تركة صدام حسين في مسودة الدستور الدائم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حكَمَ التيار القومي العروبي وخاصة الجناح المتمثل بحزب البعث، شعب العراق لمدة أربعة عقود. وخلال هذه الفترة العصيبة التي تعتبر من أسوأ الفترات في تاريخ العراق بما فيه فترة حكم المغول، اتبع صدام حسين سياسة فرق تسد وتدمير الاخلاق وتفتيت المجتمع إلى فئات متصارعة فيما بينها من أجل إضعاف الشعب وتدميره حضارياً وفكرياً وسياسياً واخلاقياً لإحكام قبضته على جميع مناحي الحياة.
ومن الأساليب التي اتبعها صدام حسين إضافة إلى القمع والقسوة، وخلافاً للأهداف والشعارات المعلنة لحزب البعث، هو إحياء القبلية والتقاليد والأعراف العشائرية وفرض الفصل العشائري بدلاً من القضاء المدني في حل المنازعات بين الناس، وذبح النساء بتهمة الدعارة وإعادة أحكام الشريعة الإسلامية مثل بتر الأطراف ومنع الخمور وذلك تطبيقاً لحملته الإيمانية التي أعلنها في التسعينات. كذلك أجج النظام المقبور الصراع الطائفي والعرقي والعشائري بين مكونات الشعب العراقي. هذه الآثار السلبية المدمرة لا يمكن إزالتها من المجتمع العراقي بمجرد إزالة حكم البعث، بل ستبقى في سلوك الأفراد وعقلهم الباطن لفترة طويلة وربما لأجيال. فالشعور بالولاء للشعب والوطن قد اختفى وحل محله الشعور بالأنانية والمصالح الذاتية والفئوية الضيقة والولاء للطائفة والعشيرة. وقد بدا ذلك واضحاً من سلوك العراقيين بعد سقوط النظام الفاشي يوم 9/4/2003، حيث اجتاحت البلاد موجة الفرهود (النهب) وتدمير مؤسسات الدولة وما تلا ذلك من أعمال الجريمة المنظمة والإرهاب الفاشي.
يقول ابن خلدون:(المغلوب مطبوع على طبيعة الغالب). ولذا نرى حكام اليوم يقلدون صدام حسين في جوره وتكريس تركته. فمظلوم الأمس صار جلاد اليوم، لا ليصب جام غضبه على فلول النظام المقبور الذين ظلموه، بل على فئات الشعب الأخرى من المظلومين من أمثاله، لا لشيء إلا لأنه صار في موقع القوة.
وهذا واضح من سلوك مليشيات الأحزاب الإسلامية الشيعية حيث يواصلون حملة صدام الإيمانية فيطاردون النساء السافرات وطلبة الجامعات وأصحاب الديانات الأخرى من الصابئة المندائيين والمسيحيين ويقومون بتفجير محلات بيع الخمور وحوانيت بيع أشرطة الموسيقى والغناء ومحاربة الفنون لأنها من الفواحش حسب تفكيرهم، ومنع الأطباء من فحص النساء المريضات، ولم يسلم منهم حتى الحلاقين وصالونات التجميل. وآخر تقليعة المظالم لحقت الشباب الذين يلبسون بنطلون الجينز باعتباره يتنافى مع الإخلاق الإسلامية. كل هذا يتم تحت سمع وبصر الحكومة ورجال الدين وقادة الأحزاب السياسية دون أن يحركوا ساكناً والسكوت من الرضا كما هو معروف. بل الأنكى من ذلك أن محافظ البصرة، وهو من أتباع مقتدى الصدر، دشن عمله بضرب طلبة كلية الهندسة لأنهم تجرأوا وقاموا بسفرة طلابية في منتجع سياحي بالمحافظة، حيث اعتبر سيادته وقوات شرطته ومليشياته هذه السفرة من الأعمال الفاحشة المخلة بالإخلاق الإسلامية.
هذه وغيرها من السلبيات هي من التركة الثقيلة التي ورثها المجتمع العراقي من حكم البعث الصدامي ومن المؤسف القول أن السادة أعضاء لجنة صياغة الدستور الدائم كرسوها بوعي أو بدونه في مسودة الدستور وإلى القارئ الكريم توضيح ذلك:
أولاً: التركيز على أسلمة الدولة العراقية وتسميتها بالجمهورية العراقية الإسلامية. هذه التسمية هي امتداد للحملة الإيمانية التي بدأها صدام حسين في التسعينات بعد أن ضعفت قبضته على الحكم وخاف على نظامه من الانهيار، فلجأ إلى الدين واخترع هذه اللعبة الانتهازية المفضوحة وقرر بناء أكبر جامع في العالم باسم (جامع صدام) أيام الحصار الذي كان ينظم مسيرات تشييع جماعي لجنائز الأطفال، إلى جانب فرضه لأحكام الشريعة الإسلامية.
ثانياً، التمزيق الطائفي للمجتمع العراقي: وقد كرست اللجنة ذلك في الدستور عندما أكدت (بأغلبيته الشيعية وسنته)، وهذا تكريس لسياسة صدام حسين في استمرار الصراع الطائفي وتغذيته إلى الأبد.
ثالثاً، تهمة عجمة الشيعة العرب وفارسية الكرد الفيلية: من المؤسف القول أن الشعب العراقي شعب غير متجانس نتيجة تعددية مكوناته الأثنية والدينية والمذهبية. ففي الظروف الحضارية الناضجة يمكن تحويل هذه التعددية إلى أداة وحدة وقوة للمجتمع (الوحدة في التعددية unity in diversity )، ولكن في ظروف العراق الشاذة ونتيجة للتخلف الحضاري بعد سبعة قرون من الحكم الأجنبي، المغولي والتركي وأربعة عقود من حكم البعث الفاشي، صارت التعددية الدينية والمذهبية والقومية أداة بيد الحكام الظالمين لتكريس الفرقة وقهر الشعب والإمعان في إذلاله وتفتيته، إذا ما استثنينا فترة حكم الزعيم الوطني عبدالكريم قاسم الذي حاول التقريب بين مكونات الشعب وإلغاء التمييز في حقوق المواطنة، لذلك انتقموا منه شر انتقام ليحل محله نظام طائفي عرقي يعمل على تكريس هذا الانقسام البغيض. وقد اتبع صدام حسين نهجاً فاشياً في تعامله مع مكونات الشعب العراقي، فطرد ما يقارب مليون عراقي من الشيعة، العرب والكرد الفيلية، بتهمة التبعية الفارسية، وألقاهم على الحدود العراقية- الإيرانية أيام الحرب في أراض ملغومة بعد أن صادر أموالهم وجردهم من جميع وثائقهم الرسمية التي تثبت انتماءهم الوطني، بما فيها الشهادات الدراسية وإجازة السياقة.
أما حكامنا الجدد فقد عملوا على تثبيت هذه النعرة العنصرية الطائفية المقيتة في الدستور بإقرارهم القومية الفارسية هي قومية رابعة في العراق. ففي ندوة تلفزيونية نقلتها فضائية (العراقية) حضرها السادة رئيس اللجنة الدستورية وقاسم داوود وفؤاد معصوم والمشهداني. ويتبين من إجابة الدكتور قاسم داوود حول الجهة التي تبنت إدراج القومية الفارسية أنها الأطراف الكردية.
والمقصود بالقومية الفارسية هم الكرد الفيليون. وهذا تأكيد للتهمة العنصرية التي روجها البعث الصدامي وبموجبها هجر صدام مئات الألوف منهم وقتل عشرات الألوف من شبابهم. ومما يحز في النفس أن الذي اقترح هذه الفقرة في مسودة الدستور هو ممثل الأكراد في لجنة الصياغة. فإن صح هذا الخبر، فإنها مخيبة للآمال والمطلوب من المسؤولين الكرد وخاصة الدكتور فؤاد معصوم المعروف بمؤهلاته الثقافية وانتصاره للديمقراطية، إدانة هذا التصرف وتصحيح الموقف. فالكرد الفيلون وكما كتب الصديقان، الدكتور عزيز الحاج والقاضي زهير كاظم عبود وغيرهما، عراقيون أصلاء أباً عن جد ولهم دورهم المشرف في النضال الوطني ومساهماتهم البناءة في جميع مجالات الحياة، ودفعوا الكثير من الشهداء في سبيل وطنهم العراق. من المؤسف أن وراء هذه التهمة دوافع طائفية، كنا نعتقد أن الأخوة الكرد السنة عندهم مناعة ضد هذه الآفة البغيضة ولكن هذه الزلة قد كشفت المحظور. فبعض القوميين العرب يصفون الشيعة العرب بالتبعية الفارسية، والآن القوميون الكرد يتهمون أخوتهم الكرد الفيلية الشيعة بأنهم امتداد للقومية الفارسية في العراق. لا شك أن صدام يرقص فرحاً في معتقله من هذا الخبر. بالله عليكم كيف يمكن تحقيق الوحدة الوطنية والانسجام بين مكونات هذا الشعب وكل فئة تطعن بانتماء الفئات الأخرى؟
رابعاً، تكريس العشائرية في الدستور
هذه الفكرة صدامية أيضاً. فبعد انتفاضة آذار 1991 في المحافظات الشيعية والكردستانية، أعدم الثوار الشيعة عدداً كبيراً من البعثيين وأعضاء أجهزته القمعية، والتحق بعثيون آخرون إلى الانتفاضة. لذلك انتهى حزب البعث وأجهزته القمعية وضعفت قبضة صدام حسين في السيطرة على الأمن في الوسط والجنوب. فلجأ صدام إلى إحياء العشائرية ونصب عليها مشايخ وجعل من نفسه شيخ المشايخ وحكم العراق وفق نظام حكم العشائر ونجح في هذا المضمار إلى حد ما. تحاول الآن لجنة صياغة الدستور تكريس هذا النهج الصدامي في الدستور الدائم وبذلك فقد ضخت شحنة حياة بالعشائرية والتي هي مرحلة متخلفة تسبق تكوين الشعوب. وهذا يعني إبقاء العراقيين منقسمين إلى عشائر متناحرة متمسكة بتقاليدها وأعرافها البدوية البالية الموروثة من العهود الغابرة والتي تشكل عقبة كأداء أما التقدم الحضاري.
خامساً، موقف الإسلاميين من الديمقراطية
يبدو أن كل ما قدمته الأحزاب الشيعية من وعود قبل سقوط النظام البعثي حول رغبتها في إقامة نظام ديمقراطي كان مجرد كلام بلا رصيد عملي، إذ بدا ذلك واضحاً من سلوك لجنة صياغة الدستور التي يهيمن عليها الإسلاميون. ومما يحز في النفس أن الكتلة الكردستانية راحت تؤيد كتلة الائتلاف الشيعي حتى ولو كان على حساب الديمقراطية فيما يخص العراق ككل. إذ تقول الدكتورة تمارا الجلبي في مقال لها على موقع (Prospect) بهذا الصدد أن التحالف الكردي - الشيعي يطبق المثل الإنكليزي:(أنا احك لك ظهرك وأنت حك لي ظهري ""I scratch your back and you scratch mine ) أو كما نقول بالعراقي: (شيلني وأشيلك). وتضيف الكاتبة أنها سألت نائبة من حزب الدعوة وعضو في لجنة الدستور عن موقفها من حقوق المرأة فأجابت " أن بعض الأشياء منحت كحقوق في بلدان أخرى لا يمكن قبولها في العراق مثل زواج المثليين". لقد اختزل الإسلاميون الديمقراطية وحقوق الإنسان بزواج المثليين!!، وكأن الديمقراطيين العراقيين لا هم لهم سوى المطالبة بحق زواج المثليين والإباحة الجنسية. فهل حقاً هذا كل ما يعرفه الإسلاميون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم أنهم يتعامون قصداً لتشويه الديمقراطية وسمعة الديمقراطيين. هذا افتراء اخترعه أعداء الديمقراطية والعلمانية الذين روجوا بأن الديمقراطية والعلمانية مرادفتان للكفر والإلحاد والإباحية. بينما الحقيقة تؤكد ضمان حرية الأديان في البلدان الديمقراطية وغيابها في الدول الإسلامية ما لم يكن الدين هو دين الدولة. ويا للمفارقة، ففي الوقت الذي ينكر هؤلاء النظام الديمقراطي على شعوبهم نراهم يتهالكون على العيش في البلدان الديمقراطية العلمانية الغربية حيث يمارسون طقوسهم الدينية بكل حرية إضافة إلى ما يستفيدون من الغرب في المجالات الأخرى.
إن إلصاق تهمة (زواج المثليين) بالديمقراطيين العراقيين ظهر لأول مرة خلال عقد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002، عندما نشر عبدالباري عطوان في صحيفته (القدس العربي)، افتراءً ضد الأستاذ كنعان مكية، مدعياً أنه طرح حق زواج المثليين في الدستور العراق الجديد وأنه واجه معارضة شديدة من قبل الإسلاميين وصل إلى حد الضرب. طبعاً كان هذا الخبر افتراءً مفضوحاً ، الغرض منه تشويه سمعة الأستاذ مكية والديمقراطيين ومنح أنصار صدام حسين من الغوغائيين ذريعة للهجوم على المعارضة آنذاك. ولما هدد الأستاذ كنعان مكية الصحيفة بمقاضاتها أمام المحاكم البريطانية سارع عطوان ونشر نفياً للخبر واعتذر. إلا إن جوقة النظام واصلوا هجومهم على الديمقراطية بذات التهمة التي يرددها الإسلاميون اليوم في لجنة صياغة الدستور. الغرض من كل ذلك هو محاربة الديمقراطية وحقوق الإنسان وبالأخص حقوق المرأة، ومحاولة إلغائها في الدستور ولكن في هذه المرة باسم الإسلام والقيم والتقاليد العراقية.
هل يمكن إصلاح هذه المسودة؟
من نافلة القول أن كتابة الدستور تحتاج إلى خبراء اختصاصيين فطاحل في القانون ممن مارسوا المحاماة والقضاء وتدريس القانون وتبوأوا مناصب الأستاذية في الجامعات لسنوات عديدة، إضافة إلى تمكنهم من اللغة التي يكتبون بها. وليس بالضرورة أن يكون أعضاء اللجنة المكلفة بصياغة الدستور منتخبين من قبل الشعب أو يكونوا أعضاء في الجمعية الوطنية. أما اللجنة الحالية المكلفة بكتابة الدستور، ورغم أنها تضم 71 عضواً، إلا إن 25 منهم فقط يواظبون على الحضور بانتظام. (د.تمارا الجلبي، المصدر السابق). فالدستور يعتبر أبو القوانين، ولذلك يسمى ب(القانون الأساسي) لأنه يقرر مصير الأجيال اللاحقة وعليه يعتمد سن القوانين الأخرى، ومن الصعوبة إجراء تعديل عليه في المستقبل. وعليه يجب أن يصاغ من قبل خبراء في القانون وفي أجواء هادئة، يعطون متسعاً من الوقت وليصاغ بقوالب لفضية رصينة ومحبوكة بلغة متماسكة بلاغياً. أما "المسودة" التي بين أيدينا فهي خلطة غير متجانسة فكرياً وركيكة لغوياً، وكما وصفها الصديق الدكتور سيار الجميل في إيلاف، 30/7/2005. (كسيحة.. لا يمكن لها أن تغدو دستورا للعراق مهما جرى عليها من تصويبات!).
كذلك من الصعوبة إصدار دستور تقدمي وديمقراطي بهذه العجالة، وكما جاء في تقرير صحيفة النيويورك تايمز: "إن فرض ضغوط خارجية وخاصة من قبل واشنطن لتقديم الدستور إلى الجمعية الوطنية يوم 15 آب الجاري أقل أهمية من كتابة دستور ناضج يدافع عن حقوق العراقيين ويسمح لهم أن يعيشوا سوية بسلام." لذلك أقترح تمديد فترة كتابة الدستور لمدة شهر واحد على الأقل، ليتسنى لأعضاء اللجنة إعادة كتابته، مستفيدين من المقالات والانتقادات التي وجهها المثقفون الديمقراطيون، العراقيون والعرب، بهذا الخصوص.
كما وليس من المهم أن يذهب الدستور في تفاصيل مطولة حول حقوق الإنسان وحقوق المرأة والأسرة والطفولة...الخ، إذ يكفي الإشارة بهذا الخصوص إلى المواثيق الدولية الصادرة من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى والاعتراف بها وإلزام الدولة بالعمل بموجبها واعتبارها كملاحق للدستور. كما ويمكن إصدار قوانين لاحقة فيما يتعلق بكل مجال من هذه الحقوق.