الهمّ السوري III: الكفر بالوطن والتوبة إليه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أعود إلى الكتابة بعد طول انقطاع سببه عطلة قصيرة وأسفار كثيرة تشتِّت الذهن وتمنع التركيز. ملاحظة قصيرة أسوقها مضطرًا وهي أَّنني منذ بدأت الكتابة سنة 1997، أوقِّع بالاسم الثلاثي الصريح على كلِّ مقال أكتبه، ولا أوقِّع على أيِّ مقال يكتبه أحد غيري، فاقتضى التنويه.
أمَّا مقال اليوم فيقع في سياق مقالين كتبتهما في 18/5/2004 و 25/5/2004 على التوالي بعنوان "الهمُّ السوري" و"الهمُّ السوري II"، وهما منشوران في كتابي الجديد "منحاز بلا حدود".
مقال اليوم يتعرَّض لنوع جديد من الهمّ السوري ربَّما يكون أشدُّ فتكًا من تلك التي تعرَّضت لها في المقالين المذكورين، ولكنه في الوقت نفسه، يلحظ بصيصًا جديدًا، وإن متفائلاً، من أمل.
دمشق، الثلاثاء، 5 تموز (يوليو) 2005
الكفر بالوطن
لا أدري ما إذا كانت "المرسيدس" السوداء التي تجاوزت سيَّارة التاكسي حقيقة أم وهمًا في ذهن السائق، فقد كنت ما أزال في عالم فرقة "إينانا" للرقص الشعبي ولوحاتها الرائعة، حين انطلق السائق في حملة من الشتائم على المسؤولين وأبناء المسؤولين الذين يسوقون المرسيدس السوداء وكأنَّ الطريق "ملك أبوهم". لم يكن في هذا القول ما يدعو للاستغراب، فهذا ما تسمعه في أكثر من بلد عربي لا سيَّما في لبنان. ولكن ما ختم به السائق عبارته أرسل قشعريرة في جسدي. قال: "والله إنَّني أبحث عن بلد أسافر إليه، أي بلد، أمريكا، دولة عربيَّة، إسرائيل، نعم إسرائيل، - قالها بتحدٍّ حين لاحظ أنَّني جفلت من قوله مستهجنًا – أريد أن أخلص من الفقر والذل في هذا البلد."
سبب نقمة السائق، وهذا ملخص لحملة شتائم لم تتوقَّف حتَّى انتهاء الرحلة القصيرة من المسرح إلى الفندق، هو الفقر المدقع الذي يعيشه كجامعي يقود سيَّارة أجرة، والذل الذي يتعرَّض له يوميًّا، في موازاة ما يراه ثراء فاحشًا ناجمًا عن سرقة البلد على أيدي "المسؤولين" وأبنائهم الذين يتحكَّمون في رقاب العباد على حدِّ قوله. أعترف أنَّني لم أرَ في حياتي مقدارًا من الغضب والحقد ينفلتان بدون ضابط ولا خشية كما رأيت في تلك اللحظة.
الفقر والشعور بالذل، إنَّهما مزيج يفتك بالمواطن والوطن ويفتح نوافذ وأبوابًأ للعدوِّ ويقدِّم له جيوشًا من المرتزقة الحاقدة وبأرخص الأثمان. لن أناقش صحَّة دعوى السائق أم بطلانها، فهذا غير مجدٍ. يكفي أن يتجذَّر الانطباع في ذهن المواطن بما يدفعه إلى هذا الشعور بالحقد، فيكفر بوطنه ويصبح مستعدًّا للارتماء في حضن العدو.
ثلاثة أحداث أخرى وردت في الأنباء في الأيَّام القليلة الماضية. الأوَّل، نبأ إلقاء القبض على شخص كان يحاول تهريب ثلاثين مليون ليرة سوريَّة وغيرها من العملات بما تصل قيمته إلى حوالي المليون دولار أميركي إلى لبنان. وقد اعترف المهرِّب، كما تواتر، أنَّ تلك كانت محاولته الخامسة. ترى كم مهرب مثله لم يلق القبض عليه! النبأ الثاني محاولة تهريب أسلحة ومتفجِّرات إلى سورية عبر لبنان، والثالث نبأ تبادل إطلاق النار بين مجموعة مسلَّحة ورجال الأمن ممَّا أسفر عن استشهاد ضابط سوري وجرح ثلاثة من عناصر الأمن.
في رأينا، ثمَّة رابط يجمع بين كلِّ ما تقدَّم. الأموال التي تهرَّب من سورية هي أموال يجب أن تستثمر في ترقية حياة المواطن السوري. طبعًا، يبقى السؤال من أين جاءت هذه الأموال؟ عكسًا، نسأل عن الجهة التي كانت ستستلم الأسلحة المهرَّبة إلى سورية. نجمع الاثنين لنسأل، ترى لو تيسَّر لسائق التاكسي الناقم من يدفع له ليهرِّب الأموال، أو ليستقبل الأسلحة، بل لكي يستعملها ضدَّ مواطنين له كما فعل الذين تبادلوا إطلاق النار مع رجال الأمن، هل كان يتوانى عن ذلك؟ الجواب، انطلاقًا من الحقد الذي كان يطفو من بين شتائمه هو "كلاَّ". إنَّه مواطن كفر بوطنه، ومن يكفر بوطنه، بغضِّ النظر عن الأسباب، يستحلُّ كلَّ المحرَّمات.
جَرَمَانا، الأربعاء، 6 تموز (يوليو) 2005
والتوبة إليه
جرمانا ضاحية شعبيَّة من ضواحي دمشق. موعدنا في قاعة جمعيَّة خيريَّة اجتماعيَّة لحضور حفل لفرقة "قوس قزح" بقيادة مديرها الفنَّان حسام الدين بريمو. شيئًا فشيئًا تمتلئ القاعة بالحضور من أبناء المحلَّة، رجالاً ونساء من مختلف الأعمار. الأطفال كُثَرٌ يركضون بين الكراسي، يقتربون من المسرح ويتفَّقدون الآلات الموسيقيَّة. الجو يذكِّرك بالقاعات الشعبيَّة ألتي قدَّمت أجمل أعمال موزارت يوم نَبَذَه البلاط الإمبراطوري، كما يصف ذلك فيلم "آماديوس". يصعد المنشدون إلى المسرح، يواجههم قائدهم حسام الدين. يتأهَّبون، إشارة صغيرة من يده، تنطلق الأصوات، فتحبس النفس في الصدر ولا تفرج عنه إلاَّ بعد انتهاء الحفلة كاملة.
عشرون منشدًا ومنشدة مع ناي وعود وبزق وإيقاع وفلوت أنشدوا عددًا من الأغاني التراثيَّة لسيِّد درويش والرحباني وزكي ناصيف، مع بعض الأغاني الشعبيَّة القديمة من منطقة السويداء. معظم الأغاني قدُِّمت بدون موسيقى. أجملها في رأيي كانت ثلاث: واحدة تصف السوق الدمشقي حين يتبارى البائعون في النداء على خضارهم، الثانية قطعة تراثيَّة متعدِّدة الأصوات صعبة الأداء، أمَّا الثالثة – المذهلة – فكانت تعبيرًا ساميًا لما سمَّاه الأستاذ بريمو "الدين السوري"، فجاءت قطعة متعدِّدة اللغات: عربيَّة وسريانيَّة ويونانيَّة ولاتينيَّة، موحَّدة اللحن تتداخل فيها الألحان الكنسيَّة مع الأناشيد النبويَّة في انسجام تام.
من الصعب جدًّا وصف الموسيقى، ولكن من الممكن وصف تأثيرها في النفوس لا سَّيما الأطفال. طوال تقديم الأناشيد، كان الأطفال مثلهم مثل الكبار مشدودين إلى المسرح، كان الفرح الذي أطلقته الموسيقى في النفوس حقيقيًّا، وكان الإعجاب بالعمل المتقن، على صعوبته وتعقيده عفويًّا. كانت الموسيقى، في تلك اللحظة استراحة لأهل الحي الفقراء الذي كان بينهم ربَّما من هو أشدُّ فقرًا وبؤسًا ومذلَّة من سائق التاكسي.
لقد نقَّب الأستاذ حسام الدين بريمو في أصالة الشعب، واستخرج من مخزونه الثقافي والنفسي جواهر مكنونة أعاد صياغتها بما أضاف إلى قيمتها الأساسيَّة الماضية قيمة مستقبليَّة، مؤكِّدًا على أمرين: "أنَّ في النفس السوريَّة كلَّ فكر وفن وجمال في العالم"، كما أكَّد على وحدة التراث الروحي السوري.
ليت سائق التاكسي سمع يومًا أناشيد "قوس قزح"، وليت المسؤولين وأبناءهم يستمعون إليها كذلك. إنَّ فيها من السمو ما قد يدفع الجشِع الذي يسرق إلى وطنه إلى الاستغفار منه، وما قد يدفع بالذي يكفر بوطنه إلى التوبة إليه.
شكرًا لك حسام الدين بريمو، شكرًا لكِ فرقة قوس قزح.