلك. ويبدو لي أن من الممكن الافتراض بأن هذه التوجهات تمثل رد فعل على التوجهات نحو المركزية التي يعمل على تعزيزها الاتحادُ الأوروبي وهي التي تتصف غالبا بأنها توجهات أوتوقراطية، خاصة تلك القوة العظمى للبنك المركزي. لكنها تتصل جميعها بالتمركز المفرِط للقوى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يمسك بها طغاة من القطاع الخاص لا يَخضعون لأية محاسبة وهي القوى التي تتصل بشكل دقيق بقوى الدولة وتعتمد عليها".
فالدولة الوطنية إذن، في العالم العربي كله، بشكلها الحديث إنما هي اختراع أوروبي انتقل إلى هذه المنطقة نتيجة لفرض القوى الأوروبية له على شعوب تتصف بالتنوع الإثني واللغوي والديني والمذهبي. ونحن نعلم أن هذه الدول الوطنية كانت نتيجة لاتفاقيات بين الدول الكبرى المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى. وتعاني هذه الدول منذ ذلك الحين نتيجة لصهر هذا التنوع في قالب دولة وطنية واحدة. ويوجب هذا الصهر فرض لغة واحدة أو مذهب واحد وعدم إتاحة الفرصة لمواطني الدولة نفسها ممن يتكلمون لغات مختلفة عن اللغة السائدة أو يعتنقون مذاهب أخرى تخالف المذهب السائد للتمتع بتكلم لغاتهم الأم أو ممارسة مذاهبهم. ومن هنا تبدأ مشكلات لا آخر لها. وتضطر الحكومات دائما إلى ممارسة القوة حتى تمسك هذه الثقافات واللغات والمذاهب المختلفة في كيان واحد.
ونحن نشهد الآن في الدول العربية كلها هذا الصراع العلني أو الخفي. وإذا ما أتيح لهذه الثقافات واللغات أن تنفك من كيان الدولة الوطنية فإنها تمارس أبشع أنواع العداء للسياسات التي كانت قائمة. ومن الشواهد الأخيرة على هذا ما نشرته الصحف العربية عن العداء القائم الآن للغة العربية في كردستان. فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط (26/5/2005م، ص2) تقريرا عن تخلي أكراد العراق عن اللغة العربية لصالح الغة الإنجليزية لأن التلاميذ "يفضلون اللغة الإنجليزية لاعتبارهم أن العربية لغة الحكم القمعي (ورمز) الفظائع التي ارتكبها النظام السابق"، وأنها "لغة الجلادين".
ولا يعني إعطاء الحرية للثقافات والمذاهب واللغات أن تعبر عن نفسها بالضرورة القضاء على الدولة الوطنية؛ بل إن هذه الحرية ربما تكون خير ضمان لبقاء الوطن موحدا في كيان واحد حين يشعر كل مواطن فيه أنه حر في ممارسة لغته وثقافته ومذهبه في محيطه الداخلي، وأنه ليس مواطنا من درجة أدنى، مع بقائه في إطار عام يحميه من الكيانات الأخرى.