التنوع والتباين في الثقافة العراقية...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
... ومستحقاتها في الدستور الجديد
أنا أزعم أو هكذا يتراءى لي، حاليا على الأقل، بأن ما يجمع العراقيين بكافة أطيافهم أقوى مما يفرقهم، كما أن العراقيين سيتفهمون أكثر من أي وقت مضى، حاجتهم للعيش وفق اتفاق يحتكم إلى العقل والواقعية. يمكن النظر إلى التنوع والتباين في الثقافة العراقية على أنهما من أهم مفاصل النسيج الثقافي والاجتماعي لسكان ما بين النهرين، قِدَما، كما أنه أحد أهم الألغاز التي تتحكم في كينونة هذه الثقافة وفي بنية المجتمع العراقي على السواء. كانت ثقافة ما بين النهرين نتاج أقوام متعددة، وكانت تسعى لخلق تصور خاص بها للعالم بما في ذلك العالم الماورائي. الأمر الذي منحها بمرور الزمن طبيعة ثقا-حضارية متميزة. من بين أبرز مفرداتها هو عدم نفي الآخر، ومصادرة حقه في العمل والتفكير وممارسة طقوسه الخاصة، فتكونت حضارة قائمة على التعددية والتنوع. هذا التنوع خلق بدوره فسيفساء عقائدية -اجتماعية – ثقافية، شاءت الأقدار أن تلعب دورا مفصليا في بنية المجتمع العراقي. لنتوقف قليلا عند هذه اللوحة. يذهب الباحثون ومنهم طه باقر قائلين: "يتميز تاريخ هذا البلد بأنه- متعدد التراث اللغوي- Heterogeneous أوغير متجانس في تراثه اللغوي بالمقابلة مع حضارة وادي النيل مثلا التي تعد من هذه الناحية ذات تراث لغوي واحد أو متجانس Homogenous
إذ يقتصر الأمر على ما هو معروف على رواسب اللغة الفرعونية القديمة في اللهجة القبطية وعلى تراث اللغة العربية بالدرجة الأولى". (1)
كانت بلاد الرافدين ثنائية اللغة في باديء الأمر: اللغة السومرية واللغة الأكدية. سادت هذه الثنائية تحديدا بعد قيام دولة سومر وأكد الموحدة في سنة 2350 ق.م علينا أن تنذكر أيضا الثنائية اللاحقة المتكونة من الكتابة البابلية-الآشورية التي دخلتها المفردات السومرية، والأمثال، ونصوص التنجيم، والعرافة، والحكايات، والأساطير، والأناشيد والملاحم كملحمة جلجامش على سبيل المثال(2)
الازدواجية اللغوية أوالتعدد اللغوي مايزال قائما في الثقافة العراقية حتى اليوم. لكنه لا يمكننا أن نتحدث عن وجود تآلف وهارمونية وصفاء تام في بلاد الرافدين. هذه الحالة نفسها تشمل تاريخ العراق الحديث والمعاصر. فثمت تغييب وهيمنة وإقصاء تمت هنا وهناك، من هذا الطرف أو ذاك، قام بها المتنفذون قبل كل شيء. أقول المتنفذون، وأعني بهم من حكموا ومن سادوا، ومن كانت لهم سطوة مالية فسلطوية. على أنني لن أجازف بموضوعيتي، إن قلتُ: إن أغنياء العراق لم تكن لهم علاقة قوية بالثقافة، كما يحصل في العالم المتمدن، لذا نرى أن تأثيرهم على مسيرة الثقافة كان ضئيلا مقارنة بدور السلطات المتعاقبة. عراق اليوم متعدد الأشربة واللغات. لكننا من جانب آخر، إذا ما استثنينا اللغتين العربية والكردية، لايمكننا المبالغة في الدور الذي تلعبه اللغات الأثنية الأخرى في الثقافة العراقية، بسبب محدودية استعمالها وانتشارها. مثل هذه المحدودية تكبل هذه اللغات وتجعلها هامشية التأثير في محيطها الثقافي العام.
من جانب آخر نرى بأن التعددية في الثقافة العراقية هي انعكاس لطبيعة مجتمع فسيفسائي البنية أثنيا ودينيا. أصبح، بحكم التاريخ والعادات والمصالح المشتركة والتهديدات الخارجية والخوف من المجهول، يشعر بأن الأواصر التي تتحكم في مصيره أكثر فائدة وأقوى من النزوع نحو دك أو نسف تلك الأواصر. إلا أن هذه السمة الإيجابية لا تمنعنا من ملاحظة تعثر العراقيين في تجاوز مرحلة مخاطر التفكك نهائيا، وبلوغ مرحلة الوعي بقدسية أولوية الولاء للوطن والدولة. إذ ما زال الولاء للعشيرة أو للقبيلة والطائفة والحزب معشعشا في عقول الكثيرين منهم. لعل من أخطر الأمور في هذا الوقت بالذات هو ما يتمثل ببروز تنامي الولاء لما هو ثانوي على حساب الرئيسي، كالولاء الطائفي على حساب الولاء الوطني والاجتماعي و التراث الثقا-حضاري المشترك. ثمت ما يشير إلى وجود شعور لدى نسبة معينة من شرائح المجتمع العراقي بأن الدولة ليست دولتهم وبالتالي فتجاهلها واستباحتها وسلب المال العام أمر ممكن بل مباح!
لقد جرى إحياء تعدد مثل هذه الولاءات منذ أواخر الستينيات، وبرز منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتضخم في التسعينيات، واستفحل في السنتين الأخيرتين، فبان بثياب مهلهلة وشعر أشعث!
المسألة التي ينبغي الالتفات إليها، هي أن تلك الثقافة، رغم ما لحق بها من أذى وحيف وتزييف هنا وهناك، عبر تاريخها الطويل، إلا أنها استطاعت أن تنهض دائما. هذه الثقافة تحمل في ذاتها صفات السفينكس(أبو الهول) والعنقاء على السواء. إنها تجمع ما بين تعبير وجه السفينكس بسريته وجديته و بين الاحتراق والانبعاث من جديد لدى العنقاء. الثقافة لا تنمو أو تتطور بمعزل عن محيطها الروحي والمادي، لأنها في المحصلة النهائية نتاج مجهود بشرى، نتاج أناس ينتمون إلى محيط معلوم يتكون من جانبين: روحي ومادي. نعم هناك آلية داخل كل ثقافة تحركها وتدفعها نحو الفعل، لكن هذه الآلية تكون فاعلة إيجابا، فقط في حالة النهوض لا النكوص. لا تقوم الثقافة من لا شيء، أو تستند على لا شيء. بمعنى آخر، أنها لا تتطور وحدها.
من جهة أخرى نلاحظ، عموما، حالة عاشتها وتعيشها الثقافة العراقية، على أساس "الهيمنة بدون وصاية" ما بين هيمنة العناصر السامية في تراث وادي الرافدين؛ على صعيد اللغة والتفاعل الاجتماعي وسيادة بعض المعتقدات، وهيمنة الثقافة العربية-الإسلامية في المجتمع العراقي. على أساس أن النسبة الأكبر من السكان هي مسلمة.
مع ذلك ترانا ذاهبين في تصورنا إلى الإعتقاد بأن الإسلام واللغة العربية لم يتمكنا من تغيير ميزة التنوع في الثقافة العراقية وتحويلها إلى ثقافة ذات زي موحد: يعني، أنها لم تجبر بقية مكوناتها على الاندماج. وهكذا سارت حياة العراقيين عموما: بين الاندماج وعدمه. حتى أن العراقي لم يُفَكّرْ ذات يوم أو يسأل: لماذا جاري مسيحي، صابئي، يهودي، شيعي، سني، تركماني، كردي أو عربي، ثم لماذا هو يلبس العقال أو الربطة،أو السروال والجرّاويّة، ولماذا زوجته غير محجبة مثلا؟
لو نظرنا إلى الإسلام في العراق من زاوية أخرى، للاحظنا أنه لم يوحّدْ العراقيين بنفس الطرق التي مورست في غالبية البلدان العربية، كما وأنه لم يفرقهم أيضا.
قد يتبادر إلى ذهن المرء أحيانا، أن الإسلام ولعوامل خارجة عن جوهره(تعود في جُلّها لعميلة تأويله وتفسيره) يقوم بدور تفكيكي إلى حد ما، نرى صداه، ولو في انقسام المسلمين إلى طوائف ومذاهب من سنة وشيعة وما شابه ذلك، حتى أن بغداد ذاتها، مثلا، كانت فيها محلات تقطنها العرب والكرد ثم الشيعة وأخرى السنة، وثالثة المسيحيون وهكذا. بعبارة أخرى أنهم لم يرغبوا باديء الأمر بالاختلاط فيما بين أحيائهم. خذ بداية القرن العشرين مثلا.
هذا الجانب التفكيكي لايمت إلى جوهر الدين بقدر ما يعود إلى تأويله على يد هذه الجماعة المسلمة أو تلك. نعرف جميعا أن الإسلام قد انفتح على ثقافات الشعوب المفتوحة باسم قيم عليا ليست لها علاقة بأصل من أسلم ولا بانحداره الاجتماعي. هذا الانفتاح والتسامح دفع كثيرين من غير المسلمين إلى الانفتاح على الإسلام، سواء بتبني قيمه أو النظر إليها والتعامل مع تراثه المكتوب بالعربية بمرونة وبدون حساسية. ربما لأن الإسلام "لم يمتلك بواعث قومية، كما نراه اليوم متمثلا بما يسمى القومية العربية"(3)
كان من بين أهداف الإسلام هو خلق جماعة دينية وليس قوموية، متناغمة،عادلة ومتضامنة فيما بينها. قام "فقهاء الظلام" فيما بعد بتزييف هذا المغزى النبيل.
***
لم يُعِر المجتمعُ العراقي بالا(حتى دخول الأفكار البعثية من سوريا في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي)إلى ما أطْلِقَ عليه فيما بعد بالقومية العربية، أوالأصولية الإسلامية. يعني، لم يكن هناك أمر جوهري يمكنه أن يثير حفيظة أتباع الديانات والمعتقدات العراقية الأخرى، ويولد في نفوسهم نوعا من عدم الرغبة في المشاركة أو الاشمئزاز أو العدوانية. وهذا ما يمكنه أن يكون بمثابة المفتاح لتفسير معظم الإشكاليات المتضمنة في هذا النص.
كان العراق أنموذجا ومثالا مثيرا حقا في التاريخ الإسلامي، فيما يتعلق بعلاقة العرب بغير المسلمين و بالمسلمين من غير العرب من العراقيين وسواهم. حتى أصبح العنصر غير العربي فاعلا وعاملا مهما للغاية في تشكل وتطور الأدب والثقافة العربية - الإسلامية عموما، والعراقية على وجه الخصوص.
ومن هنا نرى أنه قد جرت، بفضل الإسلام وتراث المنجز التعددي في المجتمع العراقي وثقافته، عملية تثاقف وتنافذ فتسامح متبادل، يمكن أن تعتبر إنجازا طوعيا مشتركا لكافة شرائح المجتمع العراقي.
لذا وبمرور الوقت أصبح استعمال اللغة العربية عادة وأمرا طبيعيا لا يثير حساسية أو اعتراضا عريضا وسط الأقليات والفئات العراقية غير العربية، رغم أن استعمال اللغات الأخرى لم يكن ممنوعا، كما هو الحال في بعض الدول مثلا! صارت اللغة العربية بفضل ثقلها الديني وسعة انتشارها ضرورة وأداة للعراقيين أكثر من أي وقت مضى.
ثمة رأي يقول" بأن الحضارة والدين، رغم أنهما ليسا العاملين الوحيدين في تشكل هوية الناس، إلا أنهما يلعبان دورا هاما في تكوين هذه الهوية"(4). حتى لواتفقنا مع هذا الرأي، إلا أنه لا يمكننا إنكار حقيقة طالما يجري تجاهلها، ألا وهي أن اللغة العربية والثقافة العربية – الإسلامية لم تكونا في الواقع العاملين الوحيدين المطلقين في سيرورة الفعل الثقافي العراقي ولا حتى في دينامية المجتمع العراقي واستقراره، وليكن القرن العشرين مثالا على ذلك. من الملاحظ، أنه كلما احترمت هذه الثنائية الآنفة الذكر طبيعة التعددية داخل المجتمع العراقي ازدادت الرغبة بالتواصل معها والتمسك بها، وكلما بانت على السطح ممارسات من قبيل الرغبة بالاستحواذ والإقصاء وضيق الأفق ظهرت ردود أفعال تمردية، ترفض التسلط والانفراد بالساحة التي لا تحتمل مرجعية أخرى غير التعددية. وهذا مبدأ لابد من تثبيته في الدستور الدائم.
هناك تصور أصبح شائعا في أوساط قسم من المؤرخين وعلماء الإجتماع، خصوصا الأوروبيين، يرى أن العراقيين في مطلع القرن العشرين لم يكونوا" شعبا واحدا أو جماعة سياسية واحدة". لكن عدم التجانس هذا لم ينجم، في تصورنا، عن سوء نية أفرزته التعددية الأثنية- الدينية التي تشكل نسيج المجتمع العراقي، لأن العرب أنفسهم منقسمون على أنفسهم! السبب الأكثر منطقية يكمن في سوء إدارة الدولة العراقية والحروب والغزوات الخارجية التي كان العراق مسرحا لها من جهة والجهل المطبق في صفوف الناس من جهة أخرى، إضافة إلى ذلك، كانت هناك هوة في السلم الاجتماعي، هوة واسعة بين سكان الأرياف والمدن التي كانت إلى حد ما عبارة عن قرى كبيرة! كانت ثمة هوة بين حي وحي داخل المدينة ذاتها، هوة بين الأثرياء والفقراء حتى في نطاق نفس المجموعة الأثنية أو الدينية(5) بعبارة أخرى نرى العراقيين قد عاشوا على الفطرة والسجية وما أنتجه نسيجهم التعددي من مباديء تشبعوا بها على مر القرون.
يذكر لنا الباحث حنا بطاطو، على سبيل المثال،أنه "في العام 1958 كان أكثر من ستة أسباع السكان لا يزال أميا"(6) على أننا نظل معتقدين بأن التخوف من الفقر والمجهول والعدوان الخارجي وبطش المتنفذين، قد قاد إلى أن تفضل كل فئة اجتماعية أو أثنية أو عشائرية في تلك الأوقات، العيش في تجمعات وأحياء أو مناطق خاصة بها. هكذا عاشت غالبية المسيحيين في بغداد: في "عقد النصارى" و"رأس القرية" و"البتّاوين"، وعاش اليهود في محلة" تحت التكية" و"أبو سيفين" و"سوق حنون"،و"فرج الله"و"ططران"، وعاش الشيعة في"الدهّانة" و"سوق العطّارين" وفيما بعد في"مدينة الثورة"، و"الشعلة" وبعض مناطق الكاظمية، بينما عاش السنة في محلات وأحياء "كالأعظمية" والدوريين وبعض مناطق الكرخ، في حين عاش الكرد في محلة"الفضل" و"عكد الأكراد"و "حي الأكراد" في مدينة الثورة.(7)
لم تكن تلك المناطق غيتوات مغلقة بوجه الآخرين تماما. لأنه، "لم يكن في الإسلام أساسا نظام الغيتو. خاصة وأن المسيحيين واليهود والصابئة وسواهم قد اختلطوا بالمسلمين وسكنوا معهم(8)على أننا نلاحظ، في خضم كفاح العراقيين من أجل الاستقلال، نشوء تعاضد اجتماعي وفئة مثقفة، خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى، حتى أن بعض الباحثين الغربيين قد ذهب إلى الاعتقاد بأن الاستعمار قد لعب دورا كبيرا في وحدة العراقيين.(9)
قد يُخَيّل إلى الأجنبي، على ضوء المعطيات والآراء المذكورة، بأن الصراعات العرقية والطائفية تنحر في جسد العراقيين، في حين يُخيّل لنا،إذا ما استثنينا سياسة بعض الحكومات والأحزاب المتسلطة والمستحوذة على السلطة قبل التاسع من نيسان عام 2003، أن الصراعات ذات الطابع الإثني أو الطائفي تكاد تكون معدومة، وغريبة على طبيعة المجتمع العراقي. من هنا نعتقد بأن مركزية الثقافة لا تخدم المجتمع العراقي ولا تشكل عامل استقرار له. وعليه فهذه الفسيفساء الثقافية تحتاج إلى لا مركزية واسعة، ، من أجل إعادة بناء ذاتها المهدمة والوصول إلى دينامية لتطوير وإغناء ورفد تركيبتها ذات الطابع التعددي. هذه اللامركزية على الدستور الجديد أن ينص عليها بوضوح.
ما الذي جعل مجتمعا متباينا – متنوعا مثل المجتمع العراقي، يحافظ على تنوعه في تباينه، خالقا لنفسه خصوصية وفرادة مثيرة، بدون تفكك أوانقسامات حادة ؟ لا أحد، على سبيل المثال، يعرف حتى النهاية، لماذا غالبية الشيعة تقطن في وسط وجنوب العراق، وغالبية السنة من العرب تعيش في الجزء الغربي-الشمالي، ولماذا غالبية الطرق الصوفية تتمركز في المناطق الكردية والقريبة منها، وأن جل الصابئة إن لم يكونوا كلهم يعيشون وسط الشيعة؟ كما وأنه لا أحد ينفي امتزاج الجميع في وسط البلاد، وأنه لا توجد أماكن طابو يمنع على العراقي الدخول إليها. فهذا التمازج والاختلاط بين كافة مكونات وشرائح المجتمع العراقي قائم في عموم البلاد. حتى أن بعض الأحياء والمناطق المسلمة قد أنشئت بفضل غير المسلمين من العراقيين، فقلعة صالح في جنوب البلاد، مثلا قد أنشأها صابئي و يهودي عراقي اسمه صالح. ففي هذه المدينة يوجد حتى يومنا هذا"محلة الصابئة". كما كان يوجد في العمارة حي من أشهر أحيائها يطلق عليه"التوراة". كما وأن بعض المدارس المسيحية واليهودية كانت مفتوحة للمسلمين. في النصف الأول من القرن العشرين تم إنشاء (36) مدرسة يهودية في العراق(10)
في حين كانت هناك (12) مدرسة إيرانية في العام الدراسي 1979/1980(11) ناهيك عن المدارس المسيحية. كانت نسبة ليست قليلة من غير العرب ومن غير المسلمين، تعتبر من بين أشهر الكتاب والشعراء والفنانين والقادة العراقيين.
رغم ما يطفو على سطح المجتمع العراقي بين الفينة والأخرى من ملامح صراعات أو انقسامات، إلا أن المرء يرى في الثقافة العراقية تطبيقا لفكرة الباحث والمفكر (هانز كونغ) القائلة: بأن كل طرف يشارك في حوار الأديان عليه أن يحمل في داخله أكبر قدر ممكن من الولاء لمعتقده وأكبر قدر من الانفتاح على الآخرين.(12) صارت لمثل هذا الانفتاح مكانة في قلوب المثقفين العراقيين منذ زمن بعيد، لا على صعيد الدين بله على أصعدة أخرى متعددة. المثقف العراقي معني بالآراء ذات الطبيعة السياسية والفكرية والجمالية والمعيشية أكثر من اهتمامه بأصل المثقف الإثني والديني. لهذا أزعم بأن تباين الآراء وتنوع المعتقدات كانت بناءة، ومحركا وعاملا مهما في تطور الثقافة العراقية. يعني أنها قد لعبت دورا أكثر حذقا ومنفعة من الدور الذي لعبه الفكر القومي الذي خلق أحادية في تناول الأمور والنظر إلى الآخرين. هذا الموروث الخيّر ينبغي على مُشَرّعي الدستور أن يرسخوه.
***
لقد لاحظ المفكر والفيلسوف البولندي لَشَكْ كوواكوفسكي بصواب، "أن حيوية الثقافة لكي تبقى حية على الدوام، تحتاج إلى صراع القناعات المتناقضة، أقول: لاتوجد قناعات أو حقوق ثابتة مطلقا. حقا، إن هذه الصراعات تأخذ أحيانا شكلا مؤذيا يفرزه تعصّبٌ هائج"(13)
كل أشكال التعصب القومي والديني والآيديولوجي قد تصل إلى حد السخط والهيجان وإلحاق الأذى بنفسها وبالآخرين، لذا تراني اقترحت ومازلت أقترح، في مناسبات عديدة، منها علمية، منذ أكثر من عشرين سنة وأعيد طرح فكرتي الآن، فأقول: إن حالة العراق تتطلب اعتماد معيار الوطنية لا القومية، لأن القومية ستقود البلاد إلى التشرذم والتفكك، وستجعل الثقافة العراقية أحادية الجانب سادية النزعة،ومهيضة الجناح. معيار الوطنية لا يلغي القومية والدين. الوطنية تعقلن وتؤنسن القومية والدين على السواء، فهي إذن لا تنوب عنهما ، لكنها ستحَيّدُ إفرازاتهما المحتملة ذات الطابع التعصبي والعدواني. بعبارة أخرى معيار الوطنية المسنود بالدستور والقانون سيكون بمثابة صمام الأمان لتطور البلاد سلميا، ديموقراطيا وإنسانيا، حتى أن الوطنية بمرور الوقت ستصبح عادة وتقليدا في المجتمع، في سلوك الأفراد وفي إدارة شؤون البلاد.
يستطيع الدستور العراقي أن يضع ضوابط ومعايير تدعم هذا التوجه من خلال دعم دولة القانون واحترام حقوق الإنسان والمواطنة بغض النظر عن الجنس والقومية والدين والفكر والمذهب، وتحريم تأسيس أحزاب ومنظمات تستند إلى الكراهية والعنف والتطرف،مع تحريم استخدام العنف في حل الخلافات والنزاعات وفي التعامل مع المرأة كذلك، في إطار احترام لا لبس فيه لطبيعة المجتمع العراقي القائمة على التنوع والتباين، على الأخرية الإثنية والدينية والمذهبية والسياسية.
وعليه فتأميم النفط وخيرات البلاد الأخرى مثلا، لا يمكن له بأية حال من الأحوال أن يقود إلى تأميم الآراء والأفكار ومصادرة تصارع القناعات، كما وأن تعميم العربية وغلبة الطابع العروبي لا يمكن له أن يقود إلى ربط دستور بلد قائم منذ آلاف السنين على مبدأ التعددية أساسا، بالقومية العربية فقط. العربية يمكن أن تصبح أمرا لا مفر منه، فقط في حالة اعتماد معايير مرنة متسامحة عادلة، لا تفرق بين هذا المواطن وذاك لأسباب بعيدة عن مبدأ المواطنة والكفاءة. أنا أدرك تماما بأن المجتمع العراقي لم ينضج تماما بعد لمثل هذا الطرح، بسبب معارضة القوميين وضيقي الأفق. لكن أيكتب الدستورَ الدائمَ الأميّون أم حكماءُ البلد ومثقفوه؟ إذا كان الأمر منوطا بالحكماء كما هو شائع في العالم المتمدن، فهذا يعني أن عين الحكيم تستشرف المستقبل والدستور الدائم إنما هو وثيقة حية تكتب بقلم الحاضر معبرة عن طموحاتنا جميعا ولكن بعيون وروح المستقبل.
وعليه نرى بأن اعتماد فكرة"دولة المواطنة" وتوزيع ثروات البلاد بعدل وإنصاف على الجميع، سيكون أفضل حل لمشاكل العراق المستعصية، المتمثلة في تضارب المصالح ذات الجذر القومي والمذهبي. كما وينبغي سن فقرة في الدستور تلزم تخصيص نسبة لا تقل عن 1% من الدخل القومي سنويا خاص بالثقافة ونسبة أعلى منها للتربية والتعليم. لابد من جعل التعليم إلزاميا حتى نهاية المرحلة المتوسطة على الأقل. حينما يستوعب الدستور الجديد مثل هذه المسائل سينام المواطن العراقي بغض النظر عن انحداره الأثني والديني أو السياسي مطمئن البال نوعا ما. وسيكون العراقيون مؤثرين وأكثر فاعلية على الصعيد الداخلي والخارجي، الشيء الذي سيلبي بعضا من طموحاتهم وتطلعاتهم الفردية والجماعية.
***
من هذا المنطلق سيكون مبدأ الولاء لثقافة منفتحة، متنوعة، متسامحة متعددة المصادر أكثر ملاءمة، ليس لفسيفساء العراق الإثنية فحسب، بل حتى لفكرة شمولية الإسلام. فالمحافظة في الدستور الجديد على التوازن القائم ما بين شمولية الجوهر الإسلامي وتعددية المجتمع والثقافة العراقيتين، يمكن أن يتم عبر طريقين فقط، لا ثالث لهما وهما: إما أن يتم فصل الدين عن السياسة(كما هو الحال في تونس على الأقل) وهو بمثابة العصا للأعمى أو المشكاة في هذا الظلام، وإما أن يكون الدين الإسلامي أحد مصادر التشريع في بلد القانون لا غير. بحيث يكون كل شيء واضحا قانونيا، أي بدون تطاول الدين على الدولة والمجتمع والعكس صحيح أيضا.
***
لم يكن للمجتمع العراقي مطلقا بعدٌ واحد ثابت ثقافيا أو اجتماعيا أو قوميا، إلا في زمن سيادة أيديولوجية الحزب الواحد، الذي اختصر المواطن والمُوَاطَنَة والشعبَ بأسره بالشخص الواحد والحزب الواحد، تتبعه حكومة ذليلة غير كفوءة ومشلولة الإرادة.
لدي ما يشبه اليقين، بأنه سيحدث في العراق نفس الشيء في حالة سيادة الفكر أوالمذهب الواحد. لذا فلا مفر أمام العراق حفاظا على وحدته وتطوره وتنوع ثقافته ومجتمعه سوى اتباع طريق انتقال السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع المباشر، بالاستناد إلى حكم القانون المستند بدوره إلى دستور دائم لايحق لأحد كائنا من كان أن يغير فيه إلا بعد استحصال موافقة الغالبية المطلقة للمواطنين العراقيين.
واحدة من أكثر مكونات الثقافة العراقية ديمومة منذ آلاف السنين هي عدم خضوعها للبعد الواحد، على الصعيد التاريخي، الإثني والديني. لهذا اجتمعت فيها ألوان وظلال وبواعث روحية ومادية متعددة المشارب والمصادر.
في الواقع لا يحتاج العراقيون لدخول كورسات ولا لمرحلة انتقالية مثلا لكي يتعلموا كيف عليهم أن يعيشوا فيما بينهم. لقد ولدوا وترعرعوا في تلك الظروف- ظروف التسامح وتقبل أحدهما الآخر. فالعراقي عادة لا يسأل العراقي كما ذكرنا: ما هو دينك أو قوميتك؟ لكنه يمكن أن يسأله: هل عندك زوجة أم زوجتان، هل أنت حزبي أم لا، هل أنت بعثي، قومي، شيوعي، بارتي، أو حتى إسلامي؟ إن الأسس القائمة على التنوع والتباين والتعددية محفوظة عميقا في لا وعي المواطنين العراقيين بائنة في حياتهم اليومية، لذا نرى بأن الوقت قد حان وهذه هي فرصة العراقيين جميعا لكي يمنحوا تلك الأسس والقواعد قوة قانونية ودستورية. يبدو لي أن هذه هي فرصة العراقيين التاريخية الوحيدة المتوفرة حاليا.
عمليا تجري في الثقافة العراقية، كما هو الحال في كافة الأصعدة الأخرى، تحولات واصطفافات ذات مستويات متعددة ومتباينة. لعل التطهير الفردي والجماعي، والاصطفافات السياسية والمذهبية في هذا الموقع وذاك من أكثرها وضوحا ودلالة. قد يبدو للمستعجل أن هناك فوضى وحسب، ونحن نعتقد بحدوث استقطابات واصطفافات على كافة المستويات، ولن يبق في نهاية المطاف هذا الكم الهائل من المنظمات والأحزاب والشعارات سوى عدد محدود سيرتبط وجوده أساسا بميول الناخبين الذي سيتضاءل عددهم مستقبلا، بعد أن تخدعهم الشعارات البراقة لهذا الطرف وذاك، وحينئذ سيكون انتقامهم رهيبا. هذا هو أحد أوجه ميكانيزم الديمقراطية.
***
لو عدنا قليلا في نهاية المطاف إلى مسألة التماثل والهوية بمستوييها الفردي والجماعي، لأمكننا القول: إن العراقي الآن يبحث عن ذاته بقدر بحثه عن الانتماء في ظل أوضاع لم يألفها من قبل. وبما أن البحث عن الذات يتطلب عادة وقتا أطول من البحث عن الانتماء بمعناه الأثني والديني، نرى سيادة موجة من التماهي والتماثل مع الجماعة ومع الإتجاهات الرئيسية في هيكل المجتمع والثقافة على السواء. نرى أيضا أن البحث عن الهوية يتم بطرق سريعة ذات طبيعة نفعية وعاطفية على العموم. يرى كارل غوستاف يونغ أن التماثل مع الجماعة أيا كانت، مهدد بما أسماه" ، معتبرا إياه" تماثلا أو هوية لا واعية لا أكثر ولا أقل"(14)Participation mystique"
وهذا يعني بشكل ما تماثلا عاطفيا، انفعاليا، خادعا ومضللا، لا يتسم بالثبات.
أحيانا يحدث هذا التماثل مع الآخر على الضد من معاناة ورغبات ومعتقدات الفرد ذاته. و إلا كيف نفهم التصويت الذي تم في العراق على أساس المذهب والطائفة والأقلية والقومية؟ لقد وضعت المعتقدات والشعارات السابقة لدى الكثيرين على الرف. وإذا ما بانت للملأ ذات يوم تماثلية هؤلاء الأفراد بدون مبررات كافية سيتعرضون إلى فقدان المصداقية. هذان النوعان من التماثلية بحثا عن الذات والهوية قد يقودان إلى خلق إزدواجية في التفكير والسلوك. كان العراقيون، بسبب القمع، ضحايا لمثل هذه الازدواجية التي كانت واضحة المعالم في الوسط الثقافي. حينما يتكفل الدستور بضمان حق المواطن في التعبير الحر والحصول على عمل، وفي ممارسة طقوسه وشعائره مهما كانت، سيضع حدا لمثل هذه الظاهرة السرطانية المستشرية في جسد المجتمع العراقي اليوم.
***
في كتابه"الذاكرة والهوية" الصادر قبل رحيله، يرى البابا يوحنا بولص الثاني بصواب، بأن الهوية أو التماثلية الثقافية والتاريخية للمجتمعات مضمونة ومُفَعّلة عبر ما تتضمنه فكرة الشعب. إنما وبطبيعة الحال، لابد من تجنب بعض المخاطرة: أي لكي لا تتحول وظيفة الشعب اللازمة إلى قومية(...) ولكي لايحدث ذلك، أرى أن الطريقة المثلى هي الوطنية. تتميز القومية في أنها تعترف فقط بخير قوميتها، إليه تسعى، غير آبهة بحقوق الآخرين. بينما الوطنية، كحب للوطن، تعترف للقوميات جميعا بنفس الحقوق وهي طريقة لترتيب حب الوطن"(15)
ويضيف قائلا: "إن الإنسان يعيش حياة إنسانية حقيقية بفضل الثقافة(...) الثقافة هي الطريقة المثلى لوجود وكينونة الإنسان. بفضل الثقافة يصبح الإنسان أكثر إنسانية(...). الشعب جماعة كبيرة من الناس، تربطها لحمات متعددة، وفي مقدمتها الثقافة. يعيش الشعب من "الثقافة" وإلى "الثقافة"، لذا فمن الأرجح العيش ضمن الجماعة باعتبارها صاحبة تاريخ أطول من تاريخ الفرد وعائلته"(16)
***
إن قوة الثقافة العراقية وتطورها اللاحق، تعتمد على رفض كافة أشكال القومية والتعصب. قوة هذه الثقافة إذن في تعدديتها، تنوعها وتباينها، تناقضاتها وهارمونيتها، إنفتاحها لا انغلاقها. لهذا نعتقد بأن مشاكل العراق ينبغي البحث عنها في السياسة، وفي التأويلات الدينية على أيدي "فقهاء الظلام"، لا الثقافة أو في جوهرالدين.
وعليه فإذا استطاع الدستور الجديد أن يضمن حياد القومية والدين إلى حد ما، وتحريم التعصب بكافة أشكاله،استطعنا القول: إن دماء الأبرياء والخيرين لم تضعْ هدرا.
على المجتمع العراقي، بعد الإطاحة بممارسة عبادة الفرد و"التعصب الحزبي والطائفي" أن يمضي قدما في شق طريقه نحو الحرية والديمقراطية، لأنه إذا لم يفعل ذلك، سيتم الاستعاضة عن عبادة الفرد بالتعصب الطائفي والمذهبي والقومي. الدستور لا يكتب كل سنة. إنه يكتب على الأرجح بدماء أبنائه، لذا فكتابة دستور بمعايير عصرية مستقبلية الأثر ستكون له أهمية تاريخية.
***
نحن بحاجة ماسة إلى الإنتقال من سقوطين لبغداد بامتدادهما الزمني والتاريخي وبعدهما التخريبي: 1258- 1921 و 2003 - 1968 إلى بغداد ما بعد التاسع من نيسان عام 2003، من عراق كارتوني، قرقوشوي متخلف مُخجل بكل المعايير، إلى عراق إنساني، مثقف، متحضر، منفتح، تُحترم فيه حقوق المواطن والأقليات والمرأة كافة ، دستور يكون القانون هو الحكم الفصل فيه ،حيث لا غالب ولا مغلوب، دستور يؤكد على نبذ العنف أيا كانت أسبابه، دستور لعراق واحد حر متسامح ديمقراطي فيدرالي.
الهوامش:
1. طه باقر، رواسب لغوية قديمة في تراثنا اللغوي، التراث الشعبي، ع(10)، حزيران 1971: 10
Eposy sumeryjskie, przekad: K. Szarzyska, wyd. AGADE, Warszawa 2003: 7-102.
وقارن، طه باقر، نفس المصدر: 13، وقارن كذلك
Epos o Gilgameszu, przekad: K. yczkowska, P. Pucha i M. Kapeu, wyd. ADADE, Warszawa 2002:VII-XII.
Dialogi o Trzecim wiecie, tom 3, pod red. B. Stefaskiego, Instytut Krajw .3 Rozwijajcych si, Uniwersytet Warszawski, Warszawa 1986: 134.
4. أنظر، فريتس شتيبّات، الإسلام شريكا، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 67:2004
5. قارن، حنا بطاطو، العراق، ترجمة: عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية،الكتاب الأول، بيروت 1990: 31
6. قارن، حنا بطاطو، المصدر السابق: 53
7. نفس المصدر: 36-37
Dialogi w Trzecim wiecie: 125 8. أنظر ،
9. نفس المصدر: 43
10. أنظر، فاضل البراك، المدارس اليهودية والإيرانية في العراق، دار الرشيد، بغداد: 40 -41
11. نفس المصدر: 165
Hans Kung, Global Responsibility – in search of a New World Ethic, London :5412 .
Co nas czy? Dialog z niewierzcymi, wstpem opatrzy, Leszek Koakowski, wyd 13. WAM, Krakw2002: 13
Carl Gustaf Jung, Archetypy i symbole, pisma wybranw, wybra, przeoy i wstpem 14. opatrzy Jerzy Prokopiuk, Czytelnik, Warszawa 1976: 134
Jan Pawe II, Pami i tosamo, Znak, Krakw: 73 15.
16. نفس المصدر: 89
القيت هذه المحاضرة في مؤتمر دعم الديموقراطية الذي انعقد في لندن في الفترة ما بين 28 -31 تموز/يوليو وساهمت فيه نخبة من المثقفين العراقيين: كتابا وأكاديميين، نساء ورجالا. اشتمل المؤتمر على المحاور التالية: الفيدرالية(اليوم الأول)، الدولة والدين(اليوم الثاني)، الدولة المدنية(اليوم الثالث)، والإقتصاد، ثم اختتم المؤتمر أعماله بمجموعة توصيات ونداءات للمسؤولين العراقيين