كتَّاب إيلاف

هل للعقل دور في اختيار الحلول الصائبة؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كل ما تعمق الإنسان في قراءة التاريخ، منذ العصور الحجرية وإلى الآن، وجد أن هذا التاريخ عبارة عن سلسلة متواصلة من الحروب والمظالم والقتل وسفك الدماء وهتك الحقوق والأعراض. وعندها يسأل الإنسان المتأمل: أين دور العقل في كل هذا؟ وبإلقاء نظرة فاحصة على ما يجري الآن في العراق من أعمال إرهابية ضد الشعب العراقي والتي تتلقى الدعم بالفتوى والمال والإعلام من قبل رجال الدين والحكام والأثرياء والإعلاميين والسياسيين، العرب وغير العرب، خاصة من أولئك الذين نفترض فيهم العقل والمعرفة والحكمة كرجال الدين، يبقى السؤال ذاته ملحاً، أين العقل من كل هذا؟
فهل للعقل أي دور في التمييز بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ، أو بين الخير والشر، أم تسير الأمور بشكل عاطفي وعشوائي وغوغائي، خارج عن سيطرة عقل الإنسان؟ في الحقيقة يبدو أن العقل ما هو إلا مجرد غشاء خفيف يغطي الطبقات الجيولوجية السميكة من المراحل الحيوانية الوحشية التي مر بها الإنسان خلال تطوره البيولوجي والحضاري ودوره في التمييز بين الحق الباطل أو أخذ المواقف الصائبة محدود وربماً لا شيء يذكر.
في القرن الثامن عشر أثار الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط، أعظم فلاسفة النهضة والتنوير، الشكوك حول مقدرة العقل في ثلاثيته ( نقد العقل... ). فالعقل معرض للخطأ كما تخطأ الحواس الخمس في إدراك العالم الخارجي، مثل العين التي تنخدع بالسراب فتحسبه ماءً. وقبل خمسين عاماً نشر عالم الاجتماع الخالد، علي الوردي، كتابه القيم (مهزلة العقل البشري) ناقش فيه دور العقل ووظيفته عبر التاريخ العربي-الإسلامي، وتوصل إلى نتيجة مؤداها أن العقل لا دخل له لما يجري، بل إن الذي يقرر موقف الإنسان من "الحق والباطل" هو مصلحته المادية والأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تربى عليها.
يبدو إننا نحمل العقل أكثر من طاقته ونطالبه أكثر مما هو مكلف به، إذ نعتقد أن العقل هو واسطة لمعرفة الحق والباطل والتمييز بين الخير والشر والصواب والخطأ، والحقيقة ليست كذلك. فالعقل وكما قال الوردي أداة دفاعية يستعملها الإنسان للدفاع عن النفس وعن المصالح، إذ يقول: " إن العقل الإنساني لا يعمل وفق قوانين المنطق والحكمة والمثاليات، بل هو عضو للبقاء مثل ناب الأفعى وساق النعامة ودرع السلحفاة." ويرى الوردي: «أن طبيعة البشر واحدة والاختلاف يرجع في الغالب إلى اختلاف في تكوين المجتمع، والذي جعل أهل العراق أهل فطنة ونظر وأهل شقاق ونفاق هو واحد لا يتجزأ».
فالإنسان يتمسك بما يسميه حقيقة، طالما تطابقت هذه الحقيقة مع مصالحه المادية، أما إذا تعارضت "الحقيقة" مع مصالحه فإنه يقف ضدها ويبحث عن الأدلة العقلية والنقلية لتبرير موقفه. كذلك الحال مع موقف الإنسان من الدين، فهو مع الدين طالما اتفق مع مصالحه، أما إذا تعارض الدين مع مصالحه فهو إما أن يتمرد عليه أو يلجأ إلى وعاظ السلاطين، كما يسميهم الوردي، لإيجاد تفسيرات تناسب مصالحه. وقد أدرك هذه الحقيقة الحسين بن علي (ع) عندما قال: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الديانون".
فعندما تمرد معاوية على إمام زمانه وشق المسلمين طمعاً في السلطة وتسبب في قتل 300 ألف مسلم، انبرى الفقهاء لتبرير فعلته وقالوا أن معاوية اجتهد فأخطأ، لذا فله أجر واحد، وذلك وفق الحديث الشريف أنه إذا اجتهد المسلم وأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد. وهكذا فبإمكان هؤلاء الوعاظ تحويل الجرائم الكبرى إلى مجرد اجتهاد خاطئ يكافأ عليها "المجتهد" معاوية بن أبي سفيان. ولكن موقفهم يختلف من الحسين إذ قالوا عنه أنه (قتل بسيف جده لأنه تمرد على إمام زمانه يزيد). فأين العقل من كل هذا التلاعب بالحق ونصرة الشر. إنها المصالح وليس الحق الذي يقرر المواقف من الأحداث. وكما نقول بالعراقي (حب وتكلم واكره وتكلم).

قال ونستون تشرتشل: "الأمريكيون ينتهون بالعثور علي الحل الجيد لكن بعد أن يكونوا قد استنفدوا جميع الحلول السيئة". في الواقع إن هذا الوصف ينطبق على جميع البشر في كل مكان وزمان بدون استثناء. فالبشر يلجأون أولاً للطرق الخاطئة في حل مشاكلهم وحسم خلافاتهم مع الآخرين على أمل أن يحققوا كل ما يريدون ويحرموا الخصم من كل ما يريد. ويعتبرون ذلك نوعاً من الشطارة (نزعة التغالب). ولما تفشل هذه الطرق يتبنون حلولاً أقل خطأ وهكذا إلى أن يستسلموا للحلول الصحيحة ولكن بعد خسائر بشرية ومادية كبيرة، فيقبلون بالممكن في نهاية المطاف، وعندها يقولون أنهم توصلوا إلى ذلك بالعقل والحكمة!!. في الحقيقة أنهم استسلموا للحل الصحيح ولم يعثروا عليه. بمعنى أنهم لم يتوصلوا إلى ذلك بالعقل والحكمة بل، انسدت في وجوههم كل الطرق الخاطئة فلم يبق أمامهم سوى الحل العملي الممكن.
ولتوضيح هذه الفرضية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، القضية الفلسطينية. في عام 1937 اقترحت بريطانيا تخصيص ربع مساحة فلسطين لقيام حكم ذاتي لليهود ضمن الدولة الفلسطينية، فرفض العرب والفلسطينيون الاقتراح. كما ورفضوا مشروع التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948، وأصروا على فكرة (كل شيء أو لا شيء) وتحرير الأرض من النهر إلى البحر وإلقاء إسرائيل في البحر لتأكلها الأسماك. وفي عام 1960 اقترح الرئيس العراقي، الزعيم عبدالكريم قاسم، قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن وقطاع غزة تحت سيطرة مصر، فرفضها العرب وشن عبدالناصر حملة شعواء عليه واعتبره مجنوناً وعميلاً للصهيونية والاستعمار. وفي عام 1964، اقترح الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة على عبدالناصر، حل الصراع العربي-الإسرائيلي بالاعتراف بإسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية وبذلك يمكن تحرير الثروات العربية للتنمية بدلاً من صرفها على سباق التسلح وطرق غير مجدية. فوافقه عبدالناصر على ذلك في بداية الأمر وطلب منه الإعلان عن مشروعه. ولما فعل بورقيبة ذلك قوبل باستنكار الشارع العربي العاطفي وانضم عبدالناصر إلى جوقة المستنكرين بدلاً من قيادة الرأي العام العربي وإقناعه بالحلول العقلانية الواقعية الصائبة. والنتيجة كانت الهزيمة الكبرى في حرب حزيران عام 1967 وضياع كل فلسطين وأجزاء من الدول العربية المحيطة بها. ولما جاء السادات ووافق على اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 حيث استرجع بموجبها كل الأراضي المصرية المحتلة بدون قطرة واحدة من الدماء، قاطعه العرب وحرضوا الغوغاء ضده ودفع الرجل حياته ثمناً لموقفه الصائب. ثم جاء الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي فتح البيت الأبيض للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وكان من أمنياته أن يدخل التاريخ من خلال حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية والقدس الشرقية عاصمتها. فرفض عرفات الحل خوف أن يغتاله الفلسطينيون كما اغتيل السادات، ثم ندم على ذلك قبل وفاته.
لذلك، وبعد أن جرب الفلسطينيون والعرب كل الطرق الخاطئة والتي أدت بهم إلى المزيد من الكوارث والخسائر، عثروا على الحل الصائب وهو القبول بالممكن، بقيام الدولة الفلسطينية مقابل الاعتراف بإسرائيل وحقها بالبقاء والتعايش السلمي. نقول الآن، أن السيد محمود عباس رجل عاقل ونثني على حكمته. نعم نتمنى له كل النجاح في تحقيق حلم الشعب الفلسطيني بقيام دولته المستقلة القابلة للبقاء والحياة. ولكن هل حقاً أن محمود عباس هو أعقل وأحكم الفلسطينيين الآخرين الذين سبقوه؟ في الحقيقة أن محمود عباس هو أحد مؤسسي حركة فتح وأحد المقاتلين في صفوفها، ولم يعثر على الحل الصحيح إلا بعد أن استنفدت كل الحلول الخاطئة، فأما أن يقبل بالممكن أو المزيد من الدماء والخسائر البشرية الهائلة. ومع ذلك فللسيد عباس الفضل في كونه سبق رفاقه في قبول الحل الممكن والذي هو استجابة لمتطلبات المرحلة الراهنة، ونتمنى له النجاح في تحقيق هدفه وإلحاق الهزيمة بالمتطرفين الذين مازالوا يريدون مواصلة الطرق الانتحارية الخاطئة في حل القضية الفلسطينية.

ولو جئنا إلى قضيتنا العراقية، نجد أن أغلب رجال الدين، (باستثناء عدد من الفقهاء الشيعة في العراق وعلى رأسهم آية الله السيستاني)، شاركوا في تحريض الشباب في البلاد العربية والإسلامية على قتل العراقيين بحجة مقاومة الأمريكان. فأين العقل في هذا الموقف؟ في الحقيقة إن هذه الفتاوى ليست بعيدة عن مصالح أصحابها دون أي اعتبار إلى قتل الأبرياء العراقيين. فالشيخ يوسف القرضاوي أفتى بقتل المدنيين الأمريكان ومن يتعاون معهم في العراق، لأن الأمريكان صادروا (مصرف التقوى) الذي كان للشيخ ثلاثة ملايين دولار فيه من الاستثمارات. ولكنه استنكر التفجير الإرهابي الذي حصل في قطر لأن قطر مصدر رزقه. كذلك شيوخ الأزهر حذوا حذو زميلهم القرضاوي فأصدروا الفتاوى يحرضون بها الشباب على مقاومة الأمريكان ومن يتعاون معهم في العراق، وأفتوا لهم حتى بعدم الصوم في شهر رمضان من أجل الحفاظ على قوتهم الجسدية لمواصلة "الجهاد". والإرهابي لا يميز في هذه الحالة بين المدنيين العراقيين وغيرهم، فالقتل عشوائي ولم نسمع من رجال الدين أي إدانة للقتلة. ولكن ما أن حصلت الأعمال الإرهابية في القاهرة حتى هرع شيوخ الأزهر إلى إدانتها وقالوا أنها تعارض تعاليم الإسلام الحنيف الذي يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وأن الانتحاري يموت كافراً ومصيره النار. فلماذا التمييز بين إرهاب وإرهاب والتنظيم واحد؟ فأين العقل من هذه المواقف؟
كذلك رجال الدين الشيعة من غير العراقيين، ساهموا في التحريض على الإرهاب في العراق. فهذا هو السيد محمد حسين فضل الله، الزعيم الروحي للشيعة في لبنان أفتى مراراً بالجهاد ضد من يسميهم بقوات الاحتلال في العراق ومن يتعاون معهم، الحكومة العراقية وموظفيها ورجال الشرطة والحرس الوطني. علماً بأن معظم العراقيين لا يرون في وجود هذه القوات احتلالاً بل تحريراً لهم من أبشع احتلال داخلي مافيوزي بعثي مجرم. ولم يدن السيد فضل الله المجازر التي ارتكبت بحق الألوف من المدنيين العراقيين ولكننا سمعناه مستنكراً فقط عندما وقع الإرهاب ضد الشيعة في باكستان، كما وسارع في إدانة ما سمي بالاعتداءات على الفلسطينيين في العرق والتي كذبها حتى السفير الفلسطيني في بغداد. فرجال الدين هؤلاء يدينون الإرهاب عندما يحصل في بلدانهم أو في باكستان ولكنهم يسمونه جهاداً يفتون له في العراق. فأين العقل من كل هذا؟
كذلك سمعنا عدداً من آيات الله في إيران يحرضون على "الجهاد" في العراق بحجة مقاومة الأمريكان، وعلى رأسهم مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، بل راح آية الله مشكيني إلى أبعد من ذلك فدعا العراقيين إلى مقاومة الأمريكان حتى ولو أدت المقاومة إلى فناء نصف الشعب العراقي. فأين العقل من هذه الفتاوى عند أناس يدعون أنهم يتحدثون باسم الله والمفترض بهم أنهم أصحاب علم وعقل وحكمة؟

ولم يتوقف التحريض على الإرهاب في العراق على رجال الدين والإعلام والسياسة في البلاد العربية والإسلامية، بل تعداه إلى الشعوب. فقد سمعنا بالاحتفالات وتبادل التهاني بين الأردنيين عندما قام انتحاري أردني بتفجير نفسه وقتل ما يقارب 130 عراقياً وجرح مائتين في الحلة. ولما استنكر الشعب العراقي هذا التشفي من الأردنيين، سارع الملك عبدالله لاحتواء الموقف واستنكاره لذلك خوفاً على مصالح الأردن في العراق، ولكن كان ذلك مجرد ذر الرماد في العيون ومحاولة لامتصاص غضب العراقيين. فما زال الشعب الأردني يواصل ابتهاجه عند سماعه بأي تفجير ضد العراقيين وقتل المدنيين ورجال الشرطة والحرس الوطني ويعتبرونه نصراً للمقاومة العربية-الإسلامية البطلة ضد المحتلين وعملائهم!!! فأين العقل من كل ذلك؟
وأخيراً وليس آخراً، ماذا عن هذا الجنون الانتحاري الذي يقوم به فلول البعث الساقط وحلفاؤهم السلفيون القاعديون والناطقون باسمه الذين يدعون أنفسهم ب "هيئة علماء المسلمين" والذي يتلقى الدعم من قطاع واسع من السنة العرب ومعظم الدول العربية، حكومات وشعوباً؟ أليس بينهم من عاقل واحد؟ إذ هناك منطقة في جنوب بغداد تسمى بمثلث الموت، يقتلون فيها كل شيعي يعثرون عليه على الهوية المذهبية. فأين العقل من هذه الجرائم؟

خلاصة القول، إن سقوط النظام البعثي الفاشي قد كشف حقيقة عفنة تزكم الأنوف وسوف تبقى آثارها المخزية المؤلمة إلى أمد بعيد، وهي أن مكونات الشعب العراقي لم تكن منسجمة كما يدعي أتباع سياسة النعامة الذين يفضلون طمس الحقيقة في الرمال ويخدعون أنفسهم قبل غيرهم بالانسجام بين مكونات الشعب. فهذه المكونات ليست غير منسجمة مع بعضها البعض فحسب، بل إنها تحمل الحقد والعداء والرغبة في إبادة بعضها البعض والاستئثار بالعراق وثرواته دون الشرائح الأخرى أو (عليّ وعلى أعدائي يا رب، وليكن من بعدي الطوفان) وتحويل العراق إلى خرائب بلا بشر، كما وعد سيدهم جرذ العوجة. لذلك نسمع بعمليات التطهير العرقي في منطقة كركوك والطائفي في المناطق العربية التي عاش فيها السنة والشيعة خلال قرون.
كما ونسمع الآن نغمة تقسيم العراق إلى جمهوريات الموز وكانتونات عنصرية وطائفية، دول للكرد في الشمال ودولة للشيعة في الجنوب وأخرى للسنة في الوسط. وسوف يستمرون على هذه السياسة الجنونية وممارسة عمليات القتل والإبادة والمطالبة بتقسيم العراق إلى دولة الخروف الأبيض والخروف الأسود، إلى أن يصيبهم الإعياء ويستنفدون كل الحلول الخاطئة ويهلك عدد كبير من الإرهابيين والأبرياء على حد سواء، وعندها سيتوصلون إلى الحل الصحيح والذي لا يوجد غيره وهو أن يعيشوا جميعاً في عراق لكل العراقيين، في دولة ديمقراطية فيدرالية يعيش فيها العراقيون متساوون في الحقوق والواجبات، لا فضل فيه لعربي على كردي إلا بالولاء الوطني العراقي والكفاءة. فلو كان هناك فعلاً عقل له دور في التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ، لأقروا هذا الحل الصائب من الآن دون تكبد الخسائر البشرية والمادية الفادحة ودون الحاجة إلى هذا الإرهاب الجنوني، ولكن هذا يدل على أن العقل لا دور له في كل هذه العملية وإنما الذي يقرر الحلول الصائبة هو قانون الغابة، صراع الأضداد والبقاء للأصلح.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف