ماذا تعني القيم الأخلاقية في الدستور العراقي الدائم؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في الثلاثين من شهر حزيران الماضي نشرت صحيفة المدى البغدادية مسودة الباب الثاني من الدستور الدائم.وجاء في الفقرة الثالثة من المادة الخامسة المعنونة باسم "المقومات الأساسية للمجتمع" ما يلي"
"الأسرة نواة المجتمع الأساسية قوامها الدين والعلم والأخلاق وحب الوطن ويحفظ القانون كيانها الشرعي المقدس ويقوي أواصرها وقيمها وعلى الدولة كفالة حمايتها ودعمها وحماية الأمومة والطفولة ونشر ودعم وترسيخ القيم الأخلاقية وثقافة التسامح... وتتحمل الدولة مسؤولية مكافحة الانحراف الأخلاقي والسلوكي وتشجيع الأشخاص والجهات العاملة على نشر الفضيلة وتقدم لها العون والإسناد"
وجاء في الفقرةالاولى من المادة الثالثة عشر ما يلي:
"الحريات العامة والخاصة مصونة على أن لا تتعارض مع القيم الأخلاقية والآداب العامة".
وفي الفقرة الثانية من نفس المادة ورد ما يلي"
"حياة المواطن الخاصة مكفولة وله حق التمتع بها مع مراعاة القيم الأخلاقية والآداب ولا يحق لأي مواطن التعسف في استخدام حقه أو يجعل من ممارسة أي حق من حقوقه ... /الجملة غير كاملة في النص/.
يبدو أن الذين شاركوا في كتابة مسودات النصوص المذكورة كانوا فريقين تتنازعهم، قبل أن تظهر النصوص بصيغتها التي وردت توا، خلافات تتعلق بمعنى وبمحتوى مفهوم الحريات الشخصية، و أيضا، بعلاقة الدولة بالفرد. نفترض أن الفريق الأول كان يسعى إلى رفع أي قيد يقيد الحريات الشخصية، ولا يحبذ منح وصاية "أبوية" للدولة على الأفراد. وفي ظننا، أن هذا الفريق كان يريد السير على هدى الفقرة (و) والفقرة ) ح) من المادة الثالثة عشر من الباب الثاني في "قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية" والذي ورد تحت عنوان "الحقوق الأساسية"، وليس "المقومات الأساسية" مثلما هو الحال في المسودة المقترحة التي ذكرناها توا، والفرق كبير بين الحقوق والمقومات.
نصت الفقرة (و) على ما يلي: للعراقي الحق بحرية الفكر والضمير والعقيدة الدينية وممارسة شعائرها ويحرم الإكراه بشأنها.
وورد في الفقرة (ح) ما يلي: للعراقي الحق بخصوصية حياته الخاصة.
واضح، أن الفقرتين المذكورتين أعلاه لا تعطيان أي وصاية للدولة على الأفراد، فيما يخص ممارسة الحريات الشخصية. والفقرتان كلاهما لم تذكرا أي "شرط" " أو أي "استدراك" بشأن الحريات العامة والخاصة، لأنهما تفترضان أن الفرد "العراقي" يملك من المعرفة والنضج والوعي، ما يؤهله لممارسة حريته الفردية، دون أن يعتدي على حريات الآخرين، ودون أن يسبب ضررا اجتماعيا عاما.
لكن هذا المفهوم كان يجد، كما يبدو، معارضة من الفريق الآخر الذي لا يرغب، كما نفترض، أن تكون ممارسة الفرد لحريته الشخصية، ممارسة "مطلقة"، دون قيود، ودون تدخل من الدولة، و من قبل من تكلفه الدولة. ولكي يصار إلى أيجاد صيغة توفق بين أراء الفريقين، فانه تمت الصياغة بالشكل الذي ورد في مسودات الدستور التي ذكرناها. ولكن هذه الصياغة "التوفيقية"، يشوبها الغموض، وتبدو حمالة أوجه، لأنها تثير الأسئلة التالية:
ما المقصود بتعبير "القيم الأخلاقية" و"الآداب العامة"، و"الفضيلة"؟
ماذا يعني "الانحراف الأخلاقي والسلوكي" ؟ ومن يحدده، ومن أين يبدأ الانحراف وأين ينتهي ؟ هل القيم الأخلاقية ثابتة لا تتغير، مهما كانت الأيام والظروف، شأنها شأن المعادلات الرياضية، أم أنها قضايا نسبية ومتحولة، وفقا للتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسياسة والإنجازات العلمية والتنكولوجية؟ هل المقصود بالقيم الأخلاقية، المعنى الديني، حصرا، أم المعنى العام؟ وإذا كان الافتراض الأول هو الصحيح، فأي ديانة داخل العراق هي المقصودة، الإسلام، المسيحية، المندائية، اليهودية، الأيزيدية ؟ من هم "الأشخاص" و"الجهات" العاملون من أجل نشر الفضيلة؟
كيف يتم تعريفهم، ووفق أي أسس يتم اختيارهم، ومن يحدد صلاحياتهم، وما هي الوسائل والطرق التي ينشرون عبرها "الفضيلة" داخل المجتمع ؟ وهل هم تابعون للحكومة، أو مليشيات شبه عسكرية، أو ينتمون لمنظمات المجتمع المدني؟ ما المقصود بتعبير أن الأسرة قوامها " الدين والعلم والأخلاق"؟ ماذا يحدث إذا تعارض العلم مع الدين، في قضية الاستنساخ البشري، مثلا، أو قضية الإجهاض؟
إننا نعرف أن "الأخلاق" و"الفضيلة" و"الآداب العامة" ليست معادلات رياضية ثابتة، لا تتغير، مهما مرت السنون والأيام. إنها قضايا نسبية متغيرة، تبعا للزمن، وللمتغيرات الكثيرة والمختلفة التي يواجهها المجتمع. إن الأخلاق تولد من رحم المجتمع لتسد حاجاته، وهي تكبر وتنمو وتترسخ، أو تضمحل وتتلاشى، وفقا لحركة المجتمع. وما من عامل واحد فقط، يصوغ الأخلاق، وإنما عدة عوامل. من هذه العوامل، الأديان السماوية والوضعية، والتلاقح الحضاري بين الأمم، والتغيرات الاقتصادية والسياسية. أي أن الديانة، سواء كانت سماوية أو وضعية، لا تخلق، وحدها، القيم الأخلاقية. فقد عرفت البشرية عبر مسيرتها الطويلة، وقبل ظهور الأديان بزمن طويل، قيما أخلاقية، ونصوصا قانونية تحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. وهناك الكثير
الكثير من العادات والتقاليد داخل المجتمع العراقي، ما يزال العراقيون يتمسكون بها ويراعون تطبيقها، رغم أنها غير ممنوعة قانونيا، ولا محرمة دينيا. وهناك ، أيضا، عادات وتقاليد "قيم أخلاقية" استعصت حتى على الدين، فلم يستطع القضاء عليها أو حتى أن يشذبها. فقد ظل العراقي، على سبيل المثال، يقتل أمرأته غسلا للعار، حتى بدون أن تثبت عليها تهمة الزنا، رغم معارضة هذه العادة الأخلاقية للقيم الإسلامية. وهذه العادة الأخلاقية نفسها، واجهت "إجتهادات" "أخلاقية" في تطبيقها، حتى داخل البلد الواحد. فأهل الريف يتشددون في تطبيقها، بينما يتساهل بشأنها الحضر. وبينما كانت هذه العادة شائعة جدا في بداية القرن الماضي، فأنها تكاد أن تتلاشى في الوقت الحاضر. وهذا التراجع حصل بسبب ما استجد من عوامل دنيوية وليست دينية، كانتشار التعليم، مثلا. فالنصوص الدينية التي تحرم قتل النفس بدون حق، كانت وما تزال هي نفسها لم تتغير، لكن "العادة" الأخلاقية هي التي تغيرت، أو قل أن البشر هم الذين تغيروا. وهناك الكثير من العادات والتقاليد الدنيوية الأخرى التي أصابها التعديل أو التغيير أو حتى الاضمحلال النهائي، بسبب التراكم الزمني، أي المتغيرات المستجدة داخل المجتمع.
وهكذا، فإن ما كان يعتبر، قبل ألف عام، أو قبل قرن، أو حتى قبل عقد، مقبولا، على الصعيد الأخلاقي، لم يعد، بالضرورة، مقبولا في الوقت الحاضر. كذلك، فان ما هو مقبول في الوقت الحاضر، لن يظل، بالضرورة، مقبولا في المستقبل.
ففي بداية القرن الماضي، ما كانت امرأة عراقية واحدة تسير مكشوفة الرأس في شوارع المدن العراقية، ناهيك عن ذهابها للتعلم في المدارس العامة، ومشاركتها في الحياة السياسية والاجتماعية. لكن ذاك الوضع تغير تماما، منذ بداية منتصف القرن الماضي، إلى حد أن المجتمع العراقي قبل، في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، أن تكون واحدة من نسائه وزيرة في الحكومة. وعندما حل العقد الأخير من نفس القرن، ما كنا نجد فتاة واحدة غير سافرة داخل المدارس والمعاهد العلمية العليا. وبعد أن كان من المستحيل أن نجد، في بداية القرن الماضي، رجلا عراقيا واحدا يقبل أن يعاين طبيب، زوجته أو أخته أو أمه، فأننا وجدنا في نهاية القرن، مستشفيات نسائية يديرها أو يشرف عليها أطباء ذكور.
وفي أيامنا الحالية لا نجد مركزا واحدا للهو في مدينة الكوفة، على سبيل المثال. لكن الكوفة نفسها كانت، في بداية العهد الإسلامي، تضج بصنوف اللهو والطرب، المكشوف منه والمستتر. ووفقا لما ينقله المؤرخون، فان الكوفة كانت قد أصبحت "في أواخر أيام العصر الأموي، مركزا من مراكز اللهو والمجون في المجتمع الإسلامي". ثم ارتفعت "موجة الغناء والموسيقا في الكوفة في أوائل العصر العباسي، عندما أخذت هذه الموجة تنتقل من المدينة إلى العراق، حتى أصبحنا لا نجد مغنيا مشهورا في الحجاز إلا وهو يفزع إلى العراق، حيث أخذت تتكون مدارس للغناء والموسيقا، يكثر فيها الأساتذة والتلاميذ كثرة مفرطة". وكان في الكوفة الإسلامية، وهي لما تزل في بداية نشأتها، أكثر من دار للهو والمجون، أو ما تسمى في وقتنا الحاضر "كباريهات أو "مواخير"، مثل دار القراطيسي ودار محمد بن سيار ودار أبي الأصبع ودار زريق بن منيح ودار بن رامين./ الدكتور يوسف خليف، حياة الشعر في الكوفة، 1968 /
وفي أيامنا هذه، فأنه من العبث، بل ربما، وسوء الأدب وقلة الحياء، أيضا، أن تخوض في موضوع عن شرب النبيذ، حتى لا نقول عن محلات بيعه أو شربه في هذه المدينة. لكن، هذا الوضع الأخلاقي لم يكن كذلك في بداية نشأة الكوفة وتكونها، بعد الفتح الإسلامي. ففي تلك الأيام، "بلغ من انتشار شرب النبيذ بين أهل الكوفة أنهم كانوا يعيبون من لا يشربه منهم". وطبقا لما أورده صاحب العقد الفريد 6/ 371، فأنه "لم يكن أحد من الكوفيين يحرم النبيذ غير عبد الله بن إدريس، وكان بذلك معيبا."/ نفس المصدر/
وفي العاصمة بغداد، يكفي أن نتصفح أمهات كتب التاريخ والتراث، لنعرف كيف تطورت، أو تغيرت، العادات والتقاليد وكيف تبدلت المعايير الأخلاقية، من زمن لأخر. فقد كان العراقيون في بغداد العباسية "لا يرون بشرب النبيذ بأسا."/ أنظر: هوامش القاضي عبود الشالجي، في تحقيقه لكتاب الفرج بعد الشدة/. ووفقا للمعايير الأخلاقية السائدة آنذاك، فأن عادة شرب الخمر، لم تكن حصرا على السوقة وعامة الناس، إنما كانت تمارسها النخب الثقافية والسياسية، بل وحتى القوامين على نشر الأخلاق والفضيلة، كالقضاة، مثلا، ناهيك عن الخلفاء أنفسهم. / كان أبو العباس السفاح يشرب، وكذلك المهدي والهادي والرشيد والمأمون والمعتصم والواثق. أما الأمين فقد كان، إذا شرب، لا يبالي مع من قعد ولا أين قعد. وكان القاهر لا يصحو من السكر. " نقلا عن عبود الشالجي ، نفس المصدر، ج2 ص250 /.
وينقل لنا صاحب كتاب "معجم الأدباء" وصفا لمجلس شرب الوزير المهلبي، التي "كان يجتمع فيها بأصحابه من شيوخ القضاة، في كل أسبوع مرتين، فيلبسون المصبغات، ويوضع أمام كل واحد منهم طاس من الذهب وزنه ألف مثقال، مملوء شرابا قطربليا عكبريا، فيشربون، ويطربون، ويرقصون".
لكن تلك الممارسات الأخلاقية لم تظل كذلك، واختفت في الحقب التي تلت. لكنها عادت وظهرت من جديد فيما بعد. ففي العقود الأخيرة من القرن الماضي، لم تقتصر مجالس الشرب "النوادي" في العراق على القضاة وحدهم، وإنما شملت المهندسين والمعلمين والأطباء والأكاديميين وضباط الجيش والعمال والتجار وجميع أرباب المهن.
نسأل: هل كان المجتمع العراقي، في كل المراحل التي ذكرناها، خاليا من "الفضيلة"، ومجافيا ل"الآداب العامة"، وبعيدا عن "القيم الأخلاقية"؟
الجواب هو، لا.
لكنه سيكون، نعم، إذا اتفقنا مع من يرى أن المجتمع العراقي كان وما يزال، "مجتمع جاهلي"، وبالتالي فلا بد من إعادة أسلمته. وأصحاب هذا الرأي، إنما ينطلقون من موقف أيديولوجي. إنهم يريدون فرض مواقفهم السياسية على الآخرين. ومن أجل تحقيق هدفهم، فأنهم يلجأون الآن إلى تطبيق ممارسات، ليست قمعية فحسب، وإنما شاذة وغريبة عن المجتمع العراقي: منع حلق اللحى، قتل الحلاقين، جلد من يشرب الخمر وتفجير محلات بيع الخمور، مطاردة الفتيان وقص شعورهم، منع التصفيق في المحافل العامة واستبداله بأدعية، تحريم معاينة المرأة المريضة من قبل طبيب، تدمير محلات بيع الأشرطة الموسيقية... الخ./ نشرت صحيفة الصباح البغدادية بتاريخ 13 تموز الجاري تقريرا بعنوان "الأجهزة الأمنية تنتهك حقوق الإنسان"، روت فيه ممارسات عنيفة لهذه الأجهزة ضد الشباب في مدينة النجف الأشرف./
إن القائمين على تنفيذ هذه الحملات، سواء كانوا "أفراد" أو "جهات"، من الأجهزة الحكومية أو من منظمات المجتمع المدني، داخل السلطة أو معارضين لها بقوة السلاح، وسواء مارسوا أفعالهم في جنوب العراق أو وسطه أو غربه أو شماله، إنما يقولون أنهم يفعلون ذلك ل"نشر ودعم وترسيخ القيم الأخلاقية، ونشر الفضيلة". وإذا سألتهم: ألا ينص الدستور على أن "الحريات العامة والخاصة مصونة"، فسيكون جوابهم: نعم، ولكن "أن لا تتعارض مع القيم الأخلاقية والآداب العامة."
وهذه الحجة سيف ذو حدين. وهي نفسها التي كان يعتمدها نظام صدام حسين، وهي نفسها التي اعتمدتها وتعتمدها جميع الأنظمة الشمولية الديكتاتورية. ولو راجعنا نصوص الدستور في أي نظام ديكتاتوري، لوجدنا أنها تنص، وربما أكثر من غيرها، على العمل من أجل نشر الفضيلة ومكافحة الانحراف الأخلاقي والسلوكي.
إن ما يحتاجه المجتمع العراقي، بعد سنوات القمع المريرة ومصادرة الحريات العامة والخاصة، خلال العقود الأخيرة، هو إدارة الظهر دون رجعة وراء تلك السنوات، والتخلي نهائيا عن سياسة الترهيب والإكراه، والتأكيد على ثقافة "التسامح"، التي ورد ذكرها في الفقرة الثالثة من المادة الخامسة في مسودة الدستور. وثقافة التسامح تعني ضمان الحريات العامة والخاصة ضمانا أكيدا، ليس على الصعيد السياسي، بل على كل الأصعدة. وثقافة التسامح تعني، أيضا، بل وقبل كل شيء، أن الفرد "العراقي" يملك من الوعي والنضج والشعور بالمسؤولية ما يجعله يمارس حريته الخاصة، دون وصاية.
وقد كانت تجربة السنتين الأخيرتين خير برهان. إذ عاش المجتمع العراقي حريات بلا ضفاف ودون ضامن أو قيد، لكننا لم نشاهد تظاهرة واحدة، ولم نقرأ مقالا في الصحف، على كثرتها، ولم نشاهد في قناة فضائية عراقية، ولم نسمع من محطة إذاعية، من استغل حريته الشخصية وشجع على "الانحراف الأخلاقي والسلوكي" كالدعارة، مثلا، أو الشذوذ الجنسي، أو الإباحية، أو المتاجرة بالبشر، أو الترويج للمخدرات، أو للتحريض العنصري بأنواعه.
باختصار، أن العراقي الفرد، الذي استفاد من هامش الحرية الشخصية، أثبت، خلال العامين الماضيين انه قادر تماما على تحمل مسؤولية "مكافحة الانحراف الأخلاقي والسلوكي"، دون وصاية من قبل الدولة، ولا من قبل "أشخاص أو جهات" أنتدبتهم الدولة أو شجعتهم على "نشر الفضيلة"، لأن الدولة تكاد أن تكون غائبة خلال السنتين الأخيرتين، إن لم تكن غائبة، فعلا.