البعث والفاشية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سألت، مرة، معاذ عبد الرحيم، الشخصية القومية العراقية المعروفة: ما هي مصادركم في "التثقيف" عندما كنتم في حزب البعث؟ ولم أفاجأ حين قال انه كتاب "كفاحي" لهتلر، فقد كنت مطلعا على هذه الحقيقة، لكنني أردت التثبت منها، سيما وان معاذا كان أحد قدامى البعثيين العراقيين، وهو الذي "كسب" أحمد حسن البكر رئيس وزراء انقلاب البعث الأول في 1963 ورئيس جمهوريته في انقلاب 1968، إلى صفوفهم.
وفي كتابه "النكسة والخطأ" أورد الباحث السوري أديب نصور مقارنات عديدة بين "البعث" وكل من الحزبين "النازي" الألماني و"الفاشي" الإيطالي تصل حد التطابق في الأفكار والمنطلقات والشعارات.
وكانت "الثورة العربية" جريدة الحزب الداخلية، انهمكت عام 1971 في الرد على باحثة ألمانية برهنت على أن فكرة البعث، أي إحياء الأمة العربية وإعادة ولادتها من جديد، هي الترجمة الحرفية للفكرة النازية.
وتمتلئ نصوص ميشيل عفلق التي جرى جمعها تحت عنوان "في سبيل البعث" وهي نصوص مفككة وخالية من أي جهد نظري كونها، في غالبيتها، خطبا حزبية، بعبارات منقولة بالنص والحرف الواحد من الأدبيات النازية والفاشية، فالقومية العربية قدر محبب، والبعث قدر هذه الأمة، كما هي الفاشية قدر الأمة الإيطالية، وعقيدة البعث لا يمكن الوصول إليها بالعقل ولكن بالإيمان وحده مثلما الفاشية التي لا تناقش ولكن تدرك بالإحساس، والبعث هو الطليعة التي تقود الجماهير، تماما كالصفوة النازية المختارة!!
وتكاد التفاصيل معروفة للجميع عن تأثر عفلق ورفيقه صلاح البيطار إبان دراستهما في باريس بأفكار هتلر وموسوليني، وكيف تشكلت النواة الأولى لحزب البعث في 1947 تحت تأثير صعودهما إلى سدة الحكم في كل من ألمانيا وإيطاليا، قبل أن يندمج عام 1952 مع الحزب العربي الاشتراكي الذي كان يترأسه أكرم الحوراني ويتحول إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
وإذا كان هناك من يرى أن هذه الحيثيات لا تقيم الدليل على الاتجاه الفاشي للبعث، طالما تظاهر بأنه يسعى إلى وحدة الأمة العربية والقضاء على حالة التجزئة وتحرير فلسطين وغير ذلك من الأهداف التي تدغدغ عواطف الجماهير، فان السنوات الطويلة من استيلاء البعثيين على السلطة في العراق وسوريا منذ 1963، تكشف عن البون الشاسع بين الادعاء والواقع، فالضرر الذي لحق بالقضية الفلسطينية نتيجة الصراع الذي ظل قائما بين جناحي الحزب والذي تحمل أعباءه الشعبان العراقي والسوري يوازي إن لم يتجاوز الأضرار التي لحقت بالمشاريع الوحدوية بل وحتى بفكرة الوحدة نفسها، حيث تحول هذا الصراع إلى أداة هدم لمقومات العمل العربي المشترك وأسس التعاون التقليدية بين الدول العربية التي انهارت تماما وحلت محلها الخلافات العميقة وسوء التفاهم والأزمات.
إن معظم الأحداث المأساوية التي عرفها تاريخ العرب المعاصر ارتبطت بالحركات القومية، غير أن ما ارتبط منها بحزب البعث كان أكثرها دموية، وكانت أيديولوجيته المتصحرة القاحلة التي جذبت عناصر لم يؤثر عنها التسامح أو الالتزام بالقيم الديمقراطية مصدرا للتوتر الدائم، وليس الغزو السوري للبنان وغزو العراق للكويت سوى مثالين فقط يعيدان للذاكرة الغزو الألماني لبولندا والإيطالي لأثيوبيا، حيث كانت الأسباب والمبررات تنطلق من وجهة نظر توحي بحلول سهلة وسريعة للمشاكل السياسية، فثمة علاقة ثابتة بين الفكرة القومية والنزوع التسلطي العدواني.
وقد ارتبطت بالحزب، بجناحيه العراقي والسوري، جميع التأثيرات الخطرة والمخربة لوحدة البلاد واستقرارها، وكانت هذه التأثيرات سببا ونتيجة في آن واحد لقيام الدكتاتورية ونشوء هياكل ومؤسسات القمع وتغلغلها في أجهزة الدولة وداخل المجتمع من أجل مهمة وحيدة هي مصادرة حرية المواطن وتحويله إلى مسمار في عجلة الحزب. وظل كلا الجناحين يتنافسان في البرهنة على أن حكم القانون والديمقراطية والكرامة الإنسانية هي التهديد المباشر لوجود الأمة ومستقبلها، وليس الاستعمار والتجزئة والصهيونية، كما تلهج بذلك ألسنة البعثيين.
أدت عودة البعث العراقي عام 1968 إلى ظهور توقعات بأنه استفاد من تجربته القصيرة المخزية في انقلاب 1963، كما دارت نقاشات ركزت على الفروقات بينه وبين البعث السوري الذي تصنفه بعض التحليلات كحزب يساري، غير أن الوقائع على الأرض أكدت خطل هذه التوقعات مثلما عززت القناعة بأن نظرية "الحزب الواحد" والتي جرى تطويرها لاحقا إلى "الحزب القائد" لا تتطلب إضاعة الوقت في نقاشات عقيمة حولها وإنما إلى فهم جوهرها، ذلك أن تحليل الأيديولوجية والقاعدة الاجتماعية لأية حركة، بالإضافة إلى تحليل سلوك الأحزاب المختلفة ينتهي إلى صورتين، إحداهما ديمقراطية وأخرى متطرفة سواء أكانت في اليمين أو اليسار أو في الوسط، ففي وقت من الأوقات، أطلق علماء السياسة تعبير "الفاشية" على جميع هذه الحالات المتعددة من التطرف.
كانت القاعدة لدى حزب البعث، وهي القاعدة نفسها بالنسبة للفاشية، تتمثل بدكتاتورية الحزب، غير أن هذه القاعدة التي اعتمدت جزء من الطبقة المتوسطة، خصوصا في التجربتين الألمانية والإيطالية، اعتمدت في التجربة البعثية على الطائفة ثم العشيرة ثم العائلة لتنتهي إلى الفرد المطلق أو مبعوث العناية الإلهية ومحيطه الضيق من أصحاب المكانة الإجتماعية المتدنية والتعليم البسيط ونهازي الفرص والوصوليين والذين يجدون أنفسهم عاجزين عن مقاومة إغراء المال والسلطة.
لقد حطم البعثيون في العراق وسوريا الطبقة الوسطى، وبحكمهم الاستبدادي وعسكرتهم المجتمع أبقوا الجماهير الواسعة في حالة مزرية من الفاقة والعوز الشديد مقابل طبقة طفيلية فاسدة ذات امتيازات كبيرة، كما أبقوا على الاقتصاد في حالة تخلف والجيش في حالة عجز مرتب، وأثبتوا أنهم يمينيون وأن ادعوا الثورية، وجبناء رعديدون ينشدون الحفاظ على كرسي الحكم قبل أي هدف آخر.