الانبهار بالغرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كثيراً ما يُعيّرُ بعض الكتاب (المتكلسين) خصومهم من (المتنورين) بأنهم منبهرون بالغرب؛ وأنهم تنكروا لحضارتهم وقيمهم التاريخية، والتحقوا بحضارة (العدو)، الذي يسعى إلى (القضاء) على ثقافتهم، وإحلال ثقافته محلها.
هذه المقولة، أو قل: التهمة، كثيراً ما نسمعها تتردد على ألسنة عدد من (المحافظين)، الذين وجدوا في التقوقع في شرنقة (الأنا)، والانكفاء على الذات الثقافية، و الوقوف كحجر عثرة في طريق تلاقح الثقافات، خير وسيلة (للدفاع) في زمن الانكسار و الهزيمة التي نعاني منها حضارياً، ويعاني منها أيضاً معنا كل الشعوب الناطقة بالعربية من حولنا.
وليس لدي شك في أن الإنسان الذي يرى ما وصلَ إليه الغرب من تقدم ورقي وحضارة في كافة المجالات، ثم لا (ينبهر) بهذه الحضارة، هو بكل تأكيد إنسان مغالط، يعاني من خلل في الرؤيا، إذا لم يكن إنسان (عصابي) بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ولعل أول احتكاك تم بين ثقافة الغرب المعاصرة وبين ثقافات شعوب منطقة الشرق الأوسط، كان على وجه التحديد عندما غزا نابليون مصر عام 1798 م. هذه الغزوة كانت تاريخياً بمثابة (الصدمة) الحضارية التي أربكت الشعوب الناطقة بالعربية تحديداً، وجعلتهم يتساءلون: لماذا هم (متقدمون)، ونحن (متخلفون)؟. لماذا هم (علميون) ونحن (جهلة)؟، لماذا هم (عقلانيون) ونحن (حالمون)، لماذا هم (أقوياء) ونحن (ضعفاء)؟.
انقسم العالم الشرقي، (أدناه وأقصاه)، أمام الحضارة الغربية المتفوقة إلى معسكرين: معسكر (الشرق الأدنى) الذي أصر على (ثقافته)، وراح يبحث عن (مبررات) وأعذار لتخلفه، ويتلمس لهذا التخلف حلولاً حضارية (شكلية) في غالبيتها، و(تلفيقية) في البعض الآخر منها، تستعيد (الماضي)، ليسَ لتفهمه وتستوعبه وتنطلق منه، وإنما (لتبكي عليه)، و (تتحصن) فيه، و تجتره من جديد ؛ حلولاً هي في واقعها أقرب إلى حلول (النعامة والصياد) منها إلى الحلول التي تقيلُ عثراته، وتنتشله من تخلفه.
أما معسكر (الشرق الأقصى) فأخذ بأسلوب (التقليد) و سلوك المحاكاة والمقاربة، والاستفادة من الثقافة الغربية باستيعاب (منجزاتها) على المستوى الفلسفي والمعرفي.
فماذا كانت النتيجة؟.
استطاع الشرق الأقصى (بمحاكاته) للغرب محاكاة فلسفية ومعرفية حقيقية أن يتحرر من تخلفه، وأن يلحقَ بركب الحضارة ؛ بل وأن يسبق الغرب، وثقافة المصدر، ويتفوق عليها في مجالات عدة. وليس هناك أكثر وضوحاً على ما أقول مما وصل إليه اليابان والصين وكذلك النمور الآسيوية من حضارة وتقدم تؤكدها الأرقام الإحصائية التي لا تكذب. وما كان لهم أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا أنهم (انبهروا) ـ أولاً ـ بثقافة الغرب، ثم تحولَ هذا (الانبهار) إلى محاكاة وتقليد، ثم إلى واقع حضاري ملموس.
بينما بقيت شعوب الشرق الأدنى قابعة في ذيل الركب؛ مجرد (عالة) على غيرهم (الغرب و الشرق معاً) في كل المجالات.. أو بصورة أدق كائنات إنسانية (مستهلكة) لا تعرف إلا إنتاج (التخلف)، والإمعان في (المغالطة) والإصرار على (التشبث) بالراهن، ونبذ التغيير؛ وكأن الثبات و الجمود فضيلتان من الفضائل في القواميس الحضارية.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقال له بعنوان (الحداثة والتقليد) ما نصه: (تراثنا جزء من التاريخ، جزء من تراث الإنسانية جمعاء. وإذا حصلَ أن تمكن قسمٌ من الإنسانية من تجاوز هذا التراث الإنساني العام، فما على الباقي ألا أن ينهض ويُسابق الخطى في اللحاق بالركب الرائد. نعم قد نجد هذا الركب الرائد يغيرُ لباسه كل يوم ( آراءه ومناهجه )، غير أن ذلك ليس عيباً، ولا نقصاً، بل العكس هو دليل الحياة، دليل التقدم.. وإذا لم نفعل مثلهم، إذا لم نجتهد في الاستفادة من جميع "الألبسة" فإنها ستتراكم أمامنا، تدفع بنا إلى المؤخرة باستمرار، فتزداد المسافة بيننا وبين الحداثة باطراد... والحداثة اليوم ديدن الحياة في كل مجال: الحداثة الفكرية ضرورة لانتاج المعرفة، ضرورة للتجديد والاجتهاد في كل ميدان.. ).
بقي أن أقول أن (الانبهار) بالغرب لا يعني إطلاقاً أن هذا الانبهار و الإعجاب في بعده الثقافي يعني (إلغاء الذات)، والتنكر للماضي، كما يُحاولُ أن (يُفبرك) بعض الكتاب المؤدلجين، وإنما يُمكن القول، وبقدر كبير من الموضوعية، أن (الانبهار) بما وصل إليه الغرب من منجزات حضارية لم يبقَ إنسانٌ على وجه الأرض لم يستفد منها، هو في تقديري بمثابة (شرط الضرورة) للتعلم منهم، و التتلمذ على أيديهم، للهروب من التخلف، واللحاق بركب الحضارة الإنسانية، دون أن يكون ذلك على حساب الماضي بأي وجه من الوجوه.