هل ستصبح الفيدرالية العراقية نموذجاً عربياً يُحتذى؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
-1-
النظام الفيدرالي
- فيما لو طُبق تطبيقاً كاملاً وسليماً في العراق - سوف يحلّ الكثير من مشاكل العراق المتعدد والمتنوع، حيث أن الفيدرالية تعني في أصلها (المعاهدة والاتفاق)، كما يدلُّ عليه المصطلح اللاتيني Foedus . وتأثير "الحالة العراقية" على العالم العربي لن يكون فقط من خلال الفيدرالية التي تطالب بها معظم أطياف الشعب العراقي منذ تكوين الدولة العراقية عام 1921 إلى الآن. ولكن هذا التأثير سوف يكون بسلبياته وايجابياته كبيراً على مستقبل العالم العربي الذي أصبح منذ فجر التاسع من نيسان 2003 في عين عاصفة العولمة، وفي عين عاصفة الحداثة، وفي عين عاصفة الارهاب كذلك. فما فعلته حملة نابليون على مصر 1798 من نتائج كان لها الأثر الكبير ليس في مصر وحدها ولكن في العالم العربي كله، كذلك فإن حملة "قوات التحالف" على العراق، لن تكون نتائجها قاصرة على العراق وحده ولكنها ستتعداه إلى كافة أنحاء العالم العربي. ولقد رأينا كيف أن العالم العربي خلال العامين الماضيين 2003/2004 وكذلك خلال هذا العام 2005 ، كيف تغير سياسياً واقتصادياً ، وكذلك اجتماعياً. فالانتخابات التي كانت مؤجلة لأعوام أُقيمت (الأردن والبحرين والسعودية ). والجيوش التي كانت تحتل بلداً ما منذ سنوات طويلة انسحبت (سوريا ولبنان). والمعارضة التي كانت مقموعة ومُزدراة ومطاردة احتُرمت واستُمعت خطاباتها (سوريا، السعودية، مصر، المغرب). والدساتير التي كانت غائبة أُحضرت (قطر). وحقوق المرأة السياسية التي كانت محرومة منها أُقرّت (الكويت). والقوانين التي كانت تحظر ترشح المنافسين ضد رئيس الجمهورية عُدلت (مصر). وهامش الحرية وإبداء الرأي الذي كان عرضه عرض قشة المكنسة أو خيط الحرير، أصبح عرضه عرض ساق شجرة أو حبل سفينة. ومطالبو الاصلاح السياسي الذين كان يُزجُّ بهم في السجون بمجرد التنفس بهواء الاصلاح، أصبحوا يُستقبلون بالاحضان، وتُقام لهم الولائم والمؤتمرات، ويسمع صوتهم عالياً القاصي والداني. . الخ.
-2-
ولو قُيّض للفدرالية العراقية أن تتم وتقوم على الوجه الأكمل، فسيكون أثرها سياسياً على العالم العربي كبيراً. وسوف تكون نموذجاً يحتذى في بلدان العالم العربي، ليس على المدى القريب ولكن على المدى البعيد، شرط أن تنجح هذه التجربة في العراق وتثبت مع الزمن أنها تجربة سياسية ناجحة ونموذجاً يمكن أن يحتذى فيما لو توفرت لها الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي توفرت للعراق. فالفيدرالية ليست لباساً جاهزاً Ready Made يستطيع كل شعب أن يلبسه ويتخذه زياً سياسياً، ولكنه زي لا بُدَّ من تفصيله تفصيلاً خاصاً Custom Made عند الخيّاطين السياسيين، لكي يليق بمن سوف يلبسه غداً. فما سيصلح للعراق كزي سياسي، ربما لا يصلح لأي بلد عربي آخر. فالفيدرالية كالديمقراطية ليست زياً سياسياً موحداً كزي طلبة وطالبات المدارس، أو رجال الأمن والجيش. والفيدرالية ليست زياً سياسياً فقط، بقدر ما هي ذائقة اجتماعية وثقافية واقتصادية أيضاً. فالفيدرالي السياسي هو فيدرالي اجتماعي وثقافي واقتصادي ديمقراطي أيضاً. هو كُلٌ فيدرالي. ولا فيدرالية بدون ديمقراطية. ولنا من الدول الفيدرالية (25 دولة) في العالم التي تشكِّل 40 بالمائة من عدد سكان الأرض كأمريكا، وكندا، واستراليا، وألمانيا، وبلجيكا، والنمسا، وسويسرا، وغيرها المثال الواضح.
-3-
فما هي الآثار التي سيتركها نجاح الفيدرالية العراقية على العالم العربي؟
1- هناك من يجادل على أن الفيدرالية العراقية، فيما لو طبقت فلن تكون نموذجاً يحتذى في العالم العربي. فالمجتمع العراقي كما حلله عالم الاجتماعي العراقي علي الوردي (ابن خلدون العراق) نسيج اجتماعي وحده. وهو موزاييك، يتألف من تنوع عرقي وديني ولغوي كبير. فإلى جانب الشيعة والسُنّة الذين يشكلون الأغلبية فى البلاد، هناك الأكراد، والتركمان، والمسيحيون العرب، والإيرانيون والصابئة، والشركس، واليهود . وهذا التنوع قد أثرى الحياة العراقية الثقافية والاقتصادية، ولكنه لم يثرها سياسياً. والوردي يقول في محاضرة ألقاها عام 1950 ان الفرد العراقي فرد مزدوج الشخصية، وهذا مصدر التناقض والصراع في شخصية الفرد العراقي. وأن الفرد العراقي أكثر الناس هياماً بالمثل العليا، ولكنه أكثر الناس انحرافاً عن واقعه الاجتماعي. وأن الفرد العراقي فرد مجادل. والجدل طبع العراق بطابع مثالي بعيد عن الواقع، ولذا ظهرت هوة بين التفكير والممارسة. فالمفكرون يتجادلون بالأدلة العقلية والنقلية، والطوائف تتقاتل فيما بينها. وفي 1962 اعترف الوردي في محاضرة ألقاها في القاهرة (مهرجان ابن خلدون)، أن العراق أكثر من أي بلد عربي آخر يقف على حافة منبع فياض من البداوة. ولا بُدَّ لهذا المنبع أن يؤثر على سلوك الفرد والمجتمع العراقي الواقع بين القيم الاجتماعية المتناقضة: قيم البداوة، وقيم الحضارة، والتي ولّدت الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي في العراق حتى الآن. ويخلص الوردي إلى نتيجة عامة، وهي أن المجتمع العراقي متعدد الأثنيات والطوائف. وأن الاتصال بين الريف والمدينة اتصال قبلي ريفي وطائفي. وهو ما يؤثر على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويحدث خللاً ونشازاً اجتماعياً. وربما لن يجد العراق حلاً لكل هذا غير طريق الفيدرالية التي ربما لا تكون هي الطريق الأسلم لبعض البلدان العربية، البعيدة في نسيجها عن النسيج العراقي المتفرد.
2- موضوع الأقليات العرقية والدينية في العالم العربي، عبارة عن قنبلة موقوتة في معظم أنحاء العالم العربي. وسوف تنفجر هذه القنبلة انفجاراً سياسياً مدوياً وقاتلاًً، إذ لم نسارع يوماً قريباً إلى نزع فتيلها. وهذا هو ما يحصل في العراق في هذه الأيام ( انظر مقال الصحافي الأمريكي القتيل ستيفن فنسنت: "بعض المسكوت عنه في البصرة"، نيويورك تايمز، وكذلك كتابه "في المنطقة الحمراء : رحلة في روح العراق")، بعد أن تمَّ تغييب هذه الإشكالية أكثر من ثمانين عاماً (1921-2005). علماً بأن 95 بالمائة من البشرية تعيش في دول متعددة الثقافات. ولكن موضوع الأقليات في العالم العربي أُهمل زمناً طويلاً، وما زال مهملاً إلى الآن، ويترك آثاراً سلبية على الحياة السياسية والاجتماعية. وكأن "التطنيش" العربي المعهود للإشكاليات القائمة، هو الدواء الناجع لتناسي موضوع الأقليات الخطير، وخاصة في مصر (الأقباط، النوبيون، البربر، الغجر)، وسوريا (العلويون، الدروز،الاسماعيليون، المسيحيون غير العرب، الأكراد، الترك، الشركس)، ولبنان (الشيعة، الدروز، المسيحيون، المسيحيون غير العرب، الأكراد، الترك، العلويون)، والخليج (الشيعة، الأسيويون)، والمغرب العربي عموماً (البربر، الشيعة، الطوارق). بل لقد بلغ الأمر بمعاقبة كل من يثير موضوع الأقليات في العالم العربي، ويدعو إلى اعطائهم حقوقهم السياسية والاجتماعية كما حصل مع الناشط المصري سعد الدين ابراهيم صاحب كتاب (الملل والنحل والأعراق – هموم الأقليات في الوطن العربي، مركز ابن خلـدون ، 1994) الذي سُجن عدة سنوات، لتبنيه قضايا الأقباط في مصر والأقليات الأخرى في العالم العربي في كتابه. وقد أكد ابراهيم في هذا الكتاب من أن جميع الصراعات الدائرة في العالم منذ عام 1988، ربما باستثناء الغزو العراقي للكويت، دارت حول مسائل عرقية داخلية. وأن الوعي العالمي بالطبيعة المتفجرة للسياسات العرقية كان عاملاً معجلاً بصدور (إعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية وأثنية وإلى أقليات دينية ولغوية) من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي اعتمد في 18 /12 / 1992 (قرار 47/135). وغالباً ما تصرفت الأنظمة العربية برد فعل عنيف تجاه أية محاولة لإثارة مسألة الأقليات، الأمر الذي قاد إلى استخدام الغازات الكيماوية في حلبجة، واللجوء إلى حرب أهلية والنـزاعات الدموية المتواصلة في منطقة القبائل في الجزائر. وهذا السلوك العنيف يستبطن الضعف الموروث للدول العربية، وانعدام النضوج الوطني والديمقراطي فيها. ولهذا السبب ما زال يجري تأجيل مسائل الأقليات منذ نحو قرن من الآن كما يقول سمير التقي في ( العالم العربي وعودة مسألة الأقليات).
وفيما لو تم تطبيق الفيدرالية في العراق، وأتت هذه الفيدرالية أُكلها بالعافية على العراق ككل، فسوف تكون نموذجاً يُحتذى في عدة بلدان عربية تعاني طوائفها العرقية والدينية من العزل السياسي والاجتماعي والثقافي، كما كان الحال في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية 1921 . وهذا كله يعني أن الدولة العربية في كل مكان من العالم العربي مدعوة إلى حل مبكر وسريع وواقعي وعقلاني لمشكلة الأقليات واعطائها حقوقها السياسية والاجتماعية، قبل أن تتفاقم المشكلة كما تفاقمت في العراق الآن.
3- إن الفيدرالية العراقية فيما لو جرى تطبيقها في العراق، فهي لن تكون مفصولة عن تطبيق الاستحقاقات السياسية الأخرى، كإسقاط النظام الاستبدادي السائد، حيث لا ديكتاتوريات فردية أو طائفية مع الفيدرالية، وإقرار الدستور والتصويت عليه في استفتاء شعبي حر ونزيه، وانتخاب البرلمان ورئيس الجمهورية في انتخابات نزيهة وشفافة أيضاً، والاعتراف التطبيقي للتعددية، وفتح الطريق أمام مساواة الرجل والمرأة بالحقوق والواجبات، وفتح الطريق أمام الديمقراطية وحرية الرأي والإعلام. والفيدرالية هي وليدة كل هذه الخطوات. وليست هذه الخطوات هي وليدة الفيدرالية. ولكي يحقق أي قطر عربي الفيدرالية العراقية فيما لو طبقت ونجحت – فعليه أن يمر بكافة هذه المراحل التي مرَّ وسيمرُّ بها العراق. وهي خطوات واسعة وقاسية وتاريخية وجذرية، قلما يمكن لأي شعب عربي آخر أن يحذو حذوها، فيما لو علمنا أن هذه الخطوات قد اتخذت ضمن ظروف دولية واقليمية ومحلية بالغة الندرة والتعقيد في الوقت نفسه. فمن أين لشعب عربي ما، من فريق معارضة يستطيع الضحك على ذقن ادارة أمريكية ما ، لكي تحرك جيوشها وتدفع ملياراتها لمحاربة أوهام وأخيلة. ولكي تكتشف في نهاية الأمر، بأنها متورطة بحل مشكلة سياسية محلية لبلد ما، بعيداً عن المصالح الأمريكية، التي تستأهل كل هذه التضحيات التي تبذلها الآن أمريكا وبريطانيا في العراق.
4- إن الأخذ بالنموذج الديمقراطي العراقي – فيما لو تم تطبيقه على الوجه الأكمل – من قبل الأنظمة العربية الأخرى، سوف يساعد بالقطع على حل مشكلة الأقليات في بعض بلدان العالم العربي، دون اللجوء إلى اقامة فيدراليات عربية. فلا حل عادلاً لمشكلة الأقليات في الوطن العربي غير الطريق الديمقراطي الذي يعطي هذه الأقليات حقوقها السياسية والاجتماعية. ويضع جميع المواطنين على درجة واحدة من السلم السياسي والاجتماعي، لهم ما لهم من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات.