صدام الأبيض.. في اليوم الأسود؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لعل أولى الملاحظات التي تمركزت في مخيلة ورؤية المراقبين لحظة مشاهدة الظهور الأخير لصورة رئيس النظام العراقي البائد صدام حسين وزمرته في جلسات الإستجواب الأخيرة هي ملاحظة أن بشرة صدام السمراء قد تحولت لبيضاء!! في ظل الرعاية والعناية الأميركية وسجونها المكيفة، ووجباتها (الماكدونالدية) السريعة والغنية بالدهون الثلاثية والمشبعة!! والفيتامينات!؟
ويبدو أيضا أن صحة ( بطل العروبة السابق وحارس بوابتها الشرقية ) قد تجاوبت تجاوبا تاما مع ما يقدمه ( الإخوة الأميركان ) من رعاية ودلع! لذلك فقد كان ظهوره الأخير بمثابة لطمة وصفعة مؤلمة لإدعاءات (قطيع الخصاونة والسفياني) من المحامين العرب الأشاوس! ، خصوصا وهم يرون أن صحة ( قائدهم الهصور) قد تحسنت ، وإن آلام الظهر والفقرات والبواسير والنواسير والفتق قد إختفت! وإن المخاوف من تسميمه أو خنقه في السجن قد ولت مع الريح! وإن بطل الحفرة القومية الخالدة بات يعيش في رفاهية رغم حكاية وصور ( الطشت قال لي ) السابقة!وأفضل بكثير من أيام التشرد والضياع التي أعقبت سقوط وهروب وتلاشي نظامه منذ التاسع من نيسان 2003 وحتى ليلة الثالث عشر من ديسمبر من نفس العام وهي فترة (الغيبة الصغرى) لمهدي (البعث والخصاونة والسفياني) المنتظر!!.
ولنا أن نتصور بعد ذلك عن صحة وحالة المعتقلين على يديه أيام كان حاكما بأمره ، وفرعونا أوحد يحيي ويميت ويتصور إنه على كل شيء قدير ( والعياذ بالله)، لدرجة أنه وقد إنتشى بحالة الزهو والغرور والإعجاب المرضي بالذات قد صرح ذات مرة بأنه ونظامه قادرون على فعل أي شيء بإستثناء ( إختصاصات الإله )!!! بهذه السماجة كان يتحدث الدكتاتور البائد الذليل ! ، فهل يعلم الرأي العام بأن أولى ضحايا حكمه المباشر في تموز 1979 من رفاقه البعثيين ذاتهم قد تعرضوا قبل إعدامهم لتعذيب سادي بشع من فقأ للعيون ، وكسر للظهور ، و تمزيق للأوصال قبل أن يدفنوا في حدائق القصر الجمهوري وهم يعدمون برصاص الرفاق والعشيرة! ولنا أيضا أن نتصور أيضا أحوال ضحاياه في مقابر صدام الجماعية التي تضم بسطاء و كادحي الشعب العراقي! وهي المقابر التي أعطاها البعد القومي أيضا بضمه لجثث أشقاؤنا في دولة الكويت المعروفين بالأسرى الذين أنكر وجودهم فيما كان المجرم اللئيم ( سبعاوي التكريتي ) يشرف على أمر إبادتهم !! أي خسة وأي دناءة تلك التي تقف خلف النفوس السادية البعثية المجرمة؟ وأي نوع من البشر ذلك الذي يدافع حتى اليوم عن أفعال وجرائم النظام الصدامي البائد ؟!.
