نهاية الارهاب.. متى وكيف؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بعد كل عملية انتحارية تقع في هذا البلد او ذاك تزداد قناعتي بان الارهاب بات اخطر شيء على حياتنا ووجودنا ومستقبلنا، وبات ينتهك حرماتنا ومقدساتنا. والاخطر من كل ذلك انه يمارس فعله الشنيع باسم الدين والاله. وليس ثمة امل في نهاية قريبة للعمليات الارهابية، لانه لم يحدد هدفا واضحا لاعماله، ولا سقفا زمنيا لعملياته. بل لا هوادة ولا مهادنة ولا استقرار ما دامت هناك قناعة كافية وامدادات متواصلة. والسبب في اصرار المتطرفين الدينيين على ممارسة العنف رغم الخسائر التي مني بها الاسلام قبل المسلمين يعود الى امور:
اولا: ان الهدف الاساس لجميع المؤمنين (المسلم وغير المسلم) هو مرضاة الله تعالى. وهو هدف نبيل وعظيم بحد ذاته، الا انهم يختلفون في الطريقة والمنهج في الوصول الى الهدف المنشود. فبعض يعتقد ان مرضاة الله تتحقق بخدمة الناس، ومكافحة الفساد، وتبني قيم التسامح والعفو والرحمة والعدل والاحسان والمحبة، وترك العداوة والبغضاء والحسد والنميمة والخداع. وهي مجموع القيم الانسانية التي اكدت عليها الشرائع السماوية. فيما ذهبت الحركات الاسلامية الى حصر مرضاته في وجود دولة دينية، فاباحوا لاجلها سفك الدماء. فيما ذهب فريق ثالث وهم المتطرفون بان مرضاة الله لا تتحقق الا بالجهاد، والاقدام على فناء الحياة ليكون الموت هدفا بحد ذاته من اجل كسب مرضاته. لذا يعتقد الانتحاريون حقا انهم يقومون بافضل عمل تقربي يحرزون به مرضاته.
اذن فالارهاب يقوم على اسس عقدية وايديولوجية صارمة، تؤمن بان العمليات الارهابية اسمى انواع التضحية بالنفس من اجل رضا الله. وبما ان مرضاته مطلقة، فسوف لن تقف العمليات الانتحارية، لانها باب الله الواسعة للتقرب اليه.
ثانيا: ان الانتحار لا يعبر عن حقيقة الجهاد، وفقا لمنطق القرآن الكريم. وانما اقول منطق القرآن لاتحرر من سلطة المفسرين والفقهاء. واتحرر من سلطة السلف مطلقا، فهي لا تمثل سوى قراءات تبلورت في اطار ثقافة استبدادية، واجواء ملبدة، استغلت فيها الدين لاجل مصالح دنيوية. او هي قراءات متحيزة رغم امكانية القراءة الموضوعية، وفقا لمنطق قرآني داخلي يستوحي من مجموعة النصوص اسس وقيم الدين الحنيف. فالجهاد قرآنيا مرحلة انقضى امدها، ولا يمكن ان يكون فعليا لانه متعلق بالدين عند اول ظهوره، وقد اعلن القرآن صراحة اكتمال الدين وتمامه وانتصاره. وما خلى تلك المرحلة هو صراع سياسي، وصراع بين الاديان والمذاهب والفرق. وغالبا ما تكون صراعات سياسية أطرت بأطر دينية.
واما سيرة الصحابة فليست حجة شرعية يمكن الركون اليها في فهم الاحكام، بل الصحابة مختلفون في كثير منها. والا كيف نفسر تعدد المذاهب والاتجاهات الفقهية في الاسلام، بل كيف نفسر تعدد الآراء في المسألة الواحدة والحكم الواحد، وفي اهم شيء كالصلاة والقضايا العبادية؟ اذن فالحروب التي خاضها المسلمون قد خضعت لمنطق الدولة والسياسية والمصالح الاستراتيجية. فمثلا لم تحظ حروب الردة على اجماع الصحابة، وكان على رأس المعارضين لها عمر بن الخطاب فضلا عن الامام علي وغيرهما، وليست الحروب الاخرى بافضل منها.
ان الجهاد شرع اساسا لنصرة الرسول والرسالة عندما تعرض الدين لهجوم شرس من قبل قريش وحلفائها، من اهل الكتاب والقبائل المجاورة، فكانت حروبه دفاعية كلها او اقتضتها المرحلة. ولما انتصر الدين، انتهت الحاجة الى الجهاد بمعنى القتال، ولا يمكن الركون الى آياته، اذ ليس لها اطلاق ازماني واحوالي كما يعبر الفقهاء. وليست شاملة لكل زمان ومكان وعلى أي حال كما يرى المتطرفون. بل ان كثيرا من آيات الجهاد كانت تؤرخ لمسيرة الرسالة، او تشرع احكاما آنية ناظرة الى واقعة معينة. بعد ان دخل القرآن المعركة مع الرسول فكان يوجه ويأمر ويخطط ويحث ويصف ويقوي عزائم المؤمنين وينتقد المجاهدين، وكأن المعركة تدار مباشرة من قبل الله تعالى. من هنا اعتبر بعض الفقهاء وجود المعصوم شرطا اساسيا لفعلية الجهاد.
