نعم للتماسك العائلي ولكن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحلقة الأ خيرة
قد نرى عائلة حقا متماسكة، أي متعاضدة فيما بينها، ولكن يجب التفتيش عن سبب هذا التماسك، وكثيراً ما نكتشف أن هناك أكثر من سبب، وليس سراً أن شعور العائلة بخطر خارجي قد يؤول إلى نوع من التماسك، ينمو باطراد، هذا الخطر الخارجي قد يكون بسبب عدو معين، أو بسبب عدو غير محدد، كأن يكون لصا، وقد يكون العدو عصابة سطو ونهم واغتصاب، المهم هناك ما يدعو إلى التماسك، ولكن هذا ليس تماسكا حضاريا بطبيعة الحال، تماسك ظرفي، صنعته الظروف، الحاجات المؤقتة. لذلك ليس من المستبعد أن يتهاوى مجرد أن ينتفي هذا الخطر الخارجي المؤقت. وقد يتماسك أبناء العائلة الواحدة لمواجهة خطر الفناء، من نقص بالأموال والأنفس وغيرها، وهو الآخر تماسك ناشي من أسباب لا تمت بصلة إلى الأفق العالي من السمو الحضاري والرقي ا لحياتي، يتصل بعالم الغريزة، بعالم البقاء من اجل البقاء، وهو حق بطبيعة الحال، ولكنه ليس تماسكا يرتقي إلى مصاف الفكر، مصاف الشفافية الروحية. لا أريد أن اقلل من شأن هذا التماسك، هو حق كما قلت، ولكنه لا يبني لآماد طويلة، ولا يساهم في تأسيس الوجود الاجتماعي الحي، الوجود الاجتماعي الشفاف. وقد يتأتى التماسك العائلي لوجود أب دكتاتور طاغية، يمارس سلطته المادية والروحية، يرسم لكل فرد من أفراد العائلة دوره ووظيفته وعلاقته بالآخر داخل العائلة وخارجها، يوزع المهام بإصبع آمر، لا يقبل نقطة وسطا بين ( نعم ) و ( لا ). ينشد أفراد العائلة لبعضهم بلحاظ تلك الأوامر السلطوية النازلة من عرش الأبوة الصد. هناك تماسك مراقَب، تماسك محكوم بعقد سري، نازل من سبب الوجود اللحمي في لحظة قد تكون مجنونة ! وقد يكون وراء هذا التماسك عقيدة، بصرف النظر عن كونها سليمة أ و غير سليمة ــ وأنا أتحدث هنا عن الموقف النسبي من قضية المعتقد ــ هناك تواصي بعقيدة معينة، هي التي تشدهم لبعضهم، هي التي تشكل لحمتهم، وقد تكون سببا في تواصي اقتصادي وسياسي...
ليس من شك أن هذه الألوان من التماسك العائلي ليس له سبب واحد، سبب جامد، سبب متفرد، بل هناك شبكة معقدة من الأسباب والعوامل، هناك أسباب اقتصادية وأسباب اجتماعية وأسباب دينية، ليس الأمر بهذه السهولة، ولذا قد نجد أستاذا جامعيا، مختص بعلم الاجتماع، خبير بعلم النفس، مطلع بعلم التاريخ، بارع في المنطق
والرياضيات... ولكن رغم كل ذلك يتأثر بمثل هذه الألوان من التماسك العائلي، يعيش في قلب لندن ــ ولندن اليوم منكوبة بقنابل السفلة ــ ولكن يتعامل مع أخيه بروح التماسك العائلي القائم على سبب اقتصادي أو وجاهي أو سياسي... يطبق القانون الجاهلي البغيض، أي القانون الذي يقول بنص العبارة، وبصريح الفكرة : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.
هذه الألوان من التماسك العائلي تنظر إلى العائلة بأنها الوحدة الازلية، قد تتحول إلى بديل عن الله، عن التاريخ، عن الحقيقة كلها... هذه الألوان من التماسك تؤسس لانعكاس محصور بين الذات وكيانها، يقوم على مبدأ نهاية الأشياء عند حدود العائلة، هنا، يكمن السر، وهنا منبع السحر الكوني، وهنا تقف عجلة المنطق، وهنا يُختصر الوجود كله.
إن هذه الألوان من التماسك الاجتماعي لا تلغي أبدا كون العائلة وحدة اجتماعية بطبيعة الحال، لأنها على صلة بالآخر، صلة بغيرها، سلبية أو إيجابية، صلة فاعلة ومنفعلة، ليس في ذلك شك، ولا يمكن لأي عائلة أن تستقل بنفسها اليوم، هذه حقيقة كبرى، ولكن وحدة اجتماعية ميتة، سلبية ، لا تعطي إلا بحدود، وحدة اجتماعية كسيحة، ليست خصيبة العطاء، مشدودة إلى ذاتها أكثر من أن تكون منشدة إلى العائلة الكبرى، إلى المجتمع، ولذا لا تساهم في إنارة المجتمع على صعيد حضاري حي، على صعيد مدني نير، حتى إذا كان جميع أبنائها مهندسين وأطباء ومعلمين وتجار !
إن معادلات الاحترام والحب والتصافي والتآخي في محيط هذه العائلات محيط مشوب بالكدر، كدر داخلي، كدر خفي، لأنها معادلات غير نابعة من الرصيد الروحي للنفس الإنسانية، بل من الرصيد الغريزي، حب في المصلحة، واحترام ظاهري، وتصافي مؤقت، وتآخي محسوب بالخطوات المتجهة نحو رقم محدد سلفا.
حقا، هناك علاقات صداقة أعمق من علاقات عائلية، وكان رائعا ذلك الرجل الذي سئل يوما عن أيهما أحب أليه أخوه أم صديقه، فأجاب أخي إذا كان صديقي، ذلك أن الرابطة الروحية عند هذا المجيب هي ألأساس، رابطة القلب، رابطة الضمير.
كثيراً ما نسمع انشقاقا عائليا كبيرا، ولما نفتش عن السبب، سنجده خلافاً على إرث، أو خلافاً على صفقة تجارية، فيما ترى هذه العائلة منعزلة عن غيرها، لا تعرف من تماس خارج حريمها، مشدودة إلى لحمتها الخاصة، هذا ما نشاهده قبل، ولكن فجأة، وبدون مقدمات، يتفجر خلاف كبير، يمزق هذه العلاقات، ويدمر هذا النسيج الذي يبدو كان محكما.
هناك عائلة توزع بهم الدهر بلادهم، وفرق الظلم بين أولادها وبناتها، وتهادت بهم محن الرزق هنا وهناك، على مسافات بعيدة من الزمان والمكان، ولكن التآلف بينهم قوي، يسري في عروقهم، ولو فتشت عن السبب ربما تجد لان العلقة التي كانت تحكم بين أبنائهم وبناتهم هي علقة روحية، لقد كانت النقاشات في صالة البيت تدور حول العالم، وحول الوطن، وحول المحلة، وحول شؤون الإسلام والمسلمين، وحول الفقر والفقراء، وحول الفن، حول رقة الصوت الفيروزي، حول صوت أصالة نصري، وإجادة المنشاوي، وحول أزهار المدينة، وحول مسجد المدينة...
هذه الروحية الشفافة الرائعة هي التي أمرنا بها الدين الإسلامي الحنيف ، هذا الدين الذي خربه رجاله، وعبث به أعداؤه... هذه الروحية الشفافة التي كانت سائدة في صالة البيت، في حديقة البيت، في ممرات البيت، في مكتبة البيت، في مطبخ البيت... هذه الروحية الشفافة هي التي مكنت العلاقة من الضمير، وجعلتها أ قوى من مسافات البعد، ومسافات الفراق...
هنا تماسك عائلي فريد، يجيش بالحيوية، وبالحب الحقيقي، وهناك تماسك عائلي صلف، قاسي، أسود، مملوء بالأسرار، يطوف على معلومات سرية، يطفح بالخوف والأنانية والحقارة.