وإذا كان صدام (الأبيض) كما ظهر مؤخرا يؤشر على شيء ما ، فإنما هو يعني بأن ذلك الكائن الذي كان ذات يوم رئيسا للعراق ويتلاعب بشؤون ومصير الشرق الأوسط بأسره مجرد شخص مريض تبلدت عنده وحوله وفيه المشاعر الإنسانية، فهو يبدو حريصا كل الحرص على إدامة صبغ وطلاء شعره باللون الأسود الفاحم كجزء من أجزاء الشخص القوي المتماسك الحريص على مظهره الخارجي ، وكإرث متبقي من هيلمان وسلطان الماضي السحيق!! وقد تناسى تماما كل المآسي التي سببها للشعب الذي تسلط عليه بل وتجاوز حتى مآسيه الشخصية والعائلية حيث فقد أولاده ، وتشتت بناته وزوجاته ، وأبيدت عصابته الأسرية الحاكمة بين صريع وسجين ينتظر حكم الشعب والتاريخ الأشد قسوة، لم يتصرف صدام كالرجال المهزومين من الشقاة والقتلة والدكتاتوريين ، كما فعل ( هتلر ) و ( غورنغ ) و ( هملر) وحتى ( رودولف هيس ) نائب هتلر الوحيد الذي إنتحر في زنزانته في برلين عام 1987!!، كما لم يتسن للجماهير العراقية أن تنزل عقابها الصارم به كما فعلت جماهير ميلانو الإيطالية بزعيمها المهزوم والفاشي ( موسوليني) ليعلق وعشيقته في شوارع تلك المدينة! رغم أن تلك الجماهير العراقية قد فعلت الأعاجيب ضد رموز الأسرة العراقية المالكة عام 1958 وهي كانت أسرة كريمة وكان عبد الآله ونوري السعيد من الملائكة والقديسين قياسا بشخوص ورموز النظام البعثي المهزوم والبائد!! إنها مفارقات التاريخ العجيبة ... لأن من وفر صبغ الشعر الدائم ، والغذاء الفاخر والسجن المكيف لقتلة البعث هو ذاته الذي حماهم من أيادي الشعب !! ، لم يفجع أو يتأثر صدام بمصير الشعب العراقي الذي تركه يعاني الأمرين من جوع ومعاناة ومرض بعد أن إمتص خيراته وهشم مرتكزاته ومارس ساديته في قطع الرؤوس وبتر الأطراف ووشم الجباه وقطع الآذان ، وترك ثروات العراقيين نهبا لأيادي اللصوص والبنوك الدولية المتخمة بحساباتهم المسروقة ، ولم يبق لصدام اليوم سوى تلك البدلة الرخيصة التي يرتديها فيما نهبت أموال العراق وهي نفس الإشكالية التي واجهت شاه إيران السابق ، والدكتاتور الزائيري موبوتو سيسي سيكو التي رفضت مستشفيات الدنيا علاجهم ليموتوا غرباء في أوطان الآخرين وكان بإمكانهم لو أرادوا أن يموتوا معززين بين أيادي شعوبهم ... ولكن المشكلة تبقى تتمحور حول : لا أحد يتعظ أو يأخذ العبرة !.
لم تبدو على محيا صدام أية معالم ندم وحسرة وأسف ، ولم يعتذر للشعب الذي أذله بقوة الحديد والنار وكلاب السجون السرية الرهيبة ، كما تلاشت من على وجهه البارد الثلجي كل علامات الوجع ، بل كان كعادته صلفا ، شرسا ، عنيدا ، صفيقا ، متبلدا ، وجميعها صفات الطاغوت الأهوج.
تأملت مشهد صدام البائس وهو يدافع ، ويناور ، ويتحدى بصلف وغباء، ومرت في المخيلة صورا ماضية لنهايات الطغاة... فقد ظل الروماني ( نيقولاي شاوسيسكو) وحتى لحظاته الأخيرة أمام المحكمة العسكرية الخاصة التي حكمت بإعدامه مؤمنا بأنه قد خدم الشعب الروماني !! رغم أنه أذله و أهانه وسرقه وأشبعه بردا وتقشفا ، وسلط عليه كلابه في ( السيكوريتات ) أي الأمن السري ، ثم عانقت جثته الممزقة بالرصاص و زوجته ( إيلينا ) ثلوج بوخارست ليسدل ستار التاريخ على أبشع مرحلة فاشية عاشتها رومانيا طيلة ثلاثة عقود ، وتذكرت مصير الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي الذي طغى وتجبر في الأرض ثم تشرد وأثقل بالهموم بعد أن نخره السرطان والغربة والندم والمهانة وهو يتنقل بين مستشفيات الأرض التي أخرج من أبوابها الخلفية ليموت في غربته حزينا ويسدل التاريخ أستاره على قصته أيضا ، أما الزائيري موبوتو فقد ضاقت به الأرض وتنكر له شركائه الأوروبيون ، ليتنقل مع سرطانه ويموت مشردا بعيدا عن وطنه الذي سرقه ونهبه حتى الثمالة!! .
وبين تداعي الصور تذكرت الصور الأخيرة ( لصاحبنا ) صدام وهو يقف في دقائق النظام الأخيرة وقبل هروبه النهائي منتصبا أمام بقايا عصابته في شوارع حي المنصور البغدادي ليستمع ويستمتع وللمرة الأخيرة في حياته بذلك الهتاف السخيف الرخيص : { بالروح ... بالدم ... نفديك يا صدام }
، ثم يختفي شمالا بعد نزع حله ( المارشالية) ، ليظهر بعد شهور بدشداشته القذرة ، ولحيته الكثة كأي متشرد في شوارع المدن الخلفية وصورته الشهيرة وهو يسحب من حفرة الفئران البعثية ويضرب ويهان على صدغه المدمى والمليء بالكدمات ... وكانت نهاية تراجيدية على النمط الشيكسبيري للدكتاتور الذي وصفه الشاعر ذات يوم بقوله :
تبارك وجهك الوضاء فينا كوجه الله ينضح بالجلال !!!
وكان مشهدا تاريخيا لا يفارق الذاكرة تجاوزت تأثيراته كل الزلازل والأعاصير لأنه قد حدد نهاية صيغة الحاكم / الآله في عالمنا الشرقي السعيد!... والعجب العجاب إن من دعا للعزة والكرامة والشرف القومي وتحرير فلسطين من البحر للنهر ... لم يثأر لكرامته المفترضة ، ولم يضع حدا لحياته أسوة بكل المهزومين في التاريخ بدءا من ( كليوباترا ) وليس إنتهاءا ب ( هتلر ).. بل ظل كزميله مهرب المخدرات البنمي ( نورييغا ) رافعا لسيفه الصدأ ، ومقلدا سلفه الطالح ( أسامة بن لادن ) في تسجيل الكاسيتات ثم الإستماع لصوته النحاسي وهو يلعلع من على شاشة ( الجزيرة ) وأخواتها!! بشعارات الإفلاس والهزيمة والعار .
محامو القائد البائد ( الخصاونة وشركاه ) والتي أضيف لهم أشباح من الماضي مثل الجزائري العجوز أحمد بن بيلا ، ربما يكون قد فاجئهم الظهور المفاجيء للقائد الذي كان ! ، ولكن دماء شهداء العراق والأمة العربية لا تزال تستفسر وتستفهم عن سر الإطالة في تحديد الموعد النهائي لمحاكمة بقايا النظام العراقي البائد من المجرمين والقتلة الذين يظهرون للإعلام على شكل دفعات وبالتقسيط المريح ! ، فعتاة القتلة والمجرمين من أمثال برزان التكريتي ، وسبعاوي ووطبان وغيرهم ، ما زالت ندرة المعلومات حول إعترافاتهم تشكل إساءة بالغة لتاريخ العراق المعاصر.
لقد لعب أولئك القتلة أبشع الأدوار في تكسيح العراق وتدميره ، وباتت نهايتهم السوداء ترتسم في أفق العراق والعالم العربي ... ولا عزاء للطغاة .