ثم ان آيات الجهاد نزلت في وقائع محددة، فتختص بها، كما يقول الاصوليون، باعتبارها احكاما اخذت، كما يعبرون، على نهج القضية الخارجية. مما يعني ان موضوع الحكم الشرعي يتشكل من فرد واضح ومحدد لا يقبل غيره، ولا يمكن الانتقال الى سواه، الا بحكم ونص صريح. بل لا ينعقد أي اطلاق لاي نص جهادي، مادام هناك واقع تاريخ يشهد على تقييده وتخصصه به. وسنتكلم في وقت آخر عن الموضوع بتفصيل اكثر.
والحقيقة لم يبق معنى للجهاد، اذ لا دليل على الجهاد الابتدائي، ولا يحتاج الجهاد بمعنى الدفاع عن النفس والاهل والمال والوطن الى تشريع فكل شخص يهب دفاعا عن نفسه واهله وماله ووطنه. واما الدفاع عن الدين الذي شرع لاجله الجهاد بمعنى القتال، فقد اصبح واقعا آخر، وآلية الدفاع عنه اليوم لا ترتكز الى السلاح والعنف، وانما يكون الدفاع عن الدين عبر مواجهة التحديات الفكرية والفلسفية والحضارية، والعمل على ايجاد فكر وثقافة تتناسب مع الراهن الاسلامي، وتبني القيم الانسانية، والتخلي عن التقليد والجهل والامية.
وتجدر الاشارة ان العدة المعرفية اساس في فهم النص، كاللغة والتاريخ والمنطق والقواعد الاصولية والفقهية والخبرة العلمية والحس الفقهي وقواعد الاستنباط والمقارنة بين النصوص والبلاغة واستيعاب القواعد الرجالية والحديثية. وحينما يتطرق احدهم لموضوع الجهاد تشعر بخواء عدته المعرفية، فتراه يتخبط في فهم النصوص، ولا يكون حاله افضل من المتطرفين لكن بالاتجاه الآخر. فهو يؤكد مسؤولية النصوص القرآنية في تفاقم الظاهرة الارهابية وينتقدها، وأولئك يؤكدون مسؤولية النصوص ويلتزمون بها. وبالتالي فكلا الطرفين يتجنى على النص لعدم تسلحه بعدة معرفية كافية. او انه يصر على وجود النسخ في الآيات والاحكام، ولا يعرف عن حقيقته شيء. ما هي احكامه، وكيف يتم تشخيصه؟. وهل النسخ صناعة فقهية استبدادية، ام هو حقيقة قرآنية؟ ولماذا آية واحدة تنسخ كل تسامح ورحمة وعفو ومغفرة جاء بها الذكر الحكيم؟ وهل للحكام والسياسة دور في تأكيد النسخ، وتكريس ثقافة العنف والارهاب؟ وكيف ساهم الفقهاء والسلف في ترسيخ مفهوم النسخ وتحديد مصاديقه استجابة لرضا الخلفاء والسلاطين؟ لا يمكن التوفر على قراءة ناضجة للنص المقدس ما لم نطيح بكل التراكمات التاريخية ونتعامل مع النص مباشرة.
وليعلم الجميع ان النص الكريم هو رسالة السماء الى الارض، وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل بين يده او خلفه. فما ذنب القرآن اذا لم يفهمه اهله؟ فهو يتكلم عن الامم السابقة وهم يعتبرونها احكاما جاهزة. هو يؤرخ لمسيرة الرسالة، وهم يعتقدون انها احكاما مطلقة. هو يجمل ويفصل ويخصص ليتناسب مع اسباب نزوله وهم لا يعرفون كيف يقارنون بين النصوص. هو يتحدث عن عقوبة اخروية وهم يعتبرونها عقوبة دنيوية كما بالنسبة الى الارتداد. اذن المشكلة ليست في النص، وانما في قراءة وفهم النص، المشكلة في استنطاقه واستنباط الاحكام الشرعية. المشكلة في المنهج. المشكلة في عجز العقل الفقهي على مواكبة الحاضر وحاجاته، وارتهانه الى ثقافة استبدادية وظروف استثنائية، المشكلة في عدم ادراك مقاصد الشريعة وغاياتها، والجهل بزمنية بعض الاحكام واختلال شروطها. فما زال الفقيه رغم النضوج الفكري والعقلي مرتهنا الى اوهام قداسة الصحابة، وقدسية السلف، وقدسية آرائهم وكتبهم. وليس في هذا طعن، وانما لكل عصر ثقافته وحاجاته وضروراته، والنص الديني يتعالى بمرونته وقدرته الفائقة على الاستجابة للرؤى المتكثرة ووجهات النظر المتعددة. المشكلة في اصرار الحركات الاسلامية بل كل المذاهب الاسلامية على التقليد، سيما اذا وجدوا في فقهاء السلف ضالتهم السياسية، كما بالنسبة الى فتاوى ابن تيمية وغيره. فالحركات الاسلامية المتطرفة لا تشبع حاجاتها الفتاوى المستحدثة، فتتشبث بفتاوى قديمة صدرت في ظل شروط زمكانية مختلفة.
لا اقصد التبرير للفكر والعقيدة، ولا اتنكر لدور النص في تكريس ظاهرة العنف، ولا اتجاهل معارك الرسول الاكرم، وانما اقول ان لكل نبي صلاحيات مرتبطة بنبوته، له حق ممارستها باشراف مباشر من قبل الله تعالى عبر قناة الوحي، وهذه الصلاحيات لا تنتقل الى أي شخص كان، لانها تتوقف على وجود الوحي. والقتال الذي خاضه الصحابة كان من ضمن صلاحيات النبي الكريم، ولا تنتقل صلاحيته الى أي فرد آخر بعده، وليس في آيات القتال ما يؤكد تشريع الجهاد الابتدائي او استخدام القوة من اجل الدعوة. وليست سيرة الصحابة حجة، وانما الحجة الشرعية كتاب الله وما لحقه من نصوص نبوية شارحة او مبينة او مفصلة. وليس توظيف النص خلال المعارك التاريخية سوى استغلال للدين، او اساءة فهم لنصوص الكتاب الحكيم.
ثالثا- محنة فقهاء المسلمين:
فما زالت الامة مستسلمة لقول الفقيه بينما بعض الفقهاء جهلة اميون، وبعضهم شياطين تلبسوا بلباس التقوى والعلم. الواعي منهم متوار ٍ خلف اجواء مصطنعة لا تمت الى الواقع بشيء. وليس لدينا فقيه يتعامل مع النص مباشرة الا من خلال السلف الصالح، ومن خلال نصوص وقراءات تمت وفق شروط اخرى. فهو لا يستطيع الانتصار لرأيه الا بحشد كبير من اقوال السلف، واذا اراد ان يحاجج العلماء ويدافع عن رأيه، يقول قال فلان وقال فلان، ولا يمكنه بلورة رأي وفقا لمستجدات الحياة، او وفقا للمناهج العلمية الحديثة. فلا يتحدى السلف، ولا يتحدى الاجماع، ولا يتحدى المشهور. ويلوذ باقوال السابقين، ويدعم رأيه بحجج كلاسيكية، لا يفهمها الا هو وقبيله. والشاهد على ما نقول موقف الفقهاء من العمليات الارهابية. بعضهم ساكت، وسيبقى ساكتا حتى يوم القيامة يخشى الناس ولا يخشى الله. واخر شجب بعض العمليات، واستنكر ثانية، لكن بطريقة اكثر اثارة من العمليات نفسها، فهو يشجب بعضها ويسكت عن الاخرى، ليؤكد بذلك تأييده للارهاب ولكن يختلف مع الارهابيين في المصاديق. يستنكر العمليات التي تحصل في عدد من البلدان، بينما يشجع ولو من خلال السكوت كل العمليات الاجرامية بحق الشعب العراقي، لانه الآخر المختلف مذهبيا، الآخر الذي قاد المعارضة طوال التاريخ، ورفض الاستبداد والتحايل والخداع باسم الدين والاسلام، فيستحق القتل والاجرام. والقسم الثالث من الفقهاء الذي يفتي علنا لصالح العمليات الانتحارية، ويحث الناس على دعم الارهاب ولو بشكل سري. وليس ثمة قسم رابع يرتكز الى الدين والحاضر في فتاواه فيحرم مطلق العمليات الارهابية وفي أي مكان وزمان. والكل متذبذب، متردد، يخاف ويخشى، او يتآمر ويتواطأ سرا.
اذن فنهاية الارهاب متوقفة اساسا على وجود عقل فقهي منسلخ عن الماضي، شجاع في استنباط الحكم الشرعي، خبير في فهم النص واستنطاقه. يعي الحاضر وضروراته، ويدرك اهمية التحرر من سلطة السلف والكتب الصفراء. و لا يتمسك الا بالكتاب وما صح من سنة النبي الكريم. جريء في اعلان قناعاته، شجاع في مواجهة الجهلة والمتعصبين. صريح في بيان الحقائق، لا تأخذه في الله لومة لائم. وعليه ان يعلن براءة الدين مما يجري باسمه ومن اجله. وايضا نحن بحاجة الى ثقافة نقدية عبر وسائل الاعلام، وبحاجة الى مناظرات علمية مع حملة الفكر المتطرف باسلوب علمي ومنهج قويم. وبحاجة الى اعادة النظر في كل المفاهيم الدينية، التي تبلورت بعيدا عن تطورات الحياة وحاجات الانسان. والا فان الارهاب باق يؤرقنا ويستنزف طاقاتنا ويعمق خلافاتنا.