بين المدح والردح فى الثقافة العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الشعر هو فن وأدب العرب، فالعرب ليس لديهم "أدب" سوى الشعر، وقديما درسوا لنا الشعر وقسموه إلى عدة أقسام:
المدح: وهو عبارة عن نفاق على مستوى عال من أجل حفنة دولارات (أقصد دراهم)، أو من أجل تفادى عقاب وسيف مسعود "السياف"، وعندما كان المتنبى شاعر العرب الأول يعيش فى مصر قال فى مدح كافور الأخشيد حاكم مصر فى هذا الوقت :
يدبر الملك من مصر إلى عدن *** إلى العراق فأرض الروم فالنوب
إذا أتتها الرياح النكب من بلد *** فما تهب بها إلا بترتيب
و لاتجاوزها شمس إذا أشرقت *** إلا ومنه لها إذن بتغريب
(ديوان المتنبى صفحة 450)
(ترون أنه أعطى كافور قدرته على تسيير الرياح ( الرياح لا تسير إلا بترتيب منه)، وكذلك الشمس لا تغرب إلا بإذنه!! وهذه الأبيات من قصيدته يمدح كافور بعنوان (الملك الإستاذ) فى شهر رمضان عام 957 ميلادية.
ولما غضب من كافور وخرج من مصر ‘ إنتقل المتنبى بقدرة قادر الى القسم التالى من الشعر العربى وهو:
الهجاء : فقال يهجو نفس الحاكم كافور (الملك الإستاذ) الذى كان يسير الرياح و لاتغيب الشمس إلا بإذنه:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها *** فقد بشمن و ما تفنى العناقيد
العبد ليس لحر صالح بأخ *** لو أنه فى ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه *** إن العبيد لأنجاس مناكيد
وكما ترون لم يكتف المتنبى بهجاء كافور بإعتباره عبدا أسود، ولكن بالمرة مثل معظم العرب أخذ يهجو مصر بعد عاش بها وشرب من نيلها وهرب بدراهمها :
وماذا بمصر من المضحكات *** ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطى من إهل السواد *** يدرس أنساب أهل الفلا
وأسود مشفرة نصفه *** يقال له أنت بدر الدجى
ولن أتكلم عن باقى أقسام الشعر العربى وهى الفخر والحماسة والغزل لأنها ليست موضوع مقالى.
.....
وكثيرون يعتبرون المتنبى هو شاعر العرب وأبو الشعراء فى كل العصور وكما قالوا عنه هو شاغل الدنيا:
وما الدهر إلا من رواة قصائدى *** إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
وأنا أحتقظ بعدة كتب كتبت عن المتنبى ولا شك أنه شاعر عظيم بالمقاييس العربية ومتمكن من اللغة إلى أقصى حد، ولكنه شاعر قضى معظم حياته يرتزق بمدح الحكام، أو يهجو بعضهم (بالذات كافور) وخاصة بعد أن رفض كافور تحقيق حلم المتنبى بتوليه أحدى الإمارات، ولم يبدأ فى حملته الدعائية الشتائمية إلا بعد أن غادر مصر وأصبح فى مأمن من شره، والمتنبى وغيره من الشعراء له أثر عظيم فى بناء شخصية المثقف العربى، فالمثقف العربى إما يحب وإما يكره، وحذار من الخلاف مع المثقف العربى تبقى: "ليلتك منيلة بستين نيلة"، سوف تتهم بأنك لا تفهم شيئا وبأنك مغرور وبأنك منحط وبأنك جبان، بعد أن يكون قد خلع عليك فى السابق ألقابا كبيرة مثل : الشهم، الجرئ، المفكر العظيم، الكاتب إللى ما حصلش.
ولقد حدث لى شخصيا شيئا من هذا القبيل، فعندما بدأت الكتابة فى إيلاف على إستحياء، وكنت وما زلت أعتبر نفسى كاتبا هاويا (أو مهندسا ضل طريقه إلى الكتابة)، فلقد فوجئت برسالة تأتينى من ناقد كبير وله شهرته فى عالم الأدب والصحافة يرسل لى رسالة يقول فيها أنه يتابع كل ماأكتب وبأننى :" قد تفوقت على كل كتاب مصر الساخرين مثل كامل الشناوى ومحمود السعدنى وغيرهم". والحقيقة أنه بالرغم أنه لم يعطنى سببا منطقيا لتفوقى على كتاب مصر الساخرين إلا أننى قد سعدت بهذا "المدح" وشكرته، وفى نفس الوقت كنت أعرف قدر نفسى وأننى لا أزال مجرد كاتب مبتدئ وهاو (وصدقونى هذا ليس مجرد تواضع، ولكنه حقيقة ما أشعر به). المهم أنه بعد حوالى سنة ونصف كتبت مقال فى إيلاف لم يعجب الناقد الكبير، فأرسل لى رسالة يهاجمنى أشد الهجوم ويصفنى بأسوأ الصفات من دون أن يناقش موضوع المقال على الإطلاق ولكنه كان هجوما شخصيا بحتا، وبالطبع إنزعجت وطلبت منه توضيح الأسباب الموضوعية لهجومه، ولكنه لم يرد، وكان هذا آخر إتصال بيننا.
وأنا أذكر هذا للتدليل على أن المثقف العربى مازال يحكمه المتنبى، وانأ اقترح ترشيح المتنبى لكى يتولى رئاسة "إتحاد الكتاب العرب" مدى الحياة أو مدى الموت (لا يهم).
والمتنبى قد نزل إلى القارئ العادى، فرسائل القراء لى معظمها إما مديح لشخصى بدون إبداء الأسباب، أو هجوم يصل إلى الشتيمة أيضا بدون إبداء الأسباب.
....
ياعالم... ياهوه... شوية عقل ياناس، منطق لله يامحسنين، المتنبى مات من ألف سنة ومازال يحكم العقل العربى. نريد أفكار... نريد تصارع أفكار، دعوا الشتيمة لأولاد الشوارع المنحرفين، أفكار... نريد أفكار :
"فكرة لله يامحسنين... فكرة قليلة تمنع بلاوى كثيرة "!!
...
الآن تذكرت ستات حوارى القاهرة (حيث نشأت) فى حوارى مصر القديمة، عندما كانت الواحدة منهمن تبدأ فى موشح ردح بلدى (وتفرش الملاية)، وتقول الست ( فتكات) لجارتها الست (محاسن الصدف) وهى تردح لها وهى تستخدم كل الإشارات القبيحة بيدها ومؤخرتها وبخصرها (إن كان لها خصر) :
"يا أبرة مصدية *** جنب الحيط مرمية"
حتى الست فتكات تردح بالكلام الموزون المقفى، مدد ياسيدى "المتنبى"!!