الخطأ والحكمة: الماضي والأفكار!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الأفكار التي تأتي من الماضي ليست كسواها، ليست كالتي تأتي من الحاضر ومفاجآت الحاضر. ولا هي كالأفكار التي تأتي من تأمل المستقبل أو توقع ما سيأتي من المستقبل.
الأفكار الراسخة في الذاكرة هي في الغالب أفكار قابلة للإستعادة، جاهزة ومعروفة، قوية لا تستهلكها الإستعادات. ربما يتغير الموقف من بعضها إذا تطور الوعي بـها نوعياً، أي إذا تم تفكيك الظواهر التي تم تشكيل تلك الأفكار حولها، لكنها تظل واضحة محددة من حيث الجوهر. وحتى لو بقي لبعضها مجرد آثار فهي لا تخلو من تأثير على سلوك المرء وتصوراته.
تسقط من الذاكرة كل الأفكار المحايدة. وهي بالتأكيد غير المباديء المحايدة، فالظواهر والأحداث التي نشكل عنها أفكاراً محايدة، تأتي وتذهب يومياً، لكن ما يبقى في الذاكرة هي الأفكار المنحازة مع الذات أو ضدها مع الآخر أو ضده.
الأفكار التي تأتي من الذاكرة، بل التي تشكل الذاكرة ذاتها، هي إما تدعو للعبرة والتأمل لأهميتها، أو تقترن بالبهجة أو الألم وربما الخجل، الخجل من خطيئة أو خطأ أو أي تصرف كان يمكن تداركه لكنه قد حدث بطريقة كان يجب أن لا يحدث بها، أو كان يمكن أن يحدث بطريقة أقل وطأة.
ثمة حكمة تقول: (الزمن يُنسيك حتى العار). هي حكمة على كل حال. لكن تأملها يجعلها تبدو وكأنها تواطؤ مع الذات أو تبرير لعثراتها، تبرير لا بد منه لأنه ليس من المنصف أيضاً إثقال الذات بالشعور بالذنب، رغم أن الذاكرة تظل متأثرة به ويظل يؤثر عليها ولو من بعيد، حيث لا تكاد ذاكرة تخلو من العثرات أو الندوب.
(الزمن يُنسيك حتى العار) حكمة تبدو وكأن لها إغراءً استثنائياً يجعلنا نتجنب أي تفسير يفقدها مصداقيتها، بل وربما اعتبرها بعضنا متكأً . ومبعث ذلك هو أن الإنسان لا يستطيع دائماً أن يتحكم بالظروف والعوامل التي تجبره في لحظة معينة على التصرف بهذا الشكل دون ذاك. أي تجد نفسه (مجبراً) على ارتكاب خطأ ما. فهو لا يجد نفسه في بعض الأحيان أمام خيارات عديدة، وحين يخطأ ويندم لاحقاً يصبح ندمه أكبر من قدرته على التفكير بوطأة الظروف. لأن عواقب الخطأ لا بد من تحملها، إذا لم يكن أمام الآخر ضحية الخطأ فأمام الذات. وبعد دفع الثمن يصبح النسيان أو التناسي ممكناً، لا سيما وأن استمرار الحياة وتراكم أحداثها اليومية ومستجداتها تبعد الإنسان عن الماضي باستمرار، ومن هنا درجت هذه الحكمة وأصبحت واقعاً.
ان الذاكرة لا تصبح جلاداً إلا عند الذين لا يرعوون، مرتكبين الخطأ تلو الآخر، وهم في هذه الحالة يتحولون إلى شخصيات يُثقلها الشعور بالأثم الذي يجعل الإنسان مرتبكاً وانطوائياً، أو منقلباً على الأعراف والقيم الإنسانية، بحيث يتحول إلى مؤدلج أو مبرمج لكل ما هو سيء ورديء وكأنه أمر لا بد منه!
لكن، وبالتأكيد، ليست هذه هي كل مهمة الذاكرة. فهي أكبر وأوسع، هي عالم فسيح خفي يحمله الإنسان دون أن يشعر بثقله أو ما يتحرك في داخله أو متى تنبعث هذه الإشارة أو تلك. فالذاكرة هي حاملة جماليات الأماكن تلك التي فتنت الإنسان بدءاً من الطفولة، وتلك اللحظات الشعورية النادرة التي مر بها المرء ذات يوم، والذاكرة هي الطريق الذي يأخذك في دروب الماضي إلى محطات كنت تتصور إنها اندثرت، تعبر بك فجأة عشرات السنين إلى وجوه كنت تظن أنها اختفت مع الأيام ... وكل هذه تنطوي على صور وأحداث هذه الصور والأحداث هي التي تشكل الأفكار عبر موقفك منها.
إن الماضي أو أفكار الذاكرة كثيراً ما تترك آثارها على ملامح وجه الإنسان وعلى طريقة تصرفه، حتى ليمكن القول أن الإنسان إبن ذاكرته .. فالماضي هو الصديق الغريب الذي لا فكاك منه، وأيضاً الذي لا غنى عنه !! فهو ربما كان ملجأ أو شجرة وارفة تحمينا من هجير العمر وهشاشته!
من أجواء الذاكرة وأفكارها ورنين الأيام في وديانها يتشكل الخيال، وبالتالي نوعية وهيئة المتخيل، هي لذلك المدى الأساسي الذي يتشكل تحت تأثيره النص الأدبي واللوحة وإيقاهما وظلالهما، بل أن النص واللوحة والعمل الموسيقي تبدو وكأنها نتاج مواجهة الماضي أو إعادة ترتيب لمكونات الذاكرة أو بشكل أدق لألم الذاكرة أو بـهجتها. هي إعادة ترتيب تجريدي في منحى وحسي في منحى آخر، ربما تداخل فيها الوهم بالحقيقة! ليتم لاحقاً إبتكار عالم جديد كمعادل موضوعي للتجربة، هو توهج ونضارة تلك اللحظات الهاربة ولكن المنـتظرة في أعماق الذاكرة، لأن الماضي لا يمضي بل يظل يأتي مع الأيام أبداً ..