مسودة الدستور: فشل ذريع لعراقة القانون العراقي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مسودة الدستور التي نُشرت في وسائل الأعلام بصيغتها التي وردت في صحيفة "الصباح" البغدادية بتاريخ 26/7/2005 هي مشروع وثيقة مخيبة للآمال ومحبطة للتطلعات بجميع المقاييس القانونية والفكرية والحضارية.
هذه (المسودة) سوداء بحق؛ "صخام ولطام" على القانون العراقي وعراقته التاريخية. وهي فاتحة جهنمية خطيرة تحمل في طياتها بذور شقاق ونفاق سيبتلي بها الشعب العراقي بكافة أبنائه في حال التصديق عليها.
إنها خيبة حقيقية أن تسفر كل هذه الشهور، بل أربعة عقود من القهر والإذلال، عن هكذا وثيقة هزيلة غير متجانسة تحمل بين سطورها المكتوبة الواضحة والعلنية بذور الفرقة والتفريق بين مكونات الشعب العراقي. على وجل مرة، وبوقاحة تامة في مواضع كثيرة. ليس تلك فقرات دستورية لدولة جديدة، أو قديمة بأي معنى من المعاني القانونية أو التشريعية أو القضائية. إنها عبارة عن مسودة سياسية بائسة إن صح التعبير. هذا الهاجس السياسي المرتبك وغير المتزن، الذي تحكمه الآن معادلة متقلبة وغير ثابتة مؤطرة بطابع ديني طائفي بحت يحاول تسيير العملية السياسية المستقبلية الهامة في البلاد على الضد من مصالح الدولة والمجتمع والتطور والديموقراطية التي أوصلتهم إلى سدة القرار.
الدستور بمعناه القانوني هو عقد اجتماعي بين الدولة والمواطن. وهو "قانون وضعي" أي من صنع البشر ينبع من متطلبات حياتهم الاجتماعية بمختلف نواحيها. لا يجوز الخلط بين الدين والقوانين الوضعية التي تنظم حياة المواطن العامة. لا توجد في دساتير العالم قاطبة مواد قانونية تشجع على الجريمة أو الزنى أو الأعمال والأفعال المخلة بالأخلاق العامة. هذه بديهية تهتم بها القوانين عامة ودساتير البلدان العريقة خاصة. لا يمكن كتابة فقرات دستورية في أي بلد من البلدان تشجع على الرذيلة أو الانحطاط الاجتماعي. هكذا تنسجم القيم القانونية الوضعية جلها مع المفاهيم العامة للأديان السماوية وفضائلها المعروفة. الدستور هو هوية الدولة بين الدول الأخرى المكونة للمجتمع الدولي. وهو، الدستور، تعبير عن هوية المواطن في هذه الدولة أو تلك. أي عندما يقول المواطن "أنا سويدي" أو "دنماركي" أو "بريطاني" أو "عراقي" يعلم الطرف الآخر أن هذا الكيان القانوني يمثل وضع بلده. فلا يجد نفعا أن يُذكر أنه "مواطن مسيحي" أو "مواطن مسلم" أو مواطن "يهودي" ألخ.. تحديد هوية الدولة بصفة دينية غير مجد وغير نافع وغير قانوني بالأساس. وهذا يذكرنا بالمطالبة برفع هذا التصنيف المضمر للشبهات من هوية الأحوال المدنية العراقية التي يُذكر فيها الدين والجنس وغيرها من الإشارات التي يُراد من خلالها الإساءة إلى المواطن وتغليب صفات غير قانونية وغير دستورية على حساب كيانه الأساسي كونه شخصية قانونية تتمتع بالحقوق والواجبات المنصوص عليها في بنود الدستور.
خلط العقيدة الدينية في مواد الدستور لم يحدث في تاريخ العالم السياسي المعاصر إلا بعد الثورة الخمينية في إيران. ومسودة الدستور العراقي المزمع تكاد أن تكون نسخة مشوهة من هذا الخلط الذي يبدو كاللعب في النار. الدستور الذي سيُقام عليه صرح بلد بالكامل لا يجب أن يكون مخلوطا بمواد ضعيفة متأتية من اعتبارات عقائدية مهما كانت هذه العقائد تعتبر نفسها إنها الرائدة والمستنيرة. لا توجد عقيد ثابتة في الحياة. كل العقائد والأيديولوجيا متغيرة، بما في العقائد والديانات السماوية بالرغم من جمودها وثباتها النسبي كونها تعتمد المنطق الثابت والفكر المطلق. لكن الدستور الذي يجسد عقد المواطن مع الدولة، وتنظيم حريته وتنظيم حقوقه، وتنظيم واجباته، فهي مواد قانونية تستمد شرعيتها من خدمتها للمواطن وليس العكس. بمعنى أن المواطن ربما يفني نفسه حرا في سبيل عقيدته، بينما يكفل له الدستور والقانون ممارسة هذا الحق والحقوق الأخرى من غير أن يضطر إلى نفني نفسه وذاته في سبيل "الدستور".
لقد ناقش وكتب الكثير من المختصين والمثقفين العراقيين مسودة الدستور المخيبة للآمال تلك. كانت تصويباتهم واضحة بما يكفي على الدلالة بأن الثقة التي وضعها الشعب بهذه اللجان المنبثقة عن الجمعية الوطنية لم تكن في محلها. وربما الأصح بشكل عام القول أن هذه اللجان التي تمخضت عن هذه الصياغة البائسة للدستور العراقي المنشود كانت بحق "لجان سياسية ضيقة المصالح والرؤى" لا تمتلك الوعي الحضاري ولا القانوني ولا المؤهلات اللازمة للقيام بمثل هذه المهمة الكبيرة. وكان المخاض العسير الذي وضعوا فيه وليدهم كمخاض الجبل الذي أنجب فأرا. وظهر للعيان تعويل الشعب العراقي على "أساتذة محو الأمية" في أصعب وأخطر مهمة من حياته، ألا وهي كتابة دستوره الجديد الذي سيقود العراق نحو المستقبل.
الشيء الذي أطلعنا عليه في صحيفة "الصباح" البغدادية ليس بمواد دستورية، وإنما "روزخونية" وصفقة سياسية ذات طابع مؤقت بين الشيعة والأكراد ستلحق الضرر الكبير بالبلاد والعباد، وعلى العراق السلام.
يبقى من نافل القول إن عراقا من غير دستور أفضل بكثير من هذه المسودة البائسة السوداء. ولا تجعلونا نذكر المجرمين بالخير. نقول هذا لأن العقول المهيمنة التي أشرفت وتشرف على كتابة الدستور العراقي الجديد عقول صغيرة وغير واعية وتحتاج إلى خبرات قانونية دولية. قانون بريمر أكثر وعيا وأكثر ضمانا لحقوق المواطن العراقي. الشريعة الإسلامية ليست قانونا دستوريا ينطبق على الجميع. كيف أتساوى وأنا المسلم مع مواطني المسيحي والمندائي واليزيدي عندما أجبره على الخضوع تحت بنود الدستور للشريعة الإسلامية؟. أنا مواطن وهو مواطن، كلانا يجب أن يتمتع بنفس الحقوق. لكن عندما تدخل الشريعة الإسلامية والدين الحنيف عند ذلك سأقيم عليه "الحد" واعتباره من "أهل الذمة". وبعد ذلك بقليل سوف نصل إلى تطبيق الشريعة الإسلامية التي تقضي بتحريم كذا وكذا، لنصل في نهاية الأمر إلى ما توصل إليه المغوار أبو مصعب الزرقاوي والشيخ أسامة بن لادن. هذا هو المخرج الوحيد الذي يصل له الدين في نهاية المطاف. قتل الكافرين. والناس الكافرين هم من لا يعتقدون بهذه العقيدة. فهل هذا ما يُكتب بالدستور؟
أحيل القارئ الكريم إلى قراءة المسودة التي نُشرت في صحيفة الصباح البغدادية بتاريخ 26/7/2005 وعنوان الصحيفة على الإنترنت www.alsabaah.com
يجب أن نقول "لا" لهذه المسودة التي سودت وجه القانون العراقي ووجه العراق الحضاري كونه أول من سنَّ القوانين الوضعية على سطح الكرة الأرضية في مسلته الشهيرة، قبل أن تلحق هذه المسودة الضعيفة والمرتبكة بين الأغراض السياسية النفعية والهموم الطائفية المحتقنة بالشعب العراقي الأصيل الخزي والعار. أضع "لا" كبيرة على المسودة التي تحاول التعبير عن احتقان سياسي ومنفعي واضح للعيان وضار بالغ الضرر بمستقبل العراق. نريد دستورا حضاريا واضحا وبسيطا يعبر عن هوية العراق الحضارية، لا عن الطائفية أو تقليد صيغ مشابهة لدول الجوار.