كتَّاب إيلاف

الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ورقة قدمها الكاتب إلى مؤتمر الدولة المدنية ضمن سلسلة مؤتمرات دعم الديمقراطية في العراق التي عُقدت في لندن خلال الفترة 24-31 يوليو/تموز 2005 والمنظمة من قبل لجنة دعم الديمقراطية

يقول جون لوك: "سلامة الشعب هي السنّة العليا، مبدأ عادل أساسي لا يضِّل مَن أخذ به بأمانة قط". ويجب أن تهدف "القوانين إلى غرض واحد أخير، هو خير الشعب ... ولا يحق للسلطة التشريعية ولا ينبغي لها أن تُسَلم صلاحية وضع القوانين لأية هيئة أخرى أو تضعها في غير الموضع الذي وضعها الشعب فيه قط". (في الحكم المدني، ص 235 وص225).
من هذا المنطلق تكون مهمة الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية الدستورية المحافظة على كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والجنس والفكر . فهي تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها دولةَ مواطنة، تقوم على قاعدة ديمقراطية هي المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات. وعليه فالمواطنون لهم حقوق يتمتعون بها، مقابل واجباتٍ يؤدونها. وهذه المواطنة لصيقةٌ كليا بالدولة المدنية، فلا دولة مدنية بدون مواطنة، ولا مواطنة بدون دولة مدنية. وعليه فالمواطنة لا تتحقق إلا في دولة مدنية ديمقراطية تعددية دستورية تصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن بها في إطار الدستور الذي أقره الشعب. وهذا الدستور يحترم كافة حقوق المواطن بشكل يوفر له العيش الكريم. فإذا كان للمواطن هذه المساواة في الحقوق التي يضمنها الدستور، فذلك يعني إنعدام التمييز بين المواطنين بسبب قوميتهم، كبيرة كانت أو صغيرة، أو جنسهم رجالا كانوا أو نساء، أو مركزهم الاجتماعي أغنياء كانوا أو فقراء، أو دورهم السياسي رؤساء كانوا أو مرؤوسين، أو فكرهم يساريين كانوا أو يمينيين، أو عقيدتهم أو مذاهبهم مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهود أو مندائين أو أيزيديين. إذن العلاقة بين الدولة المدنية والمواطنة أساس بناء المؤسسات المدنية الديمقراطية، وأساس هذه العلاقة هي الحقوق والواجبات بحرية، وحماية مصالح المواطنين التي تعتبر نواة مصالح المجتمع والدولة. فبدون حرية لايمكن صيانة حقوق المواطنين، وبدون حرية لايمكن للمواطنين القيام بواجباتهم تجاه الدولة. فالتفاهم والاحترام يؤديان إلى الالتزام من قبل المواطن تجاه الدولة، ويؤديان إلى حماية الدولة لحقوق المواطن. ومن هنا تتعمق قوة الإرادة الوطنية لتحقيق الاستقرار والسلام والازدهار في الداخل، والوقوف صفا واحدا ضد العدوان من الخارج.

كيف تنجح الدولة المدنية في كسب ثقة المواطن؟
الجواب هو ضرورة تأكيد المواطنة في دستور الدولة المدنية، لحماية هذه المواطنة ومتطلباتها وتفعيلها في الممارسة العملية وليس مجرد قاعدة قانونية. فديمومة المواطنة والمشاعر الوطنية المخلصة تجاه الدولة تتعمق في ديمومة الدولة المدنية ليس فقط في الحرية السياسية وإنما في الديمقراطية الليبرالية، لأن المواطنة لا تتحقق في الدولة الدكتاتورية أو الدولة الاستبدادية التي قاعدتها القمع والإرهاب بدلا من المواطنة، حتى وإن وُجِدت الحرية السياسية، طالما أن تلك الحرية تنسف المواطنة وتُلغي دور المواطن في بناء المؤسسات الديمقراطية المدنية. كما لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية، لأن العقيدة، أية عقيدة كانت لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في المجتمع المدني. هنا نتساءل:

ما الفرق بين الدولة العلمانية والدولة الدينية؟
العلمانية تسمح بممارسة المواطنين لعقائدهم بحرية وبدون تمييز وبنفس الشروط على أساس حق الجميع في المواطنة بالتساوي. بينما الدولة الدينية تلغي حقوق المواطنين ولا سيما الأقلية غير المسلمة من حرية التعبير إذا تعارضت مع حكم السلطان وبذلك تنتهك قاعدة المواطنة بالتساوي، على أساس أن الاسلام في حالة العراق هو المصدر الأساسي (بصياغة المُعَرف–الألف واللام) للدستور مما ينسف حقوق غير المسلمين بالرجوع إلى مصادرهم التشريعية رسميا. الأهم من ذلك أن الدولة الدينية ترفض الحكم على أساس المجلس النيابي لأن الشعب ليس مصدر السلطات، إنما الشرع الديني والحاكم الممثل لهذا الشرع، وبذلك ليس للشعب دور في الحكم.
العلمانية تفصل السياسة عن الدين ولا تتناقض مع الدين وحق المواطنين في ممارسة عقائدهم بمنهى الحرية. بينما تكَفر الدولة الدينية فصل السياسة عن الدين، والتكفير سلاح قوي لإدانة كل مواطن يعارض النظام، لأن المعارضة في الدولة الدينية ممنوعة باعتبارها مخالفة لشرع الله على حد زعمهم. في حين أن المعارضة واجبة وضرورية في الدولة العلمانية الديمقراطية الليبرالية الدستورية التي تؤمن بالتعددية كحالة صحية. إذن ترفض الدولة الدينية الاحزاب السياسية المعارضة لأنها تلغي المرجعية المذهبية القابضة على السلطة، ولذلك ومن أجل قبول أحزاب سياسية أخرى يجب أن ترجع تلك الأحزاب إلى المرجعية الدينية أو المذهبية، ولا تتعارض معها. ومن هذا المنطلق تلغي الدولة الدينية الحرية في التعبير ولاسيما حرية العقيدة بالمفهوم الديمقراطي وليس بمفهوم العبادة في دور العبادة مجردة من حقوق المواطنة والحريات العامة. ومن هنا نجد أن الدولة الدينية تتمتع بالسطوة الدينية والسياسية بربط الدين بالسياسة، وجعلْ الدستور سلاحا لضرب الشعب بينما الدولة الديمقراطية العلمانية الليبرالية الدستورية تجعل االشعب صانع الدستور ليحميه من الظلم، ويحمي حقوقه وواجباته. وعليه فشرعية الدولة المدنية الليبرالية تكمن في حكم الشعب والدستور الذي أقره. بينما تكمن شرعية الدولة الدينية في حكم رجال الدين وحكم شريعة دينية معينة. الإشكالية تكون أكبر إذا انحصر الحكم في عقلية مذهبية، ولا سيما في حالة تدخل مراجع دينية غير منتخبة من قبل الشعب في السياسة. وبذلك تتحول الديمقراطية إلى وسيلة لإجراء الانتخابات وسيطرة المذهبية على السلطة لضرب الديمقراطية بسلاح الديمقراطية. فهتلر فاز في الانتخابات الألمانية وألغى الديمقراطية عمليا بسلاح الديمقراطية. وهذا يقودنا إلى التساؤل:

ما الفرق بين الديمقراطية المجردة عن الليبرالية والديمقراطية الليبرالية؟
يقول المفكر والكاتب الصحافي (فؤاد زكريا) في كتابه المترجم من اللغة الانكليزية (مستقبل الحرية)، أن الديمقراطية التي تنشأ دون دعائم الليبرالية السياسية تؤدي إلى الفاشية. وأطلق مصطلح "الديمقراطية المتعصبة" على الديمقراطية التي لا تقوم على أساس ليبرالي، مثل الصين وروسيا والهند. وأنه بدون الطبقة الوسطى من المثقفين والمفكرين المستقلين لا يمكن لليبرالية الدستورية أن تؤسس الديمقراطية الليبرالية. فالحكم على الحكومات يكون من خلال المؤسسات التي تنشأ في الواقع العملي وليس من خلال الانتخابات فقط. لأن الأغلبية والأقلية البرلمانية لاتشكلان ضمانا لحقوق المواطنين بدون دستور مدني يحدد سلطات الجانبين في إطار الحق الكامل للمواطنة. وحكم الأغلبية لا يعني حرمان الأقلية في صنع القرار، بل يجب مساهمة الأقلية أيضا في صنع القرار في حالة كالعراق وفي كل الدول الديمقراطية الليبرالية. وعليه فالديمقراطية التي تحكمها الأغلبية ولا تقوم على أساس ليبرالي تعرقل تحرر الأفراد والمجتمعات وتضيع حقوق الأقليات القومية والدينية. لأن الديمقراطية الليبرالية تتطلب بناء المؤسسات الدستورية والقضائية المستقلة قبل إجراء الانتخابات. وأساس الديمقراطية الليبرالية هي الفصل بين السلطات واحترام الدستور والحريات العامة وحقوق الإنسان في المجتمع وعدم استبداد الأغلبية. فلا ديمقراطية بدون حرية المواطنين وحقوقهم الفردية وحرية العقيدة والتعبير عن الرأي والتعددية السياسية.
إذن السبيل إلى الدولة المدنية هي الديمقراطية الليبرالية والمؤسسات الدستورية والقضائية المستقلة وحقوق الأفراد وحقوق القوميات والعقائد. أما القول بالحريات السياسية والانتخابات دون ديمقراطية ليبرالية فليس إلا خداع وتضليل. وهذا يقودنا إلى السؤال الملح:

ما الفرق بين الحرية السياسية بمعزل عن الديمقراطية الليبرالية وبين الدولة المدنية الدستورية؟
لقد بحث المفكر العربي (شاكر النابلسي) هذا الموضوع في دراسة موثقة بعنوان "لماذا نادى البعثيون بالحرية السياسية وليس بالديمقراطية، وما هو الفرق بينهما؟" وأخذ العالم العربي ولا سيما العراق نموذجا. لذلك أقتبس منه بإيجاز ما أراه مفيدا لهذه الدراسة، وأقَسم الموضوع إلى قسمين، هما:

أولا: الحرية السياسية بمعزل عن الديمقراطية الليبرالية:
تتيح الحرية السياسية إقامة الأحزاب ونشر صحافتها وإجراء انتخابات بلدية وبرلمانية، ولكنها تربط هذه الآليات بعدم كشف عورات السلطة وتصرفاتها الخاطئة. لاتفرق هذه الأنظمة بين مهاجمة ونقد السلطة وبين مهاجمة ونقد الوطن. وتعتبر أن كلَّ هجوم على السلطة هو هجوم وإساءة للوطن. ومن هنا يعتبر كل منتقد للسلطة خائن للوطن ولا يستحق صفة المواطنة. لا تتوانى هذه الأنظمة عن تغيير مجالس إدارة هذه الصحافة من حين لآخر كلما شعرت بأن بعض الصحف لا تمتدح السلطة بما يُرضيها ولا تدافع عنهـا أمام خصومها ونُقادها. تُبقي هذه الأنظمة قوانين الطوارئ موضوعة رغم زوال الخطر الخارجي. ولكنها تعتبر أن الخطر الداخلي أكبر من الخطر الخارجي وأعظم شأناً. وأن الحرية السياسية المتاحة لا تعني أن لا تُغلِقَ صحفاً في أي وقت تشاء، وتُحلَّ حزباً في أي وقت تشاء، وتعتقل السياسيين والمفكرين والكتاب في أي وقت تشاء، وتُصادر ما يكتبون في أي وقت تشاء ودون إجراء قضائي. ولا تتوانى هذه الأنظمة في تزوير الانتخابات البلدية والنيابية التي تَشرف عليها وزارة الداخلية (الشرطة والأمن) دون أن يستطيع أحد من المعارضة شكاية السلطة على هذا التزوير أو حتى إثباته. وتمنع هذه الأنظمة المعارضة السياسية من الاشتراك في الحكم وتحول بينها وبين الأغلبية في الانتخابات البلدية والبرلمانية حتى لا تقفز إلى كراسي الحكم في يوم من الأيام. فالديمقراطية في مجتمع الحرية السياسية بمعزل عن الليبرالية، ديمقراطية "إجراءات". بمعنى أن تتخذ السلطة قراراً نهائياً وتقدمه إلى المجالس التشريعية لا لأخذ الرأي فيه، ولكن للبصم عليه وتصديقه. رأس السلطة يختار رئيس الوزراء لا لأنه يُشكِّل الأغلبية، ولا لأنه من التكنوقراطيين المجيدين، ولا لأنه من ذوي الدراية الإدارية المتفوقة، ولا لأنه نظيف اليد والفَرْج، ولكن لحسابات عائلية معينة، وحسابات عشائرية معينة، أو لمصلحة شخصية، أو ترضية وتلبية لطلب جهة خارجية، أو لطلاقة لسانه في مواجهة الخصوم، أو ربما لخفة دمه وإجادته للنكتة المُفرِّجة، أو لاستلطاف شخصي.

ثانيا: الديمقراطية الليبرالية في الدولة المدنية الدستورية
تتيح الديمقراطية الليبرالية في العالم المتمدن الحرية التامة للأحزاب ولصحافة المعارضة في أن تقول ما تشاء شرط أن تلتزم الحقيقة والمنطق ومصلحة الوطن لا مصلحة السلطة الحاكمة فقط، وهو ما تعنيه باحترام القانون في بعض الأحيان. وهي تجيز للمعارضة انتقاد رأس السلطة وما السلطة ورأسها إلا مجرد موظفين في الدولة يتقاضون راتباً ويؤدون عملاً، ثم يذهبون. وتُفرِّق الأنظمة الديمقراطية الليبرالية بين مَن يحرُق علم الوطن ويحرق علم السلطة، ذلك أن السلطة دولة بين السياسيين. فمن كان اليوم في السلطة فغداً هو في المعارضة، ومن كان اليوم في المعارضة فهو غداً في السلطة. لا دخل للسلطة في النظام الديمقراطي في الصحافة أو الإعلام بشكل عام، ولا تملك منه شيئاً، وليس لديها السلطة لأن تشير عليه من قريب أو بعيد بماذا يقول وماذا لا يقول. ولا تتدخل في إدارته أو في جهـاز تحريره. وتُعتَبر الإعلام مُلكية خاصة لا يجوز لأحد غير مالكيه أن يتدخل فيه، شرط الالتزام بالحقيقة والمعلومة الصحيحة. لا قوانين طوارئ في دول الديمقراطية الليبرالية، ولا أحكام عرفية فيها إلا في حالة الحرب الحقيقية أو التهديد الحقيقي الخارجي. وتُرفع هذه القوانين بمجرد زوال الخطر الخارجي. والحرية الديمقراطية الليبرالية لا تُغلِق صحفاً، ولا تحلّ حزباً ولا تعتقل كاتباً أو مفكراً ولا تُصادر قلماً إلا بأمر قضائي نزيه وفي حالات محصورة ومحدودة جداً، تهدد الأمن القومي، وتنذر بالخطر على الوطن لا على السلطة. لا تزوير في انتخابات الدولة الديمقراطية الليبرالية. والانتخابات هنا تنظمها وتديرها وتشرف عليها وزارة العدل لا وزارة الداخلية. ومن يرى أن هناك رائحة تزوير في الانتخابات فله أن يرفع ضد وزارة العدل شكوى رسمية. ويتولىّ الإعلام في مثل هذه الدولة أمر هذه الفضيحة ويقوم بالتحقيق فيها. تمنح الديمقراطية الليبرالية الحقوق السياسية كاملة غير المنقوصة، مثلُها مثَلُ الحزب الحاكم. لأنها اليوم معارضة، وغداً هي السلطة على كرسي الحكم. الديمقراطية الليبرالية ديمقراطية "قرارات" وليست ديمقراطية "إجراءات". رأس السلطة في الدولة الديمقراطية الليبرالية يختار رئيس الوزراء الذي يُشكِّل حزبه الأغلبية في البرلمان، ويكون عادة من أهل الخبرة السياسية الطويلة، ومن ذوي الباع الطويل في الإدارة الحكومية. ولا مجال إطلاقاً في هذا الاختيار للحسابات العائلية المعينة، كما لا مجال للصداقات الشخصية أو للاستلطاف الشخصي أو عدمه. وربما يكون بين رأس السلطة ورئيس الوزراء اختلاف واضح في الرأي والنهج والأسلوب في إدارة الحكم.

دور المرأة وحقوقُها
فقدت آلاف النساء العراقيات حقوقهن الإنسانية الأساسية لا لشيء سوى أنهن نساء، وتعرضن للاغتصاب أوالتعذيب أوالضرب في الظروف القاسية التي مر بها الوطن، والجُناة في مأمن من أي عقاب. وقد أصبحت المرأة أحيانا كالسلعة في أعمال الدعارة دون أن يتعرض المتجرين بهن للحساب. هذا إضافة إلى التمييز الفاحش بين الرجل والمرأة في الإعالة والميراث والتعليم والعمل والأجور والمشاركة السياسية والزواج برجال لا يرغبن في الزواج بهم أو ممارسة الجنس معهن دون إرادتهن.
لايمكن بناء الدولة المدنية الدستورية بدون حرية لجميع المواطنين بغض النظر عن الجنس، ومنها حرية المرأة ومساواتِها مع الرجل وضرورة حماية حقوة المرأة قانونيا، ولاسيما قانون الأحوال الشخصية بدون تمييز وعدم انتزاع سلطتها القانونية في إختيار شريكة حياتها ومشاركتها في الحياة العامة ولاسيما في السلطة والإعالة والتربية والتعليم والعمل ومساواتها مع الرجل في حقوق الميراث والطلاق والزواج. إذن حقوق المرأة هي حقوق الشعب كله، لذلك فصيانة حقوق المرأة من واجب كل مواطن عراقي، وهذا الواجب يتعزز من خلال توعية الرأي العام بمشاركة المواطنين والمنظمات الشعبية في هذه التوعية.

الحقوق العامة للأطفال
في الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية الدستورية لا يصبح الانتماء العرقي والديني والقومي والثقافي والآيديولوجي للأطفال والمربين عقبة أمام تمتع الأطفال بحقوقهم الأساسية في التمتع بحياة سعيدة وآمنة ومقياس من الرفاه، لذلك نرى أن الحكومة تخصص إعاناتٍ محددة لكل طفل غنيا كان فقيرا. فحق المواطنة عمود فقري للدولة المدنية وهذا الحق يشمل الأطفال أيضا باعتبارهم جيل المستقبل والبناء. لذلك تكون أرواحهم وأجسادهم مصانة ومحمية من أي تجاوز عليها وهذه الحماية تكون من مسؤولية المجتمع. فالدولة المدنية الدستورية تمنع حبس الأطفال أوتعذيبهم أو استعبادهم أو استخدامهم لأعمال السخرة أو إعدامهم. كما يعتبر الاستغلال الجنسي جريمة جنائية كبرى.

الثقافة ودور المثقف
هناك عدد كبير من المثقفين العراقيين في العراق وفي الشتات تعرضوا لكثير من البؤس والشقاء. وهدرت طاقاتهم بسبب الخوف والتنكيل وفقدان الحرية. وهؤلاء يجب أن يساهموا مساهمة فعالة في بناء مؤسسات الدولة المدنية لأنهم قادة الفكر والرأي. فكل مثقف يعي مسؤوليته تجاه المجتمع يجب أن يكون حرا وعضوا فعالا كامل النمو في المجتمع المدني المبني على مؤسسات دستورية مستقلة. ولاتوجد حدود عشائرية أو مذهبية بين هذه النخبة التي تنبغي أن تقبل الرأي الآخر. وكل فكر يرفض الآخر هو ضد الإنسانية قطعا. فأغلب المثقفين الذين تركوا العراق كان بسبب الخوف من الملاحقة والسجن والموت، وبسبب عدم قدرتهم التعبير عن آرائهم وبلورة أفكارهم في خدمة المجتمع. ولذلك يجب أن تتخذ الإجراءات الضرورية لحماية المثقين من البؤس، وتُسن قوانين لحمايتهم من الملاحقة والإكراه. فهم أداة توحيد الوطن والتعايش السلمي المشترك الذي يتجاوز الطائفة والدين والعرق للإنفتاح على الثقافة الديمقراطية والسلمية. فالمثقف والأديب والكاتب والأكاديمي والعالم والباحث والفنان والشاعر لم يقطعوا علاقاتِهم بالمجتمع، بل كانوا على إتصال دائم بوطنهم وشعبهم، بأفكارهم وإنتاجاتهم في الداخل وفي الغربة. وكلهم يحلمون بالعودة، ويحلمون أن يأخذوا أماكنهم في المجتمع. إذن يجب توفير المستلزمات الضرورية في مساهمة المثقفين في تطوير وعي الناس بالحرية والديمقراطية وتعميق المشاعر الوطنية ووحدة الوطن. وعليه يجب الإحساس بالإنتماء إلى الشعب العراقي، وتقَبُل هذا الفسيفساء العراقي بكل أطيافه وتوجهاته، من خلال إعطاء دور لقادة الفكر في التوعية الوطنية بعيدا عن التبريرات الطائفية والحزبية والعرقية على أساس تمتع الجميع بحقوقهم على قدم المساواة وبعدالة من أجل تقوية الهوية الوطنية الديمقراطية العراقية.

وختاما أوجز بعض مكونات الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية الدستورية
الدولة المدنية الدستورية لا تكون إلاّ في أجواء الديمقراطية الليبرالية والحرية والعلمانية. فهي ليست تعبيرا عن إرادة وراثية أو عشائرية أو سلطوية فردية أو حزبية أو مذهبية، إنما تعبير عن إرادة الشعب صانع الدستور. وما السلطات التشريعية والتنفيدية والقضائية إلاّ تعبيرا عن إرادة الشعب وممثلا عن صوته. فالدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية الدستورية عملية ديناميكية تحمي حقوق مواطنيها وتمنحهم الحريات العامة فردية وجماعية بعيدة عن حالة الطواريء وعبادة الشخصية. وتنظم الحياة طبقا للدستور الذي أقره الشعب ليعبر عن شخصيته وكرامته. لذلك لا تتكون هذه الدولة في أجواء القهر والعبودية والاستبداد والدكتاتورية والعشائرية لأنها متلازمة مع الديمقراطية والحرية والليبرالية والعلمانية. وعليه فإن هذه الدولة هي دولة الشعب، ومشروع مدني تنموي تطوري ثقافي فكري سياسي اجتماعي اقتصادي تسعى لتحقيق الاستقرار والسلام وضمان أمن المواطنين وحقوقهم. فلا حرية بدون ضمان أمن المواطين.
وهنا أشير إلى بعض مكونات هذه الدولة المدنية التي تنبغي أن يتضمنها الدستور الديمقراطي العراقي:
- الشعب مصدر التشريع والدولة المدنية يحكمها الدستور الذي أقره الشعب. والدستور ينظم هذه السلطات فلا سلطة فوق الدستور ، ولا قرار يقيد حرية المواطن وحقوقه التي تحددها الدستور الدائم سواء كان القرار من مرجعية دينية أو عشائرية أو سياسية أو إجتماعية أو اقتصادية أو ما شابه.
- الفصل بين السلطات واستقلال السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية.
- حرية الصحافة والأحزاب والنقابات والجمعيات الرسمية والأهلية وصيانة حقوقها وحريتها في العمل.
- الديموقراطية تقوم علي التعددية السياسية والثقافية والدينية، وهذا يتطلب تعميق مفهوم الوحدة الوطنية ووضع الخطط اللازمة بتحقيقها على أساس الولاء الوطني وليس الديني أو الحزبي أو الشعائري.
- الحكم للشعب عبر مؤسساته الديمقراطية المنتخبة من سياسية وعسكرية وأمنية مما يتطلب حل كافة الميليشيات مع مرور الزمن ومنع مراكز الضغط الاستبدادي التي تنسف دَور المؤسسات المدنية بموجب الدستور الذي أقره الشعب.
- الإعتراف بالحقوق الوطنية والقومية والفردية لكافة قطاعات الشعب، وضمان ممارستها بشكل لا تشعر قومية معينة أو أقلية قومية أو دينية بالغبن والاضطهاد.
- حقوق الإنسان العمود الفقري للحرية، والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصيانة هذه الحقوق قانونيا، وضمان حقوق الأسرة والأمومة والطفولة وحمايتها ومعاقبة الجناة الذين يعتدون على المرأة بالضرب والإغتصاب والقتل.
- الحقوق العامة للطفل وحمايتها ولا سيما وقت الحرب، ومنع حبس الأطفال وتعذيبهم وإعدامهم.
- تنظيمات سياسية تمارس عملها السياسي طبقا للدستور الذي أقره الشعب وليس طبقا لقوانين السلطان الذي فرض نفسه على الشعب عن طريق القوة أو العقلية العشائرية أو الوراثية أو المذهبية.
- سلطات رئيس الدولة ورئيس الوزراء محددة طبقا للدستور.
- حرية تشكيل نقابات تدافع عن حقوق العمال والفلاحين والكتاب والصحفيين والطلبة والموظفين والعاطلين عن العمل طبقا للدستور.
- توفير العدالة لضحايا الجريمة وحمايتهم بموجب القانون، ومنحهم الحق باللجوء إلى المحاكم.
- عدم جواز ملاحقة المعارضين السياسيين والمواطنين بسبب معارضتهم وآرائهم وعقائدهم ودفاعهم عن حقوق الإنسان ومطالبتهم بالإصلاح.
- الزامية التعليم للمواطنين في المراحل الأولى من المدرسة، ودعم وحماية المؤسسات التعليمية وحرية البحث العلمي.
- حرية الحركات والمؤسسات الفكرية والثقافية والعلمية والاجتماعية والتربوية والخيرية الرسمية والشعبية، لتقوم بنشر الثقافة حول القضايا المصيرية لبلورة الوعي الوطني والأجتماعي لدى الجماهير.
وأخيرا نؤكد أن الدولة المدنية العلمانية الليبرالية الدستورية ليست شكلا مجردا إنما مضمونا يساهم في تقدم المجتمع بكل مكوناته وقومياته وأديانه. أما إذا تعطلت الديمقراطية حركة التطور والحرية وجردت المواطنين من حريتهم، والقومياتِ والأديان من حقوقها فإنها تتحول إلى سلاح لتعطيل المؤسسات المدنية.

الكاتب باحث وكاتب صحفي مستقل

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف