كتَّاب إيلاف

الفدرالية في اطار دستور مدني

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تتجه لجنة كتابة الدستور – كما هو المفروض – الى صياغة دستور للعراق بتنوعه الديني والمذهبي والقومي والثقافي والسياسي والاجتماعي. وهي اتجاهات متقاطعة تلتقي في نقطة او اكثر وتختلف في عدد من التفاصيل. او بينها كما في المصطلح المنطقي عموم وخصوص من وجه. فيكون من الصعب الاتفاق على كل القضايا بشكل يلبي طموحات الجميع، سيما وان كل واحد منها يحلم بتحقيق امنيات كبيرة، ويسعى جاهدا لفرض رأيه ووجهة نظره. بل نلاحظ تعدد الآراء في الاتجاه الواحد، كما بالنسبة للاتجاه الديني، فهناك من ينادي بان يكون الاسلام المصدر الوحيد في التشريع، ويطالب آخر ان يكون مصدرا اساسا، بينما يذهب ثالث، وربما خلاف قناعته، بان يكون الاسلام احد مصادر التشريع. هناك وجهة نظر تشترط عدم صدور قوانين مخالفة لاحكام الشريعة الاسلامية، بينما تكتفي وجهة نظر اخرى بان لا تتعارض القوانين مع قيم الاسلام.وهكذا الامر بالنسبة الى العروبة، فالعربي يعتز بعروبته ويصر على ان ينص الدستور على عروبة العراق، بينما يعتقد الاكراد ان العراق قوميتان، والنص على عروبته مصادرة واضحة للقومية الكردية. وايضا بالنسبة الى كثير من التفصيلات التي ترتبط بالقومية والدين وعلاقة السلطة بالمرجعيات الدينية، وحقوق المرأة، ومسألة الحجاب، والفدرالية، والصلاحيات، ومسألة الحرية، واللغة، و..
ان مراعاة الهوية بجميع تنوعاتها حق من الحقوق المشروعة لكل الشعب، يجب على الدستور مراعاتها بشكل من الاشكال. لكنها سلسلة طويلة لا يمكن لدستور حر ديمقراطي تعددي مراعاتها كلها، سيما ان مواد الدستور سارية على جميع الشعب، ولا يمكن لاي سلطة او فئة رفضها او التمرد عليها. فكيف يمكن صياغة دستور لكل العراقيين، وفي نفس الوقت يراعي جميع الخصوصيات القومية والدينية؟. وكيف لا يحقق الدستور رغبات الجميع؟ لقد ناضل الشعب العراقي طويلا من اجل اهداف قومية ودينية، فكيف يتخلى عنها، او عن بعضها؟ كما هناك استفتاء على الدستور فمن يضمن موافقة الشعب عليه؟ فليس المسألة هينة او بسيط، فثمة جهود مكثفة لتثقيف الاوساط الاجتماعية على رفض الدستور اذا لم يلب طموحاتهم القومية والدينية، ورفض كل انصاف الحلول والتسويات. وهي جهود كبيرة، باتت تضخ لها الاموال والامكانيات، وربما تساهم في دعمها جهات اجنبية، من اجل مصالح بعيدة المدى. وقد يفاجأ الجميع اتفاق ثلاث محافظات على رفض الدستور فتنهار العملية السياسية في البلاد، ويدخل العراق مرة اخرى في دوامة التنافس والصراع المحموم، والى متى؟ وكيف يمكن التوفيق بين الارادات المتقاطعة، والاتجاهات المختلفة؟
لا يمكن التوفر على دستور مرض ٍ الا في حالتين، اما التوافق على صيغ مشتركة تتجاوز بعض المطالب وتحجم اخرى، بان يتنازل الجميع عن خصوصياتهم لمصلحة الوطن؟ ومن سيتنازل، ومن يضحي، والكل يجد في الدستور فرصته الاخيرة؟ او ترحـّل القضايا الخلافية الى المناطق الفدرالية، لتشبع حاجات قومية ودينية لا يمكن ادراجها في الدستور لكثرة تداعياتها. فيمكن الاتفاق مثلا على صيغة محددة بالنسبة الى الاسلام باعتباره يمثل هوية غالبية الشعب العراقي، كأن ينص الدستور على ان الاسلام دين الدولة الرسمي، رغم تحفظنا الكبير على الصياغات الفضفاضة، التي لا تدل على شيء واقعا، وانما مجرد شعار لارضاء الهوية. لانا نعتقد ان الاسلام قيم انسانية قبل كل، ومراعاة الاسلام تتوقف على مراعاة قيمه واحكامه، وتتوقف على تجسده الى سلوك واخلاق تنعكس على العراق حكومة وشعبا. والاسلام يدعو الى احترام الانسان، ويضمن حرية العقيدة والفكر، وينادي بالعدل والاحسان، ويرفض الظلم والعدوان، ويحث على الاخوة والمحبة والوئام. ومتى ما تضمن الدستور قيم الدين الحنيف كان مصداقا للشعار المتقدم، سواء ذكر في الدستور او لم يذكر. وما لم يتبن تلك القيم فاي فائدة من ذكره في الدستور؟
اذن ستتحمل الفدراليات مسؤولية تكميل الطموحات القومية والدينية والاجتماعية والثقافية التي لم يتناولها الدستور صراحة. وتتبنى تفصيلات لا يسمح وضع العراق بتناولها في الدستور. أي ان موضوع الدستور ستكون القضايا الاساسية المشتركة، التي تجسد وحدة الشعب العراقي، وحدته في انتمائه الوطني والثقافي والسياسي. واما القضايا التي تمثل ارادة جزئية (دينية او قومية) فيفترض بلجنة صياغة الدستور ترحيلها الى الفدراليات والمحافظات للبت بها. شريطة ان يتضمن الدستور صمامات امان وكوابح قوية، لا تسمح بتمادي طائفة او جهة في أي من الاقاليم والمحافظات. فمثلا يجب ان يكون الدستور صريحا وصارما في مسألة الحريات، الشخصية والفكرية والعقدية، والدينية، وحرية الرأي، والحرية السياسية وغيرها من الحريات، وبهذا الشكل فقط تمنع أي محاولة لاستغلال السلطة في المحافظات والاقاليم بشكل تعسفي يضطهد الناس. وآنئذٍ لا تستطيع الجهات المختصة فرض تشريعات تصادر حرية الآخرين لانها مكفولة دستوريا، ومواد الدستور مقدمة على القوانين والانظمة، بل هي الاساس التشريعي لها. فمثلا لا يمكن ان يعالج الدستور مسألة الحجاب، حتى وان كانت هناك رغبة ملحة من بعض الاطراف، لكن يمكن ترحيلها الى الاقاليم والمحافظات. وهؤلاء ايضا لا يحق لهم فرض أي صيغة يرغبون فيها حول مسألة الحجاب، وانما يجب مراعاة الدستور في مسألة الحريات العامة، وتقديم صياغة تتناسب معها، فاذا كان الحجاب يتنافي مع حرية المرآة من زاوية اخرى فيفترض عدم اضطهادها، الا في اماكن محددة تفرضها جميع الاعراف والقيم الاجتماعية، كالاماكن المقدسة.
وربما هناك من يرغب جادا الى تضمين الدستور احكام الشريعة الاسلامية من غير معرفة بمقاصدها وغاياتها، ولا خبرة له بفعلية اطلاق الاحكام، ولا يفهم شيئا عن مناسبات الحكم والموضوع، وانما يرجو تطبيق الشريعة على كل حال، حتى وان افضى ذلك الى المفسدة والاطاحة بالدين والشريعة، حتى وان لم يكن الشعب مهيئا لذلك، او حتى مع امكان تحقيق نفس الهدف (الردع عن الجريمة) بواسطة احكام قانونية وضعية. ولو فرض تشكل رأى قوي داخل لجنة كتابة الدستور مع وجود اتجاه آخر رافض، فيمكن ايضا ترحيل القضية الى الفدراليات والمحافظات لتنظر فيها من خلال فقرات الدستور ومواده القانونية. فلا يحق لها تجاهل الدستور اوسن قوانين مخالفة له. فاذا كانت هناك رغبة مطلقة لدى الاقليم في تطبيق احكام القصاص والتعزيرات الشرعية، فله ذلك شريطة احترام حقوق الانسان المنصوص عليها دستوريا. بعبارة اخرى، متى تعارض القانون، سواء كان صادرا من الجمعية الوطنية او مجالس الاقاليم والمحافظات مع الدستور، يقدم الدستور عليه. وهذا صمام آمان، يمكن من خلاله تبني دستور تعددي، يحفظ للعراق هويته القومية والدينية والثقافية، ولا تحكم به جهة او فئة على حساب بقية ابناء الشعب. ويمكن للفدرالية ان تقف الى جانب الدستور لاستكمال ما تعذر ادراجه فيه لاسباب وطنية، ومن اجل المحافظة على وحدة الشعب وانتمائه. نطمح ان يكون اعضاء لجنة صياغة الدستور على مستوى عال من الوعي والمسؤولية التاريخية، ولا يكونوا حجر عثرة امام مواصلة كتابة الدستور ولم يبق من الوقت الا النزر اليسير، من خلال اصرارهم على قضايا لا تمثل قاسما مشتركا لجميع العراق، ونتمنى عليهم مراعاة ما جاء في البيان الذي اصدره نخبة من المثقفين العراقيين والمنشور حاليا في صحيفة ايلاف الالكترونية بعنوان: (من اجل دستور عراقي مدني). الذي تضمن اسسا مشتركة لعراق فدرالي تعددي، يحفظ للعراق والعراقيين حقوقهم، ويحول دون استغلال الدستور او تكريسه لصالح جهة او فئة معينة.
https://elaph.com/amp/ElaphWeb/ElaphWriter/2005/6/70511.htm
كل ذلك سيكون بعد اقرار الفدرالية وبيان طبيعتها وحدود سلطتها وطريقة عملها، والصلاحيات المخولة لها، وهل هي فدرالية اقاليم ام محافظات، ام فدرالية متنوعة؟ فدرالية جغرافية، او فدرالية اثنية، حسب القوميات والمذاهب.
والخلاصة، يجب تكريس الدستور لتبني القواسم المشتركة وترحيل القضايا الخلافية الى الفدراليات والمحافظات لمعاجلتها من خلال الدستور وليس خارجا عنه. وهذا كما نعتقد اقصر طريق وافضل منهج لصياغة دستور بلائم العراق في هذه المرحلة التاريخية.
Majed15000@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف