كتَّاب إيلاف

ما زلنا نتاجر بـالمظاهرات المليونية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كل ردود الأفعال التي عبرت عنها، النخب السياسية العراقية، بعد لحظات من وقوع كارثة جسر الكاظمية، لا يشتم منها سوى رائحة تجيير هذه المأساة لصالح الرصيد الشخصي لهذه النخب. كل جهة سياسية حاولت أن تبرأ نفسها، وتلقي اللوم على الجهة الأخرى. والمحصلة النهائية هي، المتاجرة بدماء العراقيين، وعذاباتهم.
وزير الصحة، عبد المطلب محمد علي من التيار الصدري، أراد أن يصفي حساباته مع زعماء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذين يكن لهم العداء، فطالب بأن يقدم وزير الداخلية استقالته، ولم ينس أن يطالب باستقالة وزير الدفاع، أيضا. وكأن وزير الصحة ليس عضوا في هذه الحكومة نفسها.
هيئة علماء المسلمين استغلت الفرصة لتنحي باللائمة على الإجراءات الأمنية المتخذة لمنع وقوع الهجمات الإرهابية. فقالت الهيئة: "إن الطرق المؤدية إلى الجسر تقريبا كلها مغلقة أو فيها كتل كونكريتية منعت من وصول الإمدادات إلى الجرحى بسرعة". أي، لو لم تكن هذه الكتل الكونكريتية موجودة، لما قتل هذا العدد. ولم تسأل الهيئة نفسها: لماذا وضعت هذه الكتل، وبوجه من وضعت.
الرابطة العراقية، المقربة من "المقاومة العراقية"، ألقت اللوم، كعادتها، على القوات الاميركية، قائلة: " لن نستغرب أن يكون للاحتلال وأعوانه يد في إطلاق قذائف الهاون على بعض المراقد المقدسة صباح هذا اليوم لإيهام الشارع أن العداء الطائفي واقع لا محالة". هكذا، كأن قوات الاحتلال تفكر بنفس الطرق العراقية البليدة، ولا تنفذ ما تريد من أغراض إلا بهذا المشهد الاستعراضي المقزز الذي ينفر من حولها الجميع؟
أما المجلس الأعلى للثورة الإسلامية فقد قال على لسان السيد عمار الحكيم أن "مسؤولية ما حدث تقع على عاتق الإرهابيين والصداميين والمتطرفين". كأن السيد الحكيم قد جاء بأمر جديد.
ومثله ذكر السيد جواد قنديل عضو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بأنه "لا يستبعد أن تكون الأعمال التخريبية هي السبب".
إما السيد رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري فقد "لخبط" الأمور بالكامل عندما صرح بعد وقوع المأساة، قائلا: " إنه منذ أحداث النجف السابقة لحادث اليوم كان يقول بضرورة الوحدة والتضامن لقطع الطريق على الذين يريدون ببلدنا السوء وانه من هنا يشكر روح الانضباط العالية التي تحلى بها البدريون والصدريون. وإنهم على وعي كاف".
ولم نعرف ما علاقة صراع البدريين والصدريين بمأساة جسر الكاظمية.
لا نعرف، حقا. وعلى رئيس الوزراء أن يفسر لنا ما قاله، فهو كلام خطير.
وهكذا، ضاعت دماء المئات من العراقيين بين الكتل الكونكريتية، والمطالبة باستقالة وزير الداخلية، وقوات الاحتلال، والصداميين المتطرفين، والصراع بين البدريين والصدريين.
وهكذا، أيضا، اختفى المسؤول الحقيقي عن هذه المجزرة البشرية.

فمن هذا المسؤول؟
المسؤول عن هذه الكارثة، وقبلها كارثة الكاظمية الأولى، وقبلهما مأساة كربلاء والحلة هو، التفكير السياسي العراقي التقليدي البائد، والذي ما يزال سائدا حتى الآن.
المسؤول هو، العقلية العراقية السياسية التي لم تغير ذرة واحدة في نمط تفكيرها، والتي ما تزال تستغل ملايين البشر وتوظفهم لأهداف أنانية، تخصها وحدها، وليست لها علاقة بالمصالح الحقيقية للناس: كل جماعة تريد إظهار قوتها أمام "الخصم"، والإيحاء لهذا الخصم أنها تملك قوة أكثر منه، وأنها وحدها قادرة على تعبئة الجماهير، وهذه الجماهير لا تسير ولا تتصرف إلا بمشيئتها.
وليس هناك أسهل، هذه الأيام، من استغلال المناسبات الدينية.
وألا، ألا تعرف القوى العراقية الحاكمة الآن، أن هناك مخاطر حقيقية كبرى تتربص بالناس، وأن هناك قوى إرهابية مستعدة أتم الاستعداد على استغلال أي مناسبة جماهيرية لكي تسجل "إنتصارت" ؟
ألا يعرف هولاء الذين يشجعون الناس ويحرضونهم أن يشاركوا بالملايين في المناسبات الدينية، بأن هناك قوى شريرة تتربصهم في أول منعطف، لتقطع أوصالهم؟
فلماذا لا يصار إلى منع إقامة الشعائر الدينية، على الأقل في هذه الظروف العصيبة التي تحولت فيها شوارع العراق وساحاته العامة إلى ثكنات عسكرية، تتواجد في داخلها أخس الأسلحة وتطبق فيها أقذر الأساليب ؟
متى يتعظ هولاء الذين يدفعون هذه الحشود البشرية، إلى التجمع في المناسبات الدينية، من الحوادث الرهيبة المتكررة، التي حصدت حتى الآن أرواح المئات؟
هل سيكف هولاء الزعماء المأخوذون، دائما وأبدا، باستعراض قوتهم بواسطة الاستعراضات الجماهيرية، عن ممارسة هذا التفكير الأناني، ويساهمون في حقن دماء الآلاف من أرواح بسطاء الناس؟
هل يبادر هولاء الزعماء، ويتدخلون لدى المراجع الدينية لإصدار فتوى تحرم، أو على الأقل، تجمد إلى آجل قادم، هذه المسيرات الحاشدة التي تقع في بعض المناسبات الدينية؟
لا، لم ولن يفعلوا، حتى لو ستراق دماء الآلاف من العراقيين. وسيكون جوابهم جاهزا: من نحن حتى نقرر للناس ما يفعلون؟
لكنهم يعرفون جيدا أنهم قادرون. نعم، هم يعرفون جيدا أن فتوى واحدة تصدرها المراجع الدينية قادرة على ردع الناس، ومنعهم من المشاركة في هذه الحشود.
لكنهم، أيضا، يدركون أن هذه الفتوى لو صدرت ستحرمهم من مصادر قوتهم، وتجفف ينابيع القوة الجماهيرية، التي يوظفونها لصالح رصيدهم السياسي.
إنه نفس الهوس القديم بإقامة المظاهرات المليونية، الذي قاد العراق إلى خراب شامل، وسيقوده، إن استمر إلى خراب أشمل